كلما شاءت الأقدار أن ألتقي بمنصور الموظف المسئول بجامعة صنعاء وهو من أبناء (سامع) الشامخة في أروقة الجامعة، كان دائما يبادرني متبرماً مستنكراً ساخطاً بترديد ذات السؤال: هل يتفق معك العم أحمد فيما تذهب إليه من أفكار وأطروحات في مقابلاتك التلفزيونية ومقالاتك الصحفية؟!، وفي كل مرة يمضي منصور مهرولاً دون انتظار سماع ردي علي سؤاله الحائر المتكرر، والذي يكاد هو أن يجزم بأن ردي سيكون بالنفي، ولعل ذلك هو ما يفسر انصرافه فوراً دون انتظار سماع الرد، ولو أن منصور كلف علي نفسه الانتظار قليلاً لكان قد تلقى رد يصعقه ويخرس فمه ويجعله يكف عن ترديد ذلك السؤال مجدداً إن شاءت الأقدار تلاقي وجهينا مجدداً. ?ن العم أحمد كانت عيناه تفيض بالدمع كلما مر علي مسامعه نعيق بعض (الغربان) التي (رحلت) الآن وتطهر (اليمن) العظيم من جيفها التي كانت تُزْكِم الأنوف، تلك الغربان التي كانت ومازالت تضفي علي نفسها في كل ظهور تلفزيوني صفة محلل سياسي عسكري استراتيجي علي شاكلة غُرَاب البَيْن (خصروف)، خصوصاً حينما كان يردد أولئك اسطوانتهم المشروخة الممجوجة عن الجيش العائلي الذي يتخذ من (عفاش) رباً، وكان العم أحمد يتمتم ووجهه مخضب بدموعه: وهل كنا في زمن (الصالح) نعبد غير الله ؟!. وما ? يدركه منصور ويتعامى عنه خصروف أن (عفاش) وحده - وفق ما يشهد به العم أحمد - من بين كل من سبقه في الجلوس علي كرسي الرئاسة، هو الذي أفسح المجال لأبناء القوات المسلحة والأمن لإقامة شعائرهم الدينية في ثكناتهم العسكرية بكل حرية ودونما خوف أو وَجَل من أي عقوبة قد تطالهم جراء قيامهم بها، بل وأكد علي أن ثبات العقيدة العسكرية لن يتحقق إلا إذا تنامي الوازع الديني لدي أفراد الجيش والأمن ضباطاً وجنوداً، وكان مما حرص عليه طوال فترة حكمه وجود مصلي في كل وحدة وثكنة عسكرية، وتزويد تلك الوحدات بالمرشدين والخطباء وعلماء الدين ؛ ليسهموا بمحاضراتهم وندواتهم وخطبهم في توعيتهم وتنويرهم وإزالة ما قد يلتصق بأرواحهم ويعلق بعقولهم من توجهات فكرية أو سياسية شاذة تتنافي أو تتعارض مع جوهر الدين الإسلامي الحنيف وتعاليمه السمحة. انخرط العم أحمد في صفوف القوات المسلحة في شهر أكتوبر 1962م، أي بعد أقل من شهر من انبلاج فجر السادس والعشرين من سبتمبر المجيد في ذات العام، وتوغل هو وزملاؤه الأبطال من رفاق السلاح في مطاردة فلول الملكيين خارج العاصمة صنعاء، وتعرض في سبيل ذلك للأسر مع كوكبة من زملائه علي أيدي بعض المرتزقة الذين كانوا يدعون صباحا أنهم جمهوريون ويعملون ليلا مع الملكيين، ونجا هو وزميل له من فخ الأسر والإعدام علي أيدي أولئك المرتزقة بأعجوبة وحيلة ذكية، ليواصل دفاعه عن وطنه في جبهة (عطان) أثناء حرب السبعين يوما، وتشاء له الأقدار أن يتولى قيادة تلك الجبهة مؤقتاً بعد استشهاد قائدها، وأثناء ذلك وصلت لمسامعه أنباء ولادة ابنه البكر، فاقترح عليه زملاؤه تسميته (عطان) تيمناً باسم تلك الجبهة التي يقود فيها شرف الدفاع عن الثورة والجمهورية، لكنه آثر تسميته (عبدالرحمن) فكان العين والنون القاسم المشترك بين (عطان) الجبل الشامخ و (عبدالرحمن) الإنسان. هذا العم أحمد رجل عظيم بالمقاييس البشرية، وهو مصدر إلهامي وقدوتي ومثلي الأعلى بعد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، كيف لا؟!، وقد أفنى حياته مدافعاً ومنافحاً – كما أسلفت – عن النظام الجمهوري بأقصى ما وهبه الله من القوة والعزيمة والإرادة الفولاذية التي لا تلين في سلاح المدفعية ثم سلاح المهندسين الذي تشرف بأن يكون أحد مؤسسيه، والذي تحول بعد الوحدة المباركة إلي دائرتين هما : دائرة الأشغال العسكرية ودائرة الهندسة العسكرية. والعم أحمد له دين في ذمة كل من ينتمي لمحافظة (حجة) تحديداً، وكبار السن ومشائخها وعلي رأسهم الشيخ فهد مفتاح دهشوش يتذكرونه جيداً، فما من طريق فرعي يربط شرايين المحافظة المترامية الأطرف إلا وكان لهذا الرجل بتسخير من الله الفضل في شقه وتعبيده، ولعل جبل (حرام) بإحدى مديريات المحافظة ذاتها والذي نال هذا الاسم لعجز كل مهندسي الطرق قبل العم أحمد عن شق طريق فيه خير شاهد حي علي ما لهذا الرجل من مآثر عظيمة خالدة في هذا المجال، ومما هو محفور في ذاكرتي في هذا الصدد مقولة للعميد الركن/عبدالعزيز البرطي حينما كان محافظاً لمحافظة حجة، حينما علق في اتصال هاتفي بقائد سلاح المهندسين آنذاك: إن هذا الرجل يستطيع بمنتهى السهولة القيام بانقلاب أبيض على الرئيس الصالح إن هو أراد ذلك ؛ نظراً لما يمتلكه من شعبية وجماهيرية جارفة في قلوب أبناء تلك المحافظة. العم أحمد الآن متقاعد طريح الفراش مُبتلى صابراً مُحتسباً، نظيف البطن، طاهر الكف، متجرد من أدنى شُبهة فساد، يحتسب كل ما أفنى فيه حياته عند الله، بعد أن وجد كل الجحود والجفاء والإهمال من رفاق السلاح، وربما يكون أولئك معذورين لأن الحياة قد طحنت الجميع، وواقعنا اليوم أكثر من مرير، لكن أن لا تلتفت إليه الدولة ولا يكون لها حتى مجرد إسهام بتأمين الأدوية التي قرر الأطباء أن يتناولها مدى الحياة عقب اعتلال صحته بمرض السكر والضغط والقلب، فذلك أمر مستغرب ومستهجن وغير محمود، وستظل أيها البطل الوطني الجسور شامخاً كريماً عزيزاً كشموخ جبال (عطان) ونقم وردفان وعيبان وكل جبال (اليمن) العظيم الشماء، والله وحده شاهد ومطلع على كل ما احتسبته عنده وأنت تقدم جسدك وروحك فداءً للنظام الجمهوري وتثبيتاً لأركانه، والله وحده يُغنيك أيها البطل الثائر عن كل من سواه، ويقيني بعدالة الله تجعلني واثقاً كل الثقة بأنه سيأتي اليوم الذي يتم إنصافُك فيه بما تستحقه من البشر أيضاً. حفظك الله ورعاك ومتعك بالصحة والعافية والدي الحبيب وتاج راسي العميد مهندس أحمد ناجي فرحان، ولك تعظيم سلام من ابنك المحب المتماهي في حُبك وعشقك لهذا الوطن العظيم، ابنك الذي يفخر بأنه فلذة كبدك وبعضٌ منك، يا من علمته كيف ينبغي أن يكون ولاء الإنسان لله وحده وليس لأحد في الكون سواه، يا من علمته أن حب الوطن والذود عنه بالأرواح لا يساوي مثقال ذرة مما لهذا الوطن من دين في رقاب كل أبنائه، وهو الحامد الشاكر لله على أنه من بين ما أنعم به عليه من نعم ? تعد و? تحصي أنه ولد من صُلبك أنت دون سواك ممن خلق الله من البشر.