مناظر الدمار في غزة لا يكاد يشبهها في قسوتها وحقد المتسببين بها؛ إلا مناظر الدمار الشامل في الحرب العالمية الثانية حيث دمر المتقاتلون بعضهم بعضاً في معارك متكافئة تواجهت فيها أقوى الجيوش في تاريخ البشرية! بينما في غزة هناك جيش عنصري مدجج بأقوى أسلحة العصر يستأسد؛ أو يتمرجل بالعامية؛ على سكان مدنيين لا يملكون سلاحاً ولا يشاركون أصلاً في الحرب الدائرة لا من قريب ولا من بعيد! وعمليات قتل الأطفال والنساء والشيوخ على أيدي الصهاينة كانت أشد إجراماً مما روج له الصهاينة عما حدث سراً لليهود وغيرهم في معسكرات النازية؛ فجرائم الصهاينة في غزة تجري تحت كاميرات التصوير المحلية والعالمية.. وعلى الهواء مباشرة! والعالم كله من البيت الأبيض إلى مجلس الأمن إلى الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي يشاهدون أبشع مناظر يمكن تخيلها لأجساد أطفال ممزقة.. مفتوحة رؤوسهم كعلب الطعام المحفوظ.. مقطعة أطرافهم كالذبائح! وفي مقابل كل هذا الإجرام فهناك ظاهرتان تستحقان التعليق والتذكير بهما؛ الأولى تتعلق بردود فعل الحكومات الغربية والمجتمع الدولي.. والأخرى خاصة بموقف الصمود الأسطوري لعامة الفلسطينيين الذين دمرت منازلهم وقتل أهاليهم لدفعهم للانتفاض ضد المقاومة! وفي الحالتين فالعبر والدروس كثيرة ومليئة بالنبل والسمو .. وأخرى مغموسة بالنذالة والجبن صناعة النفاق العالمي! لا جديد في النفاق العالمي! علمتنا ستون عاماً وأكثر من مأساة الأمة في فلسطين: أن هذا العالم أو المجتمع الدولي مغموس في النفاق السياسي؛ أو للدقة في خدمة مصالحه وتحالفاته الشيطانية؛ رغم أنف كل المواثيق والعهود التي صاغوها عن حقوق الإنسان، ومبادىء القانون الدولي في الحرب والسلم.. وحقوق الأطفال والنساء والمدنيين.. إلخ الشعارات التي يطلقونها كل حين وآخر، ولا يلجأ إليها إلا الضعفاء أمثالنا كلما وضعوا سكاكينهم على أعناقنا، وقصفوا منازلنا، وقتلوا أطفالنا ونساءنا وشيوخنا! حينها فقط ترتفع الأصوات: أين القانون الدولي؟ أين حقوق الإنسان؟ أين الأممالمتحدة ومجلس الأمن؟ أما هم – أي واضعو ومؤلفو الشعارات- فالمعيار المهم في هذه المواثيق والعهود هو تحديد: من المعتدي؟ ومن الضحية؟ فإن كان المعتدي هم الصهاينة والضحايا هم العرب الفلسطينيون فالأمر ليس حنبلية كما يقال لدى العامة.. والجرائم يمكن أن تواجه بالنحنحة.. ولعل وعسى.. وربما وحيث إن.. وبالنصيحة الغبية أن يلتزم الجميع (بمن فيهم الضحايا) بالقانون الدولي وعدم الاعتداء على المدنيين دون تحديد اسم! ولا عزاء بعد ذلك للضحايا القتلى بعشرات المئات أو الجرحى بالآلاف أو تدمير المدن على رؤوس أصحابها.. فالدم العربي يختلف في قيمته وقدسيته عن الدم اليهودي الصهيوني في موازين البيت الأبيض والأليزيه و10 داونيج ستريت؛ وغيرها من مقرات الحكم في عواصم العالم الكبرى، وكذلك في مجلس الأمن الدولي! والذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها يوم كان الجندي المقاتل جلعاد شاليط في الأسر؛ وفعلوها مجدداً عندما ادعت إسرائيل أن المقاومة أسرت جندياً مقاتلاً من الميدان وليس من بيته فقتلت مقابله قرابة ثلاثمائة مدني؛ هم أنفسهم بتاع القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان الذين لم تهتز ضمائرهم لاعتقال آلاف الفلسطينيين في معتقلات بني صهيون.. ولم يكلف زعيم نفسه أن يدين اعتقالهم ولو مرة واحدة في العام بمناسبة احتفالات رأس السنة الميلادية، أو في ذكرى صدور ميثاق حقوق الإنسان وأمثاله من العهود الممنوع سريان أحكامها على القتلة والمجرمين إذا كانوا يهوداً صهاينة أو تابعين لدولة عظمى او حلفاء لها! ليس جديداً ولن يكون الأخير هذا السقوط الأخلاقي للغرب ومؤسساته الدولية.. فكما أن فلسطين كاشفة لمنافقي السياسية العربية فكذلك هي دائماً فاضحة لأمثالهم في الغرب والشرق على حد سواء! الصمود الفلسطيني يتجدد! الصمود الأسطوري للفلسطينيين في غزة في مواجهة الهمجية اليهودية الصهيونية هو إحدى الإنجازات التي حققتها المقاومة خلال السنوات الماضية؛ فمما لا شك فيه أن هذا الصمود والالتفاف حول المقاومة ما كان له أن يتحقق لولا أنهم آمنوا يقيناً أنها الخط الأخير للدفاع عن إنسانيتهم وكرامتهم وهويتهم الفلسطينية العربية الإسلامية في مواجهة تتار العصر! وبعد أن رأوا بأعينهم أن التعايش مستحيل بينهم وبين الصهاينة المعتدين؛ إلا أن يرضوا أن يكون مصيرهم كقبائل أفريقيا أو الهنود الحمر في أمريكا! ولا أحد في العالم يعرف حقيقة الصهاينة وحقدهم وعنصريهم وكراهيتهم للعرب مثل أهل فلسطين أنفسهم،، فالواحد منهم يشم رائحة صهيونية الجالس أمامه بأنفه ولو تدثر بجنسية أخرى.. وباسم بلا هوية دينية! وهذه الخبرة الإنسانية اكتسبها الفلسطينيون منذ عهد العلمانيين الصهاينة، ولا شك أنها ازدادت تجذراً مع سيطرة الصهاينة المتطرفين في صهيونيتهم على أسس دينية على الحياة السياسية في فلسطينالمحتلة.. فهؤلاء أشد نكاية وحقداً من الأولين! والصهاينة اليهود بدورهم على يقين أن لا حياة لهم في فلسطين مع بقاء أهل البلاد الأصليين بجوارهم؛ فضلاً عن أن يكونوا مقاتلين يرفضون الاعتراف بهم، وقرروا مقاومتهم حتى النصر أو الشهادة.. ولعل هذا هو الذي يفسر مقدار هذا الحقد الصهيوني على الفلسطينيين دون تفريق بن مقاتل أو مدني أو طفل أو شيخ او امرأة.. وصحيح أن الأساس العنصري للفكرة الصهيونية –كأي فكرة عنصرية سلالية- هي التي أسست لكل هذا الحقد وهذه الهمجية.. إلا أن الفلسطينيين يذكّرون الصهاينة كل دقيقة بأنهم غرباء عن هذه البلاد وأن أهل فلسطين الحقيقيين هم هؤلاء الذين يلبسون الدشداشة ويرقصون الدبكة.. ويزرعون أرض فلسطين بالزيتون والزعتر.. ويصلون في المساجد ويقاتلون من أجل الوصول إلى المسجد الأقصى للصلاة.. ويعلمون أطفالهم مع شروق كل شمس وغروبها أن هذه الأرض التي يدنسها الصهاينة هي أرضهم هم وليست أرض أولئك الجنود الشُّقْر.. وتلك قراهم وجبالهم ومزارعهم اغتصبوها منهم في غفلة العرب والمسلمين.. وبتآمر الشرق والغرب عليهم! بين موقفين! في ردة فعل الفلسطينيين على الدمار الذي لحق بهم وفي مثيله الصهيوني عما لحق بهم من المقاومة؛ يمكن أن نجد الجواب الصحيح عمن هو صاحب الأرض الحقيقي؟ ومن اللص الذي تسلل ونهب كل شيء؟ فحالة البكاء المبالغ فيه للجنود الصهاينة على فقد زميل لهم تبدو متناقضة مع ممارسات العنجهية التي يتعاملون بها مع الفلسطينيين (المدنيين طبعا وليس المقاتلين!).. ولا تليق بأشاوس يقتلون الأطفال والنساء العزل المدنيين بدم بارد.. ولا تفسير لها إلا أنهم لا يتصورون أصلا أن وجودهم في فلسطين معناه أن يخسروا شيئا عزيزا عليهم.. فهم أصلاً جاءوا ليعيشوا لا ليموتوا.. وكل حروبهم يخوضونها من وراء جدر وسواتر وحصون، وبعد أن تمهد لهم الطائرات ..والخيانات العربية.. المسرح ليقوموا بدور رامبو الصهيوني.. فلما ذاقوا مرارة المواجهة المباشرة مع المقاومة في غزة وقبلها في لبنان.. آمنوا أن الموت قرين وجودهم في فلسطين، وأنه أقرب إليهم من.. قرارات مجلس الأمن! الصورة المناقضة للحالة الصهيونية الهلعة على الحياة الخائفة من الموت والخسارة نجدها في موقف عامة الفلسطينيين – ولا نقول المجاهدين فهؤلاء قد باعوا أنفسهم للموت أصلاً- فرغم الدمار الشامل الذي طال المنازل والمساجد والمدارس والجامعات ، والمشافي.. وكل ما أراد الصهاينة قتله أو تدميره أو محوه من الوجود لم ينبت في نفوس الفلسطينيين إلا مزيداً من الاعتزاز بالمقاومة.. وإلا مزيداً من الإصرار على الصمود والتشبث بأرضهم؛ بل والتطلع إلى يوم قريب يعودون فيه إلى قراهم الأصلية هناك في حيفا ويافا وعكا وصفد! كل ذلك التدمير والتخريب والقتل لم يمس نفسية فلسطيني واحد بتخاذل أو جبن.. وآلاف الصهاينة رفضوا العودة إلى المستوطنات خوفاً من صواريخ المقاومة لأنها ببساطة ليست بلادهم وليست أرضهم وهي فعلاً أراض مغتصبات من "الغير".. والمشكلة عند الصهاينة أن هذا "الغير" موجود قريباً منهم.. ومن أبنائه من يقاتل ليعود! ويحفرون الأنفاق ليصلوا إلى اللصوص.. حتى اشتكى صهاينة أنهم يسمعون أصوات الحفر من تحت منازلهم.. ولا غرابة في هذه الشكوى إلا أنها في منطقة في أقصى شمال فلسطين.. فتخيلوا حالة الذين يعيشون على حدود غزة؟ في جولة استطلاعية عرضتها قناة "سراج الأقصى" مع عدد من المواطنين الفلسطينيين الذين يعيشون على حدود غزة مع فلسطينالمحتلة عام 1948؛ أبدى ثلاثة من الشيوخ وليس الشباب ثباتهم على مواقفهم المؤيدة للمقاومة رغم أن الاحتلال دمر كل منازلهم هم وأولادهم، ولم يترك مضخة ماء ولا خزان ولا مسجد ولا شجرة إلا ودمر وأحرق.. وقد كاد المذيع يبكي وهو ويرى الشيخ الثالث يستأذنه قبل الإجابة عن سؤاله عما حدث.. يستأذنه أن يسجد فوق أرضه شكراً وحمداً لله على نصره للمقاومة وتثبيته لها في مواجهة 30 يوماً من العدوان الهمجي والتخاذل العربي، وفي رواية.. الخيانة العربية! يفعل ذلك والصهاينة دمروا كل شيء في قريته وجعلوها ركاماً، وقتلوا بعضاً من أهله.. ولا يزيد إلا أن يقول: - سنأتي إليهم إلى تل أبيب.. وندوسهم بأرجلنا! "ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً"