[1] تشويه الخصوم أخلاقياً عملية مشهورة لدى أجهزة الاستخبارات وخاصة في الأنظمة القمعية الاستبدادية في الشرق؛ حيث لا تزال لمعاني الشرف والعفة أهمية كبرى لدى الرأي العام.. وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي عمدت أجهز الأمن في الأنظمة المتهاوية إلى تشويه الثوار في الساحات بتهم مثل العمالة للصهاينة وأمريكا (هذا على أساس أن الحكام لم يكونوا عملاء وأصدقاء وحلفاء لهم؛ بل كانوا من أعدى أعدائهم، وكأن موعد ساعة الصفر لغزو إسرائيل وأمريكا قد اقترب، ولم يبق إلا ساعات قليلة وتبدأ حروب تحرير فلسطين واحتلال أمريكا ذاتها!)
لكن أخطر تهمة تمس مقتلا لدى الشرقيين كانت تُهم وجود ممارسات لا أخلاقية وزنا تحديداً تُمارس في خيام خاصة في ساحات التغيير.. هذه التهمة بدأت في مصر بوصف الأجهزة الأمنية المصرية عريقة في استخدامها منذ أيام صلاح نصر (الذي أطاح به الرئيس السابق جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967، وحاكمه في القضية المشهورة: انحراف المخابرات مع شلة عبد الحكيم عامر وضباطه الفاشلين عسكرياً الناجحين فقط في أمور المسخرة والصياعة والنضال في المخادع وغرف النوم، كما كشفتها المحاكمات يومها!)، واستمر الحال زمن مبارك في استخدام هذه الوسائل لتشويه الخصوم وتجنيد الممثلات والممثلين والساسة للعمل معها.. ولم تنج اليمن من ذلك فقد روّج إعلام النظام السابق لوجود خيام الزنا وقضاء الشهوات في خيم سياحية للخلوة الثورية - على حد تعبير صحيفة "الميثاق" في عدد صدر في أول رمضان وليس في جمعة رجب!
ولعلّ الجميع ما يزال يتذكر تهمة الاختلاط المخالفة للشرّع في الساحات، ودعوة الآباء إلى الذهاب إلى هناك ليروا مع من تنام بناتهم!
هذه الحملات التي أظهر فيها الحكام غيرتهم على الشرف تُوّجت بأكذوبة وجود فتوى جهاد النكاح شجّعت على ذهاب فتيات عربيات مسلمات إسلاميات(!) إلى سوريا لممارسة جهاد النكاح دعماً للمجاهدين!
وطالت الأكذوبة داعية شهير مثل محمد العريفي ونسبت له تغريدة مع صورة شخصية له على توتير تدعم الفتوى, لكن سرعان ما انكشف التدليس بعد أن اتضح أن عدد كلمات النص المكتوب على الصورة التي يدعي صاحبها أنها تغريدة من حساب محمد العريفي يتجاوز عدد أحرفه 260 حرفاً، لكن في "تويتر" عدد أحرف كل "تغريدة" لا يتجاوز 140 حرفاً!
وفي نفس السياق ظهر شريط فيديو على شبكة الإنترنت نشرته قناة "الإخبارية السورية" عن فتاة تونسية تُدعى "رحمة"، غادرت تونس نحو سوريا لتطبيق ما يُسمّى جهاد النكاح "الفتوى الكاذبة"..
وتداولت أغلب وسائل الإعلام الموالية ل"بشار" هذا الخبر، وفتحت المنابر للهجوم على الحكومة التونسية وعلى الثورة السورية.. قبل أن يظهر خبر عودة الطفلة رحمة ليكذّب كل ما قيل عن مغادرتها إلى سوريا ويُلجم الأفواه!
[2] الأستاذ فهمي هويدي الكاتب الشهير كان ممن تصدى لفضح أكذوبة الفتوى البذيئة (حد وصفه) في أكثر من مقال. وكشف ملابساتها ومن يقف وراءها.. ولعلّه من المفيد إعادة نشر ما كتبه بعد أن تأكد أن الأكذوبة ما تزال تجد لها مروّجين في صحافة الأنظمة الفاجرة أصلاً، والتي تعملها كلها وبدون فتوى..
يقول هويدي في مقال له في صحيفة الشروق نُشر في 7 أكتوبر 2013 بعنوان: أكذوبة جهاد النكاح: [تبيّن أن قصة جهاد النكاح ليست سوى أكذوبة أطلقها أبالسة المخابرات السورية، لطعن وتشويه فصائل مقاومة النظام هناك. وقد تولّت أبواق النظام الترويج للمقولة، التي أحسب أنها نجحت بصورة نسبية في الحط من شأن كل القوى الوطنية التي تخوض معركة الدفاع عن كرامة الشعب السوري، وأسهم في الترويج لتلك الفكرة الشيطانية كثيرون من خصوم التيار الإسلامي خارج سوريا، إذ التقطوها ووظفوها في معاركهم الداخلية خصوصا في مصر وتونس، حتى تعددت الكتابات التي لم تر في ممارسات فصائل ذلك التيار بل في المقاومة السورية ذاتها غير حكاية جهاد النكاح، بل إن قيمة الجهاد ذاتها بكل جلالها أهينت وابتذلت بحيث لم تعد ترى إلا من هذه الزاوية، وكأن الجهاد صار غطاء لارتكاب الفاحشة وإشاعتها.
في حين هللت بعض وسائل الإعلام العربية للحكاية، فإن الإعلام الفرنسي هو الذى فضح الأكذوبة فيها. وهذا ما فعلته صحيفة لوموند وقناة فرنسا 24. فقد نشرت "لوموند" في عدد أول أكتوبر الحالي تقريراً أكد أن جهاد النكاح لا وجود له في سوريا وأن إعلام النظام السوري هو الذى اخترع الفكرة في إطار حملته على الثوار، الذين كان قد وصفهم في السابق بالمتسللين من الخارج لنزع صفة الانتماء الوطني عنهم. وأشارت الصحيفة إلى أن ذلك المفهوم ظهر إلى العلن في المرة الأولى في أواخر عام 2012 عبر قناة "الجديد" اللبنانية الموالية لدمشق.
وعلى الفور تم استنساخه من قبل المنابر الإعلامية الموالية للرئيس الأسد. وكان الهدف من إطلاق الكذبة ليس فقط تشويه صورة مقاومة النظام ولكن أيضا صدم الرأي العام الغربي. ولإعطاء المصداقية للفكرة فإنها بنيت على فتوى لأحد الدعاة السعوديين المعروفين (الشيخ محمد العريفى) إلا أن النفي السريع الذى أصدره الداعية دفع المروّجين للفتوى إلى نسبتها إلى مصدر مجهول تعذر إثباته.
أضافت الصحيفة الفرنسية أن مسألة جهاد النكاح يتوافر فيه عنصر الإثارة الذي تبحث عنه وسائل الإعلام، وهو ما يفسّر كثرة تداولها في الصحف والبرامج التليفزيونية رغم ثبوت عدم وجود أي فتوى تتطرق إلى الموضوع أو تجيزه.
وأشارت في هذا الصدد إلى أن جميع أطراف المعارضة السورية، من الائتلاف الوطني السوري إلى الجيش الحُر وجبهة النصرة، رفضوا الفكرة وشددوا على أنه لا وجود لها بين الثوار.
تطرّقت الصحيفة إلى تصريحات وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو الذي تحدث عن ذهاب تونسيات إلى سوريا للمشاركة في ذلك النوع من «الجهاد»، وقالت إن الوزير لم يعط أي أرقام عن عدد هؤلاء. كما أنه لا توجد شهادة من أي فتاوى تونسية توثق الخبر، قبل أو بعد التصريحات التي أطلقها.
قناة "فرانس 24" خلصت إلى ذات النتيجة، وذكرت أن وزير الداخلية التونسي الذي أثار الموضوع على خلاف مع حركة النهضة.
وأشارت إلى أنها استطلعت الدوائر وثيقة الصلة بالمقاومة السورية التي نفت القصة من أساسها ونسبتها بدورها إلى المخابرات السورية. ونقلت عن أحد المراقبين الذين أوفدتهم الجامعة العربية إلى سوريا السيد أنور مالك قوله إن قصة جهاد النكاح أطلقتها المخابرات السورية. وأضاف تقرير القناة معلومتين مهمتين الأولى أن الصور التي ظهرت لفتيات تونسيات نُسب إليهن الاستجابة لتلك الفتوى مختلقة وغير صحيحة؛ لأنها لفتيات شيشانيات التقطت لهن أثناء فترة الاشتباك مع السلطة الروسية.
الثانية أن صحفية في قناة «الميادين» اللبنانية القريبة من النظام السوري «اسمها مليكة جباري» قدمت استقالتها من القناة؛ لأنها أُجبرت على فبركة القصة وتلفيقها وبثها على شاشة القناة].
[3] وفي مقال "فتوى بذيئة" خلص هويدي في تحديد الجهات الواقفة وراء الفتوى المزعومة قائلاً: [إذا ثبت أن هناك «فتوى» بهذا المضمون، وتبين أن صاحبها ليس معتوها ولا هو مريض عقلي، فإنني أرجح ما قيل عن أنها مدسوسة أريد بها إما تشويه الثوار الذين يقاتلون لإسقاط نظام الرئيس الأسد، أو تشويه السلفيين بدعوى انهم يبذلون مفهوم الجهاد ويوظفونه لتغطية مثل هذه الممارسات.
وفي هذه الحالة فإن مصدر الفتوى البذيئة، إما أن يكون المخابرات السورية التي نعرف انها لا تتورع عن فعل شيء من ذلك القبيل، أو يكون مصدرها خصوم الإسلاميين الذين يسعون لإقصائهم، ولا يكفون عن محاولة اغتيالهم أدبيا أو معنويا. وليس هناك ما يمنع أن يتفق الطرفان على الترويج لهذا الكلام بعد طبخه، باعتبار أن لكل منهم مصلحة في ذلك.
لقد خرجت فكرة «تجفيف الينابيع» من تونس في العهد السابق، وأريد بها محاربة التدين؛ بدعوى أنه يشكل الحاضنة التي تفرخ الإرهاب وترعاه. ولا أستبعد أن يكون الخصوم قد انتقلوا بمثل هذه الفتوى إلى طور آخر في حربهم يستهدف تشويه وتلويث المفاهيم.
أدري أن مخاصمة الإسلاميين احتدت بعد الارتفاع النسبي لأسهمهم في ظل «الربيع العربي»، وهو ما ألجأ البعض إلى استخدام أساليب وأسلحة محظورة سياسيا وأخلاقيا في أجواء تلك الخصومة؛ إلا أنني لم أتوقع أن ينحط المستوى إلى تلك الدرجة التي لا تخطر على البال، إلا أن أداء أبالسة الإنس ليس له سقف أو حدود].
[4] ظهور أكذوبة فتوى جهاد النكاح من سوريا المحكومة بالطائفة النصيرية ليس غريباً؛ بالنظر إلى مفاهيم مشابهة معروفة عن الفرق الشيعية المغالية في هذا الجانب مثل إباحة زواج المتعة، وطقوس ليلة الإمام.. وبالنظر أيضا لطبيعة النظام البعثي العلماني المتطرف الحاكم في سوريا.. وقد سمعت من زميل ناصري قيادي عرف سوريا حكايات عن التفسخ الاخلاقي مما يشيب الرؤوس!
كذلك ليس غريبا أن ينشط فلول نظام بورقيبة في تونس في الترويج لأكذوبة جهاد النكاح؛ ففي عهد الزعيم الأوحد وزين العابدين المزوّر كان الزنا مقننا في تونس، وتحميه الدولة، وتوفر له أسباب النجاح كمثل الاستثمارات الاقتصادية ،وفي المقابل فإن لبس الحجاب وإعفاء اللحى من المحرمات! وبعد سقوط نظام القذافي طهرت حقائق نضاله وأبنائه مع المطربات الأوربيات وفي غرف النوم وهم رموز النظام الذي ألصق أقبح التهم اللا أخلاقية بخصومه!