يقف الشاب محمد في طابور طويل للدراجات النارية أمام محطة للوقود.. العرق يتصبب من جبينة، والسواد يطبع قسمات وجهه الصغير.. وحدها الابتسامة لا تكاد تفارق شفتية بينما يظل يداعب من حوله من أصدقاء لينسى معاناتة ولو مؤقتا. اليوم الجو حار، والرطوبة عالية.. هكذا تحدث إلينا اول ما اقتربنا منه.. وأضاف: الصوم في فصل الصيف متعب عموما، ما بالكم في ظل هذه الأوضاع المعقدة التي تمر بها البلاد والمحافظة. (بَقْعَهْ رَييضَهْ) وأكمل: تصدق ما يحز في نفسي ليس ما نكابده نحن الان.. لأننا شباب يمكن نستحمل ونصبر، ننام في الشارع.. كل حسب طاقته، بس أهلنا ابائنا وامهاتنا (الشيابه) حقنا (واه يلقون).. أطرق برأسه للأرض، ليحجب عنا رؤية دمعات سقطت من عيناه رغما عنه.. أشغالنا تعطلت، وارزاقنا تقطعت.. وشكلها ماشي انفراجه قريب.. سلطة محلية غائبة، ومجلس أهلي مصاب بالشلل.. الفشل والعجز يلاحقنا مثل ظلنا، وشماعة الاعذار جاهزة.. حضرموت تتعرض لمؤامراة.. حضرموت مستهدفة.. حضرموت خط أحمر.. طيب وبعدين؟!.. صمت لبرهة قبل أن يضيف: لا قبائل نفعت، ولا أعيان اثبتوا كفاءتهم، صدقني محد مخلص في هذه البلاد.. نفسي نفسي، هذا وعاد (بَقْعَهْ) لحد الان (رَييضَهْ).. اطلق ضحكة ساخرة، وهو يتلفت حوالية.. ايوه رَييضَهْ نكذب على انفسنا والله.. لكن (لاقرحت) لا قدر الله تشوف ذيلا قدامك اللي يدعون المسئولية و(يتشبحون) في (التصاوير) بتلقاهم شريد، ولاحد بيقبل بك.. ودعنا محمد وهو يسحب دراجته النارية، ليصطف في مكانة ضمن الطابور الذي يتحرك ببطأ، مثل السلحفاة. اخترقنا شوارع جانبية في المدينة، بعيدا عن الضوضاء، وبحثا عن ظلال يقينا من حرارة الشمس الحارقة، عناصر من تنظيم القاعدة ممن يطلقون على أنفسهم أسم أبناء حضرموت، كانوا يجوبون الطرقات بأسلحتهم الخفيفة على متن سيارات رباعية الدفع.. ويوزعون نظراتهم الصارمة على وجوه الغرباء.. كما أنهم لا يترددون في استجواب من يثير في نظرهم الشكوك ويخضعونة للتحقيق إذا تطلب الأمر. هذا ما نخشاه.. وملينا الشكوى أصابنا التعب، وداهمنا الإرهاق.. فجلسنا نلتقط أنفاسنا.. نمسح العرق الذي بلل ملابسنا، وساح من أجسادنا.. إلى جانبنا جلس رجل تجاوز الثلاثينات من العمر.. من هيئتة.. يبدو أنه كان مهتما بإناقتة ومعتنيا بهندامة وشكله الخارجي.. لكن شيء ما طرأ على حياته، وقلب كيانه رأسا على عقب.. فشعره اشعث.. ودقنة تعرض لمجرزة حلاقة أو قصف عشوائي بالمقص وشفرة الموس.. ثيابه رثة.. وحذاءه مطليا بالغبار وبقايا (خلب)..حاولنا أن نستنطقة.. لكنه ظل ينظر إلينا في صمت وريبة.. وبعد ان اطمئن قال: نحن الان أصبحنا نجهز أنفسنا لما هو أسوأ.. ما نخشاه أن نصحو في يوم على أصوات القنابل والمدافع وقصف الطائرات.. أن نخرج إلى الشوارع لانعرف من هو الصديق من العدو؟.. لمن نلجأ ونختبئ ممن؟.. أن لا يصبح أمامنا من خيار سوى التشرد والنزوح!.. سكان هذه المدينةوحضرموت عموما مسالمين.. وبإمكانك القول سلبيين أيضا.. جعلوا من أنفسهم لقمة سائغة من السهل التهامها، وأغرب ما فيهم أنهم يشكون دائما، أضاعوا وقتهم في الشكوى واتهام الاخرين بأنهم اكلوا حقوقهم ونهبوا ثرواتهم، التي لم يدافعوا عنها ولم يحموها أصلا، نهض الرجل وانصرف فجأة، دون ان يمهلنا حتى فرصة التعرف عليه.. أو توديعة على الأقل. مدرسة حضرموت المستهدفة دنى موعد اذان المغرب، وبات الوقت المتاح أمامنا لانجاز المهمة الصحفية قصير نسبيا.. نسائم الهواء العليل التي تسربت من جوف البحر بعثت فينا الحياة مجددا.. ذكرتنا بالأيام الخوالي في مدينة المكلا.. ارتحنا قليلا واعدنا شحن طاقة أجسادنا المنهكة.. من ثما دخلنا إحدى المحلات الشعبية لبيع البهارات.. رجل كبير بالسن استقبلنا بحفاوة.. مهد أمامنا الطريق للجلوس فوق كراسي خشبية.. صناعة محلية.. وخاطبنا قائلا: حضرموت حاليا تعيش واحدة من أخطر المراحل التي واجهتها.. أنها تخوض مواجهة مصيرية في سبيل الوجود والبقاء.. حضرموت كمدرسة عبر التاريخ عرف عنها الوسطية والاعتدال، لكن هذه المدرسة يجري الان استهدافها بشكل منظم، وممنهج، منذ وقت طويل طبعا، ردة الفعل المجتمعية للأسف كانت سلبية، ظلينا نراهن على النظام وعلى تدخلات النظام، واخيرا ادركنا أن كل ما أصابنا صنيعة النظام.. من البداية جرت عمليات جس نبض لنا كحضارم.. لمعرفة مدى قوتنا وتكاتفنا وقت الصعاب والشدائد.. اغتالوا مشائخنا وعلماء الدين وضباط ورجال أمن.. مالذي فعلناه لا شيء باستثناء الهبة الشعبية بعد اغتيال الشيخ بن حبريش.. والتي كما تعرف أجهضت من الداخل وأصبح ختامها رز على قولك.. ولا تنسى جريمة ذبح جنود عزل في القطن بوادي حضرموت.. كلها مقدمات للنهاية التي نقف أمامها مذهولين اليوم دون ان نحرك ساكنا.. اعتقد أنه قضي الأمر، ما باليد حيلة، كل شيء انتهى. مع وضد المجلس الأهلي غادرنا المحل بعد أن توافد الزبائن إليه لشراء حاجياتهم.. طفقنا نسأل عن قيمة المواد الغذائية التي بدءت غالية كما ان أسعارها تقريبا غير موحدة.. شدنا حديث جانبي بين شخصين.. كان احدهما يحذر من عودة معاناة انقطاع التيار الكهربائي وعجز المجلس الأهلي عن القيام بمهامه، كما أبدى استغرابه من الحملات الإعلامية التي انحصرت في مهاجمة خالد بحاح نائب الرئيس اليمني ووزير النقل بدر باسلمة فقط، رغم اعترافه بفشلهما الذريع.. واضعا علامة استفهام حول أداء قيادة المجلس الأهلي التي كانت هي الأخرى في الرياض قبل أيام ولم تكشف للمواطنين عن طبيعة زيارتها والانجازات التي حققتها في مجال الإغاثة وتأمين المساعدات وتوفير المشتقات النفطية لتشغيل محطات الكهرباء في المحافظة.. رد الطرف المقابل جاء سريعا.. فلولا المجلس الأهلي لما بقيت مظاهر الحياة صامدة في مدينة المكلا.. هكذا قال بالحرف.. فالمجلس الأهلي يقوم بجهد يشكر عليه ويتحمل مسئولية جسيمة في ظرف حساس ومعقد، وفيه من الكفاءات من ابناء المحافظة من يحظون بكل الاحترام والتقدير والثقة والنزاهة.. كما أنه أكد أن وجود ابناء حضرموت ويقصد تنظيم القاعدة شكل عامل ردع بوجه أي محاولة لاقتحام المحافظة واحتلالها، ولا تنسى أنهم يلبون نداء كل مستغيث، ويقومون بحفظ الأمن.. دون أن ينكر أنه امن قد يبدو هشا، ولكن وجوده أفضل من عدمه، على حد تعبيره. رسالة للمواطنين: شخص اخر قاطعة بحدة: عن أي أمن تتحدث يارجل اتقي الله، شوف للوجوه كيف الرعب مسيطر عليها، الناس تمشي وفرائصهم ترتعد، ما يدرون الموت من وين بيجيهم من رصاصة طائشة ولا عبوة ناسفة ولا شريحة أو صاروخ من طائرة من دون طيار، الناس تموت مائة مرة في اليوم من الغلاء والأمراض والخوف.. وختم حديثه الصاخب بالقول: حتى عمليات الإعدام التي نفذت في المكلا هذه رسالة ترهيب للمواطنين، حتى لا يتجرأو يقولوا للتنظيم كلمة كفاية أو لا. كلمة المحرر.. مايزال النقاش حتى اللحظة ملتهبا في حضرموت.. وكلما يعتقد البعض أن العقدة في طريقها للحل.. يطرأ تطور جديد يربك كل الحسابات.. كان اخر هذه التطورات الانباء التي تحدثت عن تحرك قوة ضخمة بقيادة هاشم الاحمر لقتال الحوثيين انطلاقا من حضرموت.. ما يعني توريطها فعليا في حرب بالوكالة، اسوة بما جرى في محافظات جنوبية من قبل وفي مقدمتها العاصمة عدن، حيث اضطر رجالها لحمل السلاح للتصدي لجحافل الغزو القادم من الشمال.