[1] ثمة مقدمة ضرورية ينبغي الإشارة إليها قبل البدء في دحض تفصيلي لمزاعم الحوثيين في مشروعية محاربتهم لمن يسمونهم: الدواعش، والتكفيريين، والفاسدين في دولة الجمهورية اليمنية!
خلاصة هذه المقدمة أن الدولة هي المسؤولة عن الدفاع عن نفسها وشعبها، وتطبيق قوانينها وإقامة العقوبات أو الحدود الشرعية، ومحاسبة ومحاكمة الخارجين عن القانون بأي صورة كانت، وتنفيذ العقوبات عليهم.. هذه مهمة الدولة وليس الأفراد أو الجماعات الشعبية سواء أكانت أحزابا أو حركات أو نقابات.. إلخ المسميات.. وأي تعد على هذه الوظيفة يعد افتئاتا على وجودها وشخصيتها القانونية يضع صاحبه تحت طائلة العقوبة.. ولو كان الفاعل متضررا أو قريبا منه!
[2]
النتيجة التي نخرج بها من المقدمة المذكورة أنه ليس من حق الحوثيين القيام بأعمال مسلحة أو الهجوم أو مقاتلة من يصفونهم بالتكفيريين، والداوعش، والفاسدين طالما أن هناك دولة (بصرف النظر عن الرأي الغالب فيها أنها دولة ضعيفة وغير قادرة على القيام بمهامها كما يجب).. وهذا الرأي هو الموقف السائد في كل مكان.. وهو أيضا جوهر المذهب الهادوي الزيدي الذي يلتزم به الحوثيون الذي يقرر مذهبهم بوضوح هذا الحكم كما سيأتي لاحقا.. لكن قبل أن نبدأ في بيان أخطاء الحوثيين وتعديهم على القانون والشرع في كل أعمالهم التي قاموا بها بحجة محاربة الدواعش، والتكفيريين، والفاسدين ؛على الأقل منذ أعلنوا الاعتصامات ضد الجرعة السعرية وصولا إلى سيطرتهم على صنعاء وما أحدثوه فيها من منكرات مما تبرأ منها حتى رموزهم السياسية والإعلامية؛ فإنه من المهم أن نقرأ هذه الحقائق التاريخية والاعترافات الطازجة عن الانحراف الشديد الذي وقعوا فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفقه الإمام علي، وللمذهب الهادوي نفسه.. وللعقد السياسي الذي يجمعهم ببقية الفرقاء في الوطن منذ مؤتمر الحوار الوطني الذي كان تنفيذ مخرجاته للمفارقة أحد أهدافهم في ثورتهم المزعومة!
[3]
أولا/ من المعلوم الثابت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يقم بنفسه ولا أمر أصحابه في المرحلة المكية (أو مرحلة اللا دولة) بأي عمل من أعمال المقاومة المسلحة أو حتى باليد في مواجهة حالات التعذيب والاضطهاد البدني الذي أدى إلى الموت في بعض الحالات، والحرمان من حرية العقيدة، والتشرد في الأرض، والمقاطعة الاقتصادية الجائرة التي مارسها كفار قريش ضد المسلمين طوال 13 سنة.. بل كان الرسول حريصا على تنبيه أصحابه على تجنب المواجهة والدفاع عن النفس، والانتقام، ومشهورة كلمته للصحابي الذي جاءه يطلب منه أن يستنصر الله لهم من هول ما نزل بهم من التعذيب والاضطهاد؛ فطالبهم بالصبر، وواصفا لهم بأنهم قوم يستعجلون، ومذكرا إياهم بما لحق المؤمنين السابقين من عذاب مهول لم يعانوا مثله.. وعن هذه المرحلة نزل قوله تعالى:[ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة..].. واختلف الحال بعد قيام الدولة في المدينة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمن لحظتها قامت الدولة بواجباتها في حماية المسلمين، وتأمين حدودها، ومواجهة المنكرات، وإقامة الحدود، وتدرجت في محاربة أعدائها: الأفراد أو الكيانات الجماعية وفقا لتطور قوتها العسكرية.
[4]
ثانيا/ لقد استقرت قاعدة أن الدولة وليس الأفراد هي المسؤولة عن تطبيق القانون وإقامة الحدود في الفقه الإسلامي منذ البداية.. ومن المناسب هنا أن نذكر الحوثيين بحادثة قيام عبيد الله ابن الخليفة عمر بن الخطاب بقتل الهرمزان انتقاما لما تردد عن علاقته بقاتل أبيه أبي لؤلؤة المجوسي. فقد ثارت يومها أزمة شديدة في المدينة (أو كما وصفها عثمان وهو يستشير الصحابة في فعل عبيد الله: اشيروا علي�' في هذا الذي فتق الإسلام ما فتق؟)، وانقسم المسلمون فريقين: الأول يستنكر قتل عبيد الله حدا بعد مقتل أبيه بأيام من باب درء الحدود بالشبهات.. والآخر بقيادة علي بن أبي طالب دعا إلى إقامة الحد عليه بوصفه قاتلا تعدى على دور الدولة.. وخروجا من هذا المأزق تبنى الخليفة الجديد عثمان بن عفان حلا وسطا يقضي بدفع الدية بدلا من القصاص بعد أن تم تسليم عبيد الله لابن الهرمزان ليقتله قودا بأبيه لكنه عفا عنه، وتحمل عثمان الدية من ماله الخاص. وخاصة أن القتل وقع في غير زمن عثمان أي قبل توليه، وللعلم يقرر الزيدية الهادية في التاج المذهب أن من شروط تنفيذ الإمام للحدود أن يكون (وقع سببها في زمن ومكان يليه) بل يقولون إن الإمام إذا زنى فلا يقام عليه الحد لأنها تبطل إمامته من أول الفعل فوقع زناه في غير زمن الإمام.. وله إسقاط الحدود عن بعض الناس ولو حد سرقة أو قذف أو تأخيرها لمصلحة عامة مقدمة على المصلحة الخاصة (الجزء الرابع، باب الحدود) وسنعود لهذه القواعد بالذات مستقبلا.
[5]
ثالثا/ روى ابن كثير في تاريخه أن القائد العباسي/ عبد الله بن علي لما استولى على دمشق وسلب بني أمية ملكهم؛ استدعى الإمام أبا عمرو الأوزاعي فقيه الشام الكبير، واستفتاه: [ما تقول في أموالهم؟ فقال: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا.. وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي!]
[6]
رابعا/ للتذكير فقط فإن مبررات تنظيم القاعدة والنسخ الجهادية التي تناسلت منه في العراق وسوريا واليمن وغيرها؛ إنما تبرر جهادها العسكري - أي خارج إطار الدولة- ضد أمريكا والأنظمة المتحالفة معها وجنودها بأنها تقوم بالواجب الديني الذي تقاعست عنه الأنظمة.. ومن المعروف أن كل الذين رفضوا نهج القاعدة، ونهج قيام أي جماعة أو أفراد بتنفيذ الحدود الشرعية على مرتكبي المعاصي؛ أسسوا رفضهم على مبدأ رفض مثل هذا التصرف خارج إطار الدولة بأنه افتئات عليها لأنها المعنية بذلك.
[7]
خامسا/ إن من المقرر في الفقه الهادوي أن الإمام/ الدولة هو المسؤول أو المختص بإقامة الحدود وحده دون غيره، وكذلك تنفيذ الأحكام أو من يوليهم.. وكذلك المحتسب أي الحاكم الذي لا تتوفر فيه كامل شروط الإمامة.
[8]
سادسا/ من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الهادوية (ومثلهم المعتزلة وأهل السنة والجماعة): أنه فرض كفاية ولا يجوز في المختلف فيه - وألا يؤدي إلى منكر مثله كإخلال بواجب أو فعل قبيح أو إلى ما هو أنكر منه- ويكفي في الأمر بالمعروف الأمر به وليس الضرب عليه، وفي النهي عن المنكر يقدم الأخف فالأخف- ولا يجوز تجييش جيش لدفع المنكر من آحاد الناس بل هو للإمام لأنه يؤدي إلى تهييج الفتن والضلال.
وسنعود لهذه الشروط المختارة عند مناقشة مشروعية أهداف الحوثيين.
ولعله من المفيد هنا اقتباس ما أورده الأستاذ/ حسن زيد في كتابه (الجهاد: تصحيح مفاهيم) الذي كتبه تفنيدا لأفكار الجماعات الجهادية التي اعتمدت السلاح أو ممارسة العنف لتغيير المنكرات ومواجهة القوات الأجنبية في أرض الإسلام، وعن شروط الجهاد المشروع من يحق له إعلان الجهاد القتالي أو استخدام السلاح ضد الكفار والبغاة قال:[ باختصار لا بد أن يكون لهم دولة ونظام وأرض محددة لهم عليها السيادة تسمى دار السلم وغيرها إما دار عهد أو حرب.. ولأداء واجب الجهاد القتالي بشروطه فلا بد من وجود: دولة لها قيادة معلنة ظاهرة أي غير مستترة، وكيان جغرافي وحدود سياسية تتميز بها عن دار العهد والحرب والبغي... وشرط وجود إمام أو أمير أو متول شرط مجمع عليه في جهاد الطلب او الابتدائي... وينص الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين: لا يحوز الجهاد إلا مع إمام عادل فإما بغير إمام فلا..ٍ]
[9]
سابعا /أنقل هنا فقرة قرأتها عرضا للقاضي/ عبد الوهاب قطران ؛وهو من أشد غلاة الحوثيين كما يبدو من كتاباته؛ ومع ذلك فقد استنكر أفعال المسلحين الحوثيين الذين تهجموا على البيوت والممتلكات العامة والخاصة، ونهب ما وقع تحت أيديهم بحجة أنها تحت يد الفاسدين.. واقرأوا كلامه: [ يا أنصار الله كل ساعة وكل يوم تنشر أخبار عن اقتحامكم لمنزل نافذ أو فاسد أو مؤسسة إعلامية أو شركة نفطية، وتلك لعمري تصرفات حمقاء تشوهكم لأنها تصرفات عارية عن أي مسوغ شرعي قانوني قضائي.. يفترض تعدوا كشف وقائمة بأسماء الفاسدين والمتورطين في جرائم قتل أو اغتيال أو نهب المال العام واختلاس خزينة الدولة أو تورط في الفساد والفساد المقنن ، وتعد عريضة بلاغ عن طريق محامين محترفين مؤيدين للثورة مثل الأستاذ احمد الوادعي والأستاذ عبدالعزيز البغدادي والدكتور حسن مجلي، تقدم للنائب العام مشفوعة بأموالهم والتهم المسندة إليهم، ويطلب منعهم من السفر والتحفظ على أموالهم وشركاتهم وإصدار أوامر بإلقاء القبض عليهم، وعندها تجبر أجهزة الأمن والجيش على تنفيذ أوامر القضاء. وإن تلكأ النائب العام أو ماطل عندها يكون إقالته مطلب ثوري وتعيين بديلاً عنه قاض يتمتع بالشجاعة والنزاهة والكفاءة.. تصرفوا تصرفات ثوار كبار وليس تصرف عصابة مسلحة!].
وأخيرا..
ثامنا/ إنه من المؤكد أن جماعة الحوثيين/ أنصار الله ليسوا هم الدولة الشرعية في اليمن، ولم يعلنوا أنهم دولة مستقلة، ولا هم أمة متميزة عن سائر اليمنيين، وليسوا أهل دار إسلام والآخرين أهل دار حرب وكفر.. والمؤكد أن زعيمهم عبد الملك الحوثي ليس إماما ولا اميرا ولا حاكما ولا محتسبا، ولم نسمع أنه ادعى ذلك، وهو يعترف علنا بدولة الجمهورية اليمنية التي يمثلها الرئيس عبد ربه هادي وبشرعيته (بدليل موافقته عن تعيين أحد أنصاره مستشارا له وعلى المشاركة في الحكومة وفي إدارة كل البلاد!) وبكل ما يعني ذلك من الالتزام بقوانينها وحرمة الخروج المسلح أو المؤدي لفتنة عليها، ويعترف أيضا بمخرجات مؤتمر الحوار الوطني بل حشد الحشود إلى صنعاء لفرض تنفيذها فرضا.