عندما اندلعت حرب تخفيض أسعار الصحف البريطانية قبل سنوات، كان الرأي السائد حينها أن التخفيض لن يكون أكثر من مجرد إصلاح على المدى القصير، لأن أسعار الصحف لا توفر عائدات تدخل في حساب الاستثمار. فيما كان الرأي الأقل اهتماماً يرى أن سعر الصحيفة يمكن أن يكون أداة قوية في الترويج وقد تؤثر على مستوى الأسواق المستقرة. اندلعت حرب تخفيض أسعار الصحف في وقت كان لا يزال لدى المسؤولين الانطباع العام، وبعد أكثر من عقد ونصف العقد على بدء الانتقال إلى التقنية الرقمية، «إننا لا نزال أمام بدايات التفكير في كيفية التعامل مع التراجع الكبير في عدد القراء التقليديين». واليوم يكاد يتحرك مؤشر أسعار الصحف باتجاه مختلف وللسبب نفسه، فقد اعتمدت غالبية الصحف البريطانية على القطع المتوسط متخلية عن تاريخ من القطع الكبير، مع ارتفاع مطرد في أسعارها. صحيفة (الغارديان) على سبيل المثال، شهدت انخفاض نسبة التوزيع بمقدار 50 % منذ عام 2004م، ولكن سعر الغلاف قد تضاعف ثلاث مرات من نصف جنيه إسترليني إلى 1.60 جنيه اليوم. عموماً، ارتفعت أسعار الصحف البريطانية اليومية خلال تلك الفترة بمعدل 94 % بينما انخفضت التداولات في الوقت نفسه، بنسبة 47 % في المتوسط. وليست هناك علاقة مباشرة بين ارتفاع الأسعار وانخفاض نسبة التوزيع، كما تشير الأرقام الرسمية. ولم يتناسب هذا الارتفاع مع معدل التضخم على الإطلاق كي يتم إيعاز السبب إليه. ولكي نستطيع تصور المؤشر الاقتصادي في هذه المعادلة الصحفية يكفي العودة إلى خلاصة دراسة أعدها «بيو ريسيرتش سنتر» توصل فيها إلى أن «في مقابل كل دولار يكسب على الصعيد الرقمي، تتم خسارة سبعة دولارات على صعيد رقم أعمال النسخ الورقية». فهل أدرك المسؤولون أن تغير سلوك القراء لم يعد قابلاً للتراجع، وقطع الصحيفة ومحتواها يجب أن يتوافقا مع السلوك الجديد. القطع الصغير للصحف بصفته نموذجاً اقتصادياً حل مكان النموذج التقليدي المزدهر في السابق، يحمل دلالة متسقة مع طبيعة المحتوى، لكن هل إدارة الصحف تمتلك ما يكفي من الثقة كي تجعل القراء يستمرون في الدفع لاقتناء الصحيفة الورقية مع تراجع نسب التوزيع؟ ثمة رأي يرى أن الاستثمار يجب أن يكون في «القراء الأوفياء» للصحيفة تحديداً لأنهم على استعداد لدفع المزيد من الأموال من أجل اقتناء الصحيفة! لكن إلى متى يبقى الوفاء للصحيفة الورقية مع توفر البدائل الإلكترونية وتصاعدها. يمكن استعادة جملة «القراء الأوفياء» للحصول على إجابة مقبولة، لأنهم سيبقون أوفياء عندما تخلص الصحف لرغباتهم المتغيرة، وتكون سلتها الإخبارية بمذاق مختلف عما طبخته القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت في الليلة السابقة. انخفاض توزيع الصحف البريطانية إلى معدل النصف في السنوات العشر الماضية، يعود في مجمله إلى صعود الإنترنت، وجمهور القراء الأصغر سناً الذي لم يعد يغريه مقهى الصحف الورقية، فجهازه اللوحي أقرب إليه من الصحيفة الورقية وإن تغير قطعها إلى النصف، وعدد هذا الجمهور يتضاعف مقابل جمهور «ورقي» يقل عدده بنفس مقدار تصنيع الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية. وليس أمام الصحف إلا إدراك أن معادلة اقتناء جهاز ذكي جديد يقابل فقدان قارئ ورقي، واستعادته لا تتم إلا بتقديم محتوى متميز.