أكاديمي مصري- استاذ العلوم السياسية بجامعة أسيوط استكمالاً للحديث الذي بدأناه عن السعودية هذا الصباح بعد صدور قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، أقول إنه، ومع المؤشرات التي تنبئ بقرب حدوث صدام مباشر وعنيف بين السعودية وأمريكا تتجاوز في رأيي القنوات الدبلوماسية للتفاهم والحوار، إلى ما هو أبعد وأخطر منها، يصبح السؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن هو: ما هي الدوائر التي يمكن للسعودية أن تتحرك فيها في هذه المواجهة المنتظرة بين الدولتين؟ وردي على ذلك هو أن هناك، في تصوري، خمس دوائر رئيسية يمكن لهذا التحرك أن يتم في إطارها، حتى وإن كان لكل دائرة منها ظروفها وقيودها ومحدداتها، وهي بالترتيب: الدائرة الدولية الواسعة، والدائرة الاقليمية أو الشرق أوسطية، والدائرة العربية، والدائرة الخليجية، ودائرة العلاقات الثنائية السعودية الأمريكية. بالنسبة للدائرة الدولية، فإنه يقع في قلبها الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي والأجهزة القضائية الدولية، وكذلك الأدوار التي يمكن لبعض الوسطاء الدوليين أن يلعبوها لتجنب الصدام المباشر بين الطرفين أو لدفع الخلاف بينهما في مسارات أكثر سلمية، ولا أعتقد أن هذه الدائرة الدولية سوف تتيح للسعودية التوصل إلى ما تسعى إليه من حلول توافقية سريعة لأسباب كثيرة يطول شرحها. وأما بالنسبة للدائرة الإقليمية أو الشرق أوسطية، فإن أبرز الفاعلين المؤثرين فيها هم اسرائيل وإيران وتركيا، وهي دائرة متداخلة ومعقدة للغاية ولا توفر هامشاً ولو محدوداً من حرية التحرك أمام الدبلوماسية السعودية، والاحتمال الأرجح هو أن نتائج هذه الجهود الدبلوماسية سوف تكون محبطة وخاذلة. وأما الدائرة العربية فهي دائرة مشحونة عن آخرها بالتوترات والصراعات والأزمات والحساسيات والانقسامات وانعدام التنسيق بين العديد من الأطراف، فضلاً عن أنها الدائرة التي تشتبك السعودية معها بأدوار وبآليات تتحفظ عليها كثير من دول الجامعة بل وترفضها وتحملها بالمسئولية عن الكثير مما يحدث، وبالتالي فإن أقصي ما يمكن للسعودية أن تتوقعه من الجامعة العربية ودولها لن يزيد عن عبارات التضامن التقليدية التي ترد في البيانات الرسمية لا أكثر ولا أقل. الدائرة العربية هي أكثر كل هذه الدوائر عجزاً وعدم فاعلية، فضلاً عن أن الدور السعودي فيها هو دور متراجع وغير مؤثر علي أي مستوى وهو ما يضعف من قدرته على التحرك فيها. وأما الدائرة الخليجية، فإنها منقسمة هي الأخرى، بشدة، على نفسها وفيها تتباين المواقف والمصالح والحسابات بشكل جذري عن بعضها، ومن ثم فإن دول المجلس لن تأخذ جانب السعودية في أي صدام محتمل مع أمريكا وهو ما سيضطر السعودية لأن تخوض هذه المواجهة وحدها بلا أي دعم خليجي حقيقي ومؤثر من أي نوع أو على أي مستوى. وعندي من الأسباب ما يساند هذا الاحتمال ويدعمه بقوة، فكل دولة من دول هذا المجلس تتحرك لنفسها في مسار تختلف به عن المسارات التي تتحرك فيها دول المجلس الأخرى من الكويت إلى الإمارات إلى قطر إلى سلطنة عمان إلى البحرين. تبقى دائرة العلاقات الثنائية السعودية الأمريكية بخياراتها المحدودة، فأمريكا تملك أن تعلن حرباً اقتصادية موجعة على السعودية وليس العكس، وأمريكا تستطيع أن تضغط بقوة على السعودية ونظامها الحاكم بالكثير من الوسائل والأدوات وليس العكس. وأمريكا تستطيع أن توقف تسليحها للسعودية وتنال من قدراتها الدفاعية وليس العكس، وأمريكا يمكنها أن تزج بالسعودية في مستنقع الحروب والصراعات الإقليمية لتغرق فيه أكثر وأكثر وليس العكس. والإعلام الأمريكي يمكن أن يشن حرباً دعائية شرسة ومدمرة على السعودية وليس العكس، ومن هنا فإن دائرة الخيارات المتاحة للسعودية وأجهزة صنع القرار فيها تضيق إلى أبعد حد، وكلها خيارات صعبة ومكلفة وأخطارها قد تكون مدمرة. أنا واحد ممن يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً على السعودية وعلى شعبها العربي الشقيق مما قد يكونوا بصدده من مخاطر وتحديات كجزء من المؤامرة التي تستهدف هذه المنطقة برمتها، ثم أرجع وأقول إنه كان بالإمكان تجنب الكثير من هذه الأخطاء الفادحة والمستمرة فيما لو أن السعودية لم تضع البيض كله في السلة الأمريكية وحدها. لقد راهنت وخسرت الرهان.
أمريكا بدأت معركة "تكسير العظام" مع السعودية (1 - 2)