ليس ثمة شك في أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر تعد من أنقى وأروع الثورات الإنسانية في العصر الحديث، ذلك أنها سبقتها مراحل من الفعل الثوري الدؤوب، ومرارات جمة، بل وانتكاسات مهولة عملت على تأخيرها، لكنها أنضجتها وأوصلتها إلى مراحل عليا من الرشد الفكري والسياسي والعسكري. وحين بزغ فجر ذلك اليوم الأيلولي المشرق من عام 1962 كان السيف الثوري أقوى من أن ينكسر هذه المرة، والثمار اليانعة أسمى من أن تُطال، والأسوار العالية يسقط دون المساس بها كل دخيل متآمر. وكان للثورة روح وثابة ينداح ألقها تارة من الزبيري وتارة من النعمان وتارة من علي عبدالمغني وتارات وتارات من تلك القوافل التي انتظمت في مسيرها الثوري الطويل صفا كأنها بنيان مرصوص. لقد كتبت هذه الثورة بنجاحها صفحة من أروع صفحات المجد الوطني في تاريخ اليمن الحديث وأكدت لجموع المنضوين تحت لوائها أن حالات الموات الجمعي والشلل العام ليست قدرا محتوما لا يمكن كسرها والخروج منها إلى فضاءات الهواء والنور، ولكنها أزمات آنية وطارئة، ومثلما كان لها بدايات فإن لها نهايات أيضا، لكن ذلك مرهون بإرادة التغيير، وقد امتلكت هذه الثورة من هذه الإرادة مخزونا هائلا دفعت في سبيل نيله قوافل من الشهداء، فجاءت ثورة الخلاص قوية مشرقة، ووصلت أضواؤها الى كل ربوع اليمن الذي عاد سعيدا مشرقا بها. لم تكن الثورة فكرة تائهة لفيلسوف مجنح، ولا تهويمة منبثقة من خيال شاعر ساحر، ولا بشارة من راهب أعزل، ولكنها كانت مطلبا جماهيريا حمله الشعب اليمني قرونا متطاولة في طريق طويل محفوف بالجماجم والإشلاء والجراح، حتى وصل إلى ساحة من النور والبهاء في ضحى ذلك اليوم الأبلج الأغر. إن المتأمل في مسيرة هذه الثورة ليلحظ فيها دون عناء ثلاثة خصائص مهمة كان لها بالغ الأثر في نجاحها ومد جذورها وتغلبها على مختلف الكوابح والعقبات. فهي أولا ثورة عريقة ولها سجل نضالي حافل بالأحداث والوقائع، حضرت فيه قامات سامقة كنشوان بن سعيد الحميري وسعيد اليريمي صاحب حصن الدنوة وصالح بن مهدي المقبلي ومحمد إسماعيل الأمير وحميد المقطري، وأسماء أخرى تضيق بها هذه العجالة. وهي ثانية ثورة شاملة حضرت فيها كل المدن والقرى اليمنية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ولم تكن حبيسة نطاق جغرافي معين، فكان الثوار يجدون في هذا الحضور الجغرفي ملجأا عند الضرورة ويجدون فيه أيضا ساحات آمنة للإنطلاق والفعل الثوري، وقد شكلت كل المدن اليمنية وخاصة صنعاءعدنتعزالحديدةإبمأربالبيضاء زخما ثوريا متناغما إلى درجة كبيرة. وهي ثالثا ثورة عامة الشعب، لم تتولّ هندستها وتنفيذها نخبة معينة، وإنما اشترك فيها العالم والأديب والسياسي والتاجر وصانع الحلوى وحتى الحطابون في الجبال.. فكيف لثورة كان هذا شأنها أن لا تنتصر؟؟!