في صيف 94 نتذكر جميعا أن حملة التحريض والتجييش والتحشيد للحرب، كانت تعتمد على اسثارة الحماس الجهادي، أكثر من اعتمادها على استثارة الحماس الوحدوي، داخل العاطفة الشعبية القابلة للتفاعل السريع مع أي خطاب ديني عقائدي، ولم تندلع المعركة إلا بعد أن تمت تهيئة الوعي الشعبي والحماس العسكري بأن ثمة فئة كافرة ينبغي جهادها وتطهير البلاد منها. كان تكثيف المحاضرات في المساجد وفي المدارس وفي المقايل، يهدف إلى رسم صورة مشوهة للجنوبيين وللاشتراكية في ذهنية المواطن اليمني في الشمال، خصوصا قبل أن تندلع الحرب، وقبل تدشين حملات الاغتيالات بفترة كانت كافية لتكوين موقف عاطفي عقائدي ضد أبناء الجنوب، ليصبح في ما بعد مهيأً وجاهزاً لتلقي مبررات الجرائم التي سترتكب في حق شعب بكامله، والنتائج التي ستنعكس على مشاعر الجنوبيين، بل وقد يصبح الوعي المجتمعي منتجا لتلك المبررات. ولعل من المهم التنبه إلى أن ما حصل في صيف 94، وما نتج عنها من توجه شمالي عام لتصفية الجنوبي وإسكاته وإقصائه، واستباحة أرضه وممتلكاته ومواطنته أيضا.. وصولا إلى هذا الواقع.. ليس إلا ثمرة خطاب التحريض العقائدي الجهادي، ونتيجة للشحن العدائي الموجه دون تمييز نحو شعب الجنوب. لم يكن الخطاب السياسي لينجح في تأليب الناس وتجييشهم للحرب بتلك الصورة، ولم يكن لينتج كل تلك الفظائع، وذلك الوضع الذي صرنا نشاهده.. ليس لأنه بريء، بل لأنه كان يمكن أن ينجح في التحريض ضد الموقف السياسي والشريحة السياسية والمصالح السياسية، وبالتالي لم يكن الحال لينسحب على المواطن والشعب، ولم يكن ليتحمس المواطن الشمالي لقتل أخيه الشمالي وفيده واستباحة أرضه، والتعامل معه بدونية، لولا الاعتقاد أن كل ذلك حلال وجائز شرعا. وهذا الاعتقاد لا يمكن أن ينجح في تكريسه خطاب سياسي دون أن يستخدم الخطاب العقائدي التكفيري. ما ينبغي التركيز عليه اليوم، في ظل كل هذه الدعوات المطالبة بالاعتذار للجنوب، والتي تتبناها القوى الوطنية والسياسية والشبابية والحقوقية، هو معرفة الجهة التي يجب أن تعتذر، وكيف تعتذر، وعن ماذا سوف يكون الاعتذار، وما الذي ينبغي أن يترتب على الاعتذار.. فلا يكفي أن يعتذر المتورطون في الجريمة من العسكريين والساسة، بل يجب أن يعتذر أيضا، وبشكل أساسي، الذين استخدموا سلاح الدين في الجريمة. وكما ينبغي أن يعترف العسكريون والساسة بالخطأ، ينبغي على رجال الدين أن يعترفوا بالخطأ في حق أبناء الجنوب، وأن كل ذلك التحريض وتلك التهم وذلك التكفير الذي طال أبناء الجنوب، كان خطيئة، ولم يكن القتال جهادا، ولم يكن الفيد غنيمة شرعية، وأن تلك الفتاوى كانت خطأ كبيرا. الأهم من ذلك أن يترتب على ذلك الاعتذار إبعاد الدين عن الصراعات السياسية، وعدم استخدام رجال الدين للتجييش الداخلي لغرض القضاء على مكون داخلي أو إضعافه أو عزله اجتماعيا وسياسيا.. كما حصل في صيف 94، وفي حروب صعدة أيضا.. ليكون الصراع السياسي نظيفا وشريفا قائما على أساس البرامج الوطنية والسباق الشفاف في سبيل مصلحة الوطن.