لم يكن اليمنيون بحاجة لانتظار خروج الرئيس عبد ربه منصور هادي من محبسه وإقامته الجبرية في العاصمة صنعاء واستئنافه لمهام عمله كرئيس للجمهورية في عدن ليدركوا ان انتقال الرئيس الى كبرى مدن الجنوب يعني يمنًا تتنازعه شرعيتان وحكومتان وعاصمتان وان مثل هذا التنازع هو ما قد يؤدي الى تقسيم البلاد الى شمال وجنوب وربما الى ما هو اكثر من ذلك. ولم يكن اليمنيون بحاجة لصدمة جديدة ليستوعبوا انهم قادمون على سيناريو كارثي من شأنه تقسيم بلادهم بين (الوالدتين) اللتين ادعت كل منهما حقها في المولود لكونهم الذين لا يجهلون ان المعركة الجارية في وطنهم ليست كسائر المعارك الاخرى التي تنتهي بغالب ومغلوب ومنتصر ومهزوم، وانما هي معركة الكل فيها خاسر بامتياز والكل سيتحملون امام الله والتاريخ والأجيال القادمة مسؤولية التفريط بوطنهم وإضاعته في صراع على اوهام (الشرعية) وعلى تخوم المناصب والمنافع ونفوذ السلطة. ولم يكن اولئك البسطاء من ابناء اليمن الذين يجأرون من قسوة الازمات المتلاحقة والصراعات المتتالية بحاجة لإضاعة المزيد من الوقت في البحث عن خفايا حادثة خروج الرئيس المحاصر وإفلاته من الحراس الذين كانوا يغلقون كل منافذ منزله.. اومن هي الجهات الداخلية اوالخارجية التي كانت وراء تهريبه وإقناعه بالعدول عن استقالته ليعيد بذلك خلط الاوراق والحسابات في المشهد اليمني الذي اصبح مسرحا للحروب والحروب المضادة حتى يستفيق هولاء البسطاء على واقع جديد عنوانه العريض هذه المرة (التقسيم السيادي) والذي برزت ملامحه صارخة بظهور سلطتين حاكمتين ضمن نطاق دولة واحدة، فالشغل الشاغل لهؤلاء يتمحور في التفكير بتوفير لقمة العيش وتامين الحياة الكريمة لأسرهم بعد ان تحول اليمن الى اكبر تجمع للفقراء على مستوى المنطقة العربية. محزن جدا ما يشهده اليمن من انهيارات وانقسامات على المستويين السياسي والاجتماعي، ومقلق جدا ذلك التخبط الذي يدفع بهذا البلد الى المزيد من التصدع والتشظي والتفكك في جغرافيته بأرضها وإنسانها على غرار ماحدث في الصومال وغزة والضفة والمغرب والصحراء وشمال وجنوب السودان وغير ذلك من النماذج المتكررة والمستجدة، ومخجل جدا في ذات الوقت الواقع المرير الذي يكتوي به اليمن على النحو الذي لا يمكن تبريره ولا يمكن احتماله. لقد اسقطت العواصف المدوية التي هبت على اليمن ورقة التوت الاخيرة التي كانت تستر عورات نخبه السياسية والحزبية والثقافية والاجتماعية فقد بدت هذه النخب عاجزة عن احراز أي تقدم يحقق اختراقًا في الازمة الراهنة والتي ما كان لها ان تصل الى مثل هذا الانسداد لولا سلبية تلك النخب وانغماسها في البحث عن مصالحها الضيقة وعدم مبالاتها بمصالح اليمن العليا ووحدته وأمنه واستقراره. هناك من يلقي باللائمة على الرئيس باعتباره المسؤول الاول عن كل الثغرات والإخفاقات التي اصابت المرحلة الانتقالية بوصفه من يتحمل المسؤولية الكاملة عن الفشل الذي منيت به عملية الانتقال والأخطاء التي رافقتها وهناك من يلقي باللائمة على حركة انصار الله بقيادة عبدالملك الحوثي ويتهمها بأنها من استغلت اخطاء الرئيس من اجل توسيع نفوذها والسيطرة على معظم جغرافية الشمال واستخدام الحل الثوري بهدف الاستيلاء على مفاصل السلطة واقامة دولة خاصة بها في الشمال بمعزل عن ارادة المناطق الاخرى في الجنوب والشرق والتي تحمل موقفًا مغايرًا تجاه هذه الجماعة، وهناك من يلقي باللائمة على الاحزاب السياسية التي غابت عنها العقلانية لتصبح جزءا من المشكلة بدلا عن ان تكون جزءا من الحل وهناك من يرى بأن المشكلة اصلا هي في مخرجات الحوار التي انتجت حالة مشوهةً وجاءت بمولود خداج غير مكتمل جعل الساحة تشتعل من جديد في مزيد من الخلافات والتباينات ومزيد من التقاطعات.. الواضح ان اليمن يعيش اليوم حالة مضطربة ورمادية متقلبة وإنه الذي يغرق في ازمات متلاحقة ومركبة تحول معها الى ما يشبه طاحونة تمزج المشكلات والأزمات بعضها ببعض ككوكتيل لا يعرف اوله من اخره الى درجة صارت فيها هذه الازمات جزء من حياة الناس وتفكيرهم ان لم تكن قد تسللت الى جيناتهم فاستوطنت فيها ومع ذلك فإن ما جرى بفعل انقسام البلاد بين شرعيتين قد وضع اليمن على مفترق طرق مما يخشى معه انزلاقه في مستنقع التفتت والتجزئة وتمزقه ليس فقط الى شمال وجنوب وانما الى دويلات متناثرة ومتناحرة خصوصًا بعد ان وصلت حالة الاحتقان بين تلك الشرعيتين التي تتمترس احداها في صنعاء مقابل الاخرى في عدن الى اقصى مستويات التشنج. مطلوب من العقلاء في هذا البلد فعل الكثير لإعادة تصويب الاوضاع وعدم تركها نهبًا للخلافات والصراعات.. مطلوب من الرئيس ان يبذل جهدًا اكبر لفتح الخطوط والتشاور مع كافة الاطراف السياسية والمكونات الفاعلة على الارض بما فيها جماعة انصار الله (الحوثية) وبما يسهم في الوصول الى حل وسط، وفي المقابل فإن المطلوب من تلك الجماعة المزيد من التعقل والتراجع خطوات الى الوراء من اجل الوصول الى معالجة واقعية، حيث ليس من مصلحة هذه الجماعة فتح اكثر من جبهة في ظل الظروف الاقليمية المعقدة وليس من مصلحتها ان تبقى الساحة اليمنية متوترة ومنقسمة على نفسها، كما ان المطلوب من الرئيس والجماعة معًا إعطاء اشارات ايجابية لتهدئة خواطر الناس عن طريق التأكيد بإن الغلبة ستكون في النهاية للحكمة اليمانية وان مشكلات اليمن مهما كان حجمها ليست عصية على الحلول التي يمكن التوصل اليها بقليل من الصبر وكثير من الفهم وصدق النوايا. وإذا ما تعذر الوصول الى مثل هذه الرؤية واستمر كل طرف متمسك بشرعيته التي يعتقدها فإن الاولى بالرئيس وجماعة انصار الله والقوى الاخرى العودة الى الشعب والاحتكام اليه عن طريق التعجيل في اجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وتسليم السلطة لمن ستأتي بهم صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية وذلك افضل الخيارات والبدائل التي من شأنها فتح المسالك المغلقة وحماية البلاد من السقوط في متاهات الانقسام والتشرذم والتقاتل الداخلي. اليمن في هذه اللحظة الفارقة والحاسمة بحاجة لقادة كبار.. كبار في العقل وكبار في الصبر وكبار في الرشد وكبار في الحكمة وكبار في احتواء المشكلات والأزمات.. ليس الكبار الذين يشغلون انفسهم في حسابات السلطة او النفوذ او المصالح الضيقة.. وليس الكبار الذين يرون ان اليمن لا يتسع الا لهم وحدهم.. وليس الكبار الذين يتشبثون بالمبدأ الشمشوني (انا ومن بعدي الطوفان جريدة الشبيبة العمانية