دخلنا ديوان صديقتنا الرائعة التي دعتنا قبل منذ آلاف السنين للذهاب الى منزلها للالتقاء و تبادل الاحاديث ، و للتعرف على وجوه جديدة. كان الديوان رائع و مشمس ، رائحته جميلة و الوان القماش راقية والجدران مبهجة. فعلا ديوان جماله و دفئه ملموس كسحر صنعاء و دفء عدن . ديوان متوسط الطول ، متوسط العرض غير ان فيه عيب كبير، فليس فيه منفذ للهواء الا نافذة واحدة في رأس الديوان شديدة الطول و الُعرض. حين دخلت كانت الجهة اليمين مصفوفة بالضيفات ، و كذلك الجهة اليسار الى درجة الزحام. داهمتني فوبيا الموت اختناقا من تكدس الكتل البشرية بتلك الطريقة المتلاحمة، وجدتني مضطرة للجلوس اعلى الغرفة حيث ظلت خاوية لم يجلس فيها احد. نخاف نحن اليمنيين من اتهامنا بالغرور اذا اخترنا رأس الغرفة او " علاو المكان" كما يسميه اهل صنعاء. نظرن كلهن اليَ لجرأتي في اختيار" علاو المكان "، وانا فقط اردت ان اجلس، لم اكن اعي ما الخطير في الأمر. فقد اخترت ذلك المكان ببساطة لأنني لم اجد سواه . مع توافد ضيفات الى الديوان بدأن النساء يشعرن بسخونة الجو وحرارة دخان التدخين و الانفاس معا ، ومنهن من خاف ان يفسد التعرق تسريحة شعورهن ، ومنهن من لا يطيق الجلوس في مكان مزدحم و الهواء مكتوم . اقترحت احدى الفتيات ان نفتح النافذة العملاقة خلف رأسي و ظهري فقمت فورا بلا تردد و فتحتها بنفسي وجلست وسط ذهول واضح و تبادل نظرات تعجب ، وتحديق عيون لم افهمه عندئذ. سألتني احداهن بشفقة :-" الن يضرك الهواء الذي يدخل الان باردا عليلا و انتِ مثلنا تشعرين بسخونة الجو من ازدحام الغرفة؟" اجبتها :- " تقصدين انني قد امرض؟ الله كريم ، لا أمرض عادة من هواء النوافذ. لكن كثيرا ما تعلني ملاحظة اهواء الناس. " ابتسمن لي العديد من النساء و نظرن الى كمن ينظر الى طفل برئ مضحي، سيلقي بجسمه من طائرة في الجو ستسقط بكل من فيها ما لم يرمي احد الركاب نفسه منها فكنت انا كما بدا لي ذلك الطفل البريء. اضفت لأبرر تصرفي الذي لا شك ان كثيرات منهن اعتبرنه "ارعن " :- " الذي نخاف منه ما يجيش احسن منه. الهواء جميل ." عادت النساء لتبادل الحديث و حشو القات في خدودهن و سرعان ما عاد الدخان للارتفاع اعلى سقف الغرفة. بعد قليل عطست الشابة التي تجلس على يميني، لطمت خدها بخفة قائلة:- " يا الله ! اُصبت بالزكام ! اصلا احنا حاميات و الهواء بارد." اجبتها :- " ما يفتح الانسان الطاقة الا اذا كان حامي. اما اذا هو بارد فمحد يشتي طاقة تنفتح." رمقتني باستخفاف واضح لما قلت بدا جليا في تقطيب جبينها، و بسمتها المستهزئة ثم جذبت منديل تمسح انفها قائلة :- " لا لو سمحتي ، غلقي الطاقة ، مش وقت فلسفة." استغربت الرد الخشن وقمت لأغلاق النافذة بينما فاجئنني سيدات عدة كن ابعد بكثير منها عن النافذة بالزعيق و الاعتراض :- " لا ، لا ، لأااااا لا تصدقيهاش. قد الديوان تنور! خلي الطاقة مفتوحة. و الذي بتضره الريح يسير مكان بعيد من الطاقة." احترت ماذا افعل ، نهضت لأغلق النافذة فسألتني لي التي اصيبت بالزكام :- " و انتي من قالش افتحي فتحتي و من قالش غلقي غلقتي ؟" انزعجت من قصدها انني بلا رأي خاص بي. تركت النافذة مفتوحة قائلة :- " انا لو علي اخليها مفتوحة. بس انا قصدي اننا مش وحدي في الديوان ، لازم نشوف اراء الكل." نظرت الى تلك الشابة نظرتنا لشخص يحاول ان يتدمقرط في بلاد الجرب ! اخرجت الشابة شال فلفت اكتافها و صدرها بغمغمة :-" تمام ، اترتاحين لما امرض انا." جلستُ مرة اخرى. دخلت سيدة متقدمة في السن ، تبدو جدة وصلت في تلك اللحظة و ما ان لمحت النافذة مفتوحة على مصراعيها حتى زجرتنا بالجملة :- "زكاكن عقولكن ! فاتحات الطاقة و انتين حاميات؟ الشانني عيمرضكن. غلقين الطاقة، غلقوا روسكن." كانت سيدة كبيرة في السن ، تضاحكنا جميعا من قبح دعاءها، قد بنأكل و نشرب و نموت ، ايش عاد باقي رووس مغلقة اكثر من هذا؟ ، و احتراما لأقدميتها في الدنيا قمت و ما ان كدت اغلق النافذة حتى سمعت الشابة تعطس و هي تقول :- " و الفعلة ! قد قلبين الاخت هذه لعبة. افتحي غلقي. وتية الِعجبة و لا بتعترض و لا ترفض!" استأت منها فعلا استياء أي انسان من آخر يصفه " بالعجبه"!! جاءت صاحبة البيت ترحب بنا. صارحتها انني لم ارتح في مكاني. قالت بأنها ستجلس الأن بجانبي لأن ضيوفها قد جئن كلهن و بإمكانها الجلوس الأن. جلسن بينما بدأت بعض الشابات بالتلويح بعلب المناديل ، اخرجت احداهن مروحة و بدأت تلوح بها بضيق وتأفف. علقت صاحبة المنزل :- " قد الطيرمانة بتتشطب في الدور الرابع و قد فعلناها كلها طياق. اترتاحين قوي فيها. لا عيكن فيها لا حمى و لا شانني." اما انا فكنت لا أذكر هل النافذة مغلقة ام مفتوحة لذا كنت دائمة الالتفات اليها لأعرف هل اشعر بالحر ام بالبرودة؟ رأيت السيدة المتقدمة في العمر تحشر مقرمتها ما بين الوسادتين خلف ظهرها و تضع امام زجاج النافذة وسائد قائلة :- " انا و الشانني ما نسدش! يعمل لي عصبة. اخاف من الشانني خوفي من الموت." استغربت لتوهمها ان الهواء سيمرضها و هو آت من مساحة ضيقة بين وسادتين يستندن اصلا على جدار و ليس على شاطئ في هاواي. قامت شابة و واقتربت من مالكة المنزل و وشوشتها في اذنها ثم غادرت الديوان. بعد خروجها قالت صديقتي مالكة المنزل :- " قد قالت عتروح بيتها الأن لأن الديوان حامي و ان بعض النساء بيتحكمين في الديوان كله و هذا غلط ، لأن لازم رأي الأغلبية هو الذي يمشي . مش رأي الخائفات من وهم اسمه الشانني. هذا كلامها هي ، انا مابش لي دخل. كلكن فوق عيني و رأسي " اجابت احدى السيدات قائلة : -" لا بس الشانني مش وهم. فعلا الهواء الذي يأتي من الثغرات و الفراغات و الشروخ قاتل فما بالك بهواء يهب من نافذة مفتوحة على مصراعيها وجميعنا نشعر بالسخونة و التعرق؟" بدأت السيدات ينتقدن الشابة التي غادرت الديوان و وصفنها بانها تقلد " الغرب" ، حاولت جاهدة ان اجد علاقة بين فتح نافذة و بين تقليد الغرب فلم اجد . شعرت انا بالحرارة وتعاطفت معها فهتفت مقررة ان اكون حرة و لو لمرة في حياتي :- " والله ان عندها حق. انا حفتح الطاقة و الذي مش عاجبه يعمل شال او يقوم الغرفة الثانية." فتحت النافذة وقد سيطر علي غيظ من "قلة" تريد فرض هواها في ديوان يساع مليون انسان ، و هب الهواء رائعا و عطرا من مروره بأوراق و زهور الياسمين و الريحان في حديقة صديقتي. قمن بعض النساء من الديوان و انتقلن للجلوس في الصالة كنوع من التعبير عن الرفض لفتح النافذة و لعدم الانصياع لمن يحاولون تقليد الغرب و امريكا تحديدا يعني في فتح النوافذ وقت تخزينة اليمنيين ، خرجن الى الصالة التي كانت اوسع و الضيفات فيها اقل عددا. كانت المتبقيات في الديوان ذو النافذة المفتوحة هن من انصار الهواء و التنفس و الصحة و الحرية. اما من خرجن فكن من الخائفات من ركام الاوهام في رؤوسهن من المرض و العصبة و الشانني والفتلة وهذا الكلام الغبي، السمج كله. بعد قليل راحت صاحبة البيت لتطل على ضيفاتها في الصالة و عادت لتسر الينا بوجه مكفهر ان صديقاتها في الصالة ابلغنها انها المرة الأخيرة التي يقبلن دعوة منها ما دامت تعزم الى بيتها " متفرنجات" ... رجوتها الا تتكدر و همست في اذنها:-" طز فيهن ، المركب اللي تودي." لكن عندما لاحظت حزنها سارعت بالخروج لإقناعهن بالعودة الى الديوان. عاد البعض منهن و لكن بغضب و عصبية. قالت احداهن :-" الديوان ضوء و مرتب و جميل. باي حق ترزعيننا في الصالة خارج مقابل الحمام؟ يالله !و لا عاد طاقة تفتتح! " اجابت احدى الجالسات :- " احنا ما خرجنا احد ياختي ، هو حقكم الشانني خرجكم." اسكتها حتى لا يتفاقم الموقف. جلست السيدة التي كانت قد خرجت قائلة:- " ذلحين غلط مننا لو خفنا من الشانني؟" ذهبت اليها على ركبي من التعب و اكدت لها ان "الشانني" لهو من الد اعداء البشرية و ان من الحكمة بمكان تشميع النوافذ بالشمع الأحمر حتى لا تسول نفس أي اجنبي مرتزق ان يفتح نافذة، الشانني ؟! ما ادراك ما الشانني ، انه القشة التي قصمت ظهر البعير اليمنيين. قصمنا ظهور بعيرنا من اجل قشة! من اجل خمسمائة ريال في جرعة. من اجل صرخة من اجل زامل من اجل كلام طبول و الطبل كذبة! و كل هذا من اجل الشانني ولتجنب اذاه العظيم. قالت احدى الجالسات :- " يعني و احنا نحمى و نتبلل عرق؟ شي مقزز والله ، كيف تتحملين تجلسين هكذا؟" رفعت صوتي لإسكاتهن بعد ان رأيت صديقتي تكاد تلطم خدها. بعد قليل عادين السيدات ابو شانني دوت كوم جميعهن للديوان و بقت النافذة مغلقة. كنت انا اجد الجو حارا فعلا لكنني لم اجرؤ على فتح فمي. لا نريد الاحتكاكات التي قد تؤدي الى مشادة غير لطيفة بين سيدات مجتمع يفترض انه مخملي في جلسة. كان عدد من اردن فتح النافذة 11 و انا رقم 12. وعدد اعضاء ميليشيا الشانني 8 لكنهن كنا قويات و صارمات و السنتهن مشارط . بعد قليل اغلقن الستائر و كانت الدنيا لا تزال نهارا مضيئا ، ثم منعن فتح أي اغاني بحجة انها تدعو للفحش ، ثم بدأن ينتقدن ثياب الحاضرات ، لاحقا سألن المدخنات لماذا تدخنين شيشة ؟ قالوا فيها كحول و نسبة مخدرات ؟ ماذا جاء بكن اليوم اصلا ؟ هنا احتد النقاش حتى قالت احداهن للأخرى :- " احترمي الشانني ." ورمت احداهن علبة المناديل على وجه الاخرى. قامت صديقة تلك فسكبت ماء الشرب في وجه هذه فردت الأخرى بصب الفمتو على شعر الأخرى . ثم بدأت وسائد الديوان تتطاير ونال التلفزيون البلازما من التراشق بالوسائد ما ناله فسقط متهشما جزيئات صغيرة، صاحبة المنزل كانت تحاول فض التشابك بلا جدوى اما انا فأصبت بالذهول لما حدث. رأيت شرخ في الجدار. الديوان يا ناس يتصدع! كانت العصائر و المشروبات الغازية قد ُسكبت على الأرض ، و الجمر فوق الشيشة قد تساقط فأحرق السجاد و ثياب بعض الحاضرات. كذلك كن السيدات يصرخن و يركضن في اتجاهات عدة من الديوان خوفا من اصابة رؤوسهن بكأس طائر. صحت فيهن و لا من مستمع ، يا خواتي اذا ما عتحترمينش انفسكن كان خافين على الديوان ، هل ستدمرين الديوان عشان " الشانني"؟ ماهي الا دقائق ونسمع صاحبة المنزل تصاب بالاختناق لأنها كانت تصيح و القات في فمها فأشترغت كما نقول نحن اليمنيين ، ولم تلتفت اليها ضيفة. ماتت يا رحمتاه و تدمر ديوانها معها بسبب ضيوف "قلة" يريدون فرض رأيهم الغلط الأعوج على الأغلبية و على مالكة البيت الشهيدة الأبية. يريدون بقوة الصوت و اليد ان تكون لهم اليد العليا ، ناس لا يميزون بين الديوان و فوهات الكهوف التي اعتادوا ان تأوييهم. ناس يريدون ان يلونوا اليمن بلونهم، و اليمن ما ُسميت يمن الا لأنها بيضاء نقية. ان يجعلوا الناس جميعا تحت نعالهم. ناس قلة ، شوية ، لكن لهم الصوت العالي و اليد القوية. روحين يا شوية خائفات من الشانني الله يجعل لكن شانني يبكيكن مثلما ابكيتننا على ديواننا مطر، و على مداكينا انهار و على وطننا شلالات سخية ... نشرتم لغة السلاح ، فكشطتم من اليمن ثقافتها بكل هذا الجهل و الأمية ، فصرنا اليوم بسببكن لنا ديوان مدمر... و وطن بلا هوية! روحوا الله لا غفر لكم ، و لا تاب عليكم الا اذا غفر لإبليس ذنوبه العصية! لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet