«تصطاد» إسرائيل يهود العالم العربي فرداً فرداً، بعدما اصطادتهم بالعشرات والمئات في العقود الماضية، في عمليات عسكرية واستخباراتية ومنها عملية «بساط الريح» الشهيرة في اليمن. هل تخشى إسرائيل عليهم من بيئتهم التي ولدوا فيها ونشأوا وورثوا حضارتها، أم أنها تحتاج إلى جذور اليهود الشرقيين لتغرزها في أرض فلسطينالمحتلة التي لا تملك فيها أثراً حضارياً يبرر أكاذيبها؟ لم يحمل «بساط الريح» يهود اليمن والعراق ومصر وسواها إلى بلاد تشبه عالم «ألف ليلة وليلة» بل هو نقلهم من عزلة إلى عزلة أشدّ وطأة. وقد يكون حالهم في أرض العرب أفضل كثيراً من شروط حياتهم في إسرائيل، هم الذين يمثلون الطبقة الإسرائيلية الأدنى والذين يواجهون تمييزاً دينياً وعنصرياً في آن واحد. ولا يمكن تناسي فضيحة الألف طفل الذين فُقدوا من مخيمات اليهود اليمنيين ما بين 1949 و1951 بعدما نقلتهم إسرائيل من بلادهم. لم يُفقد الأطفال بل خُطفوا ليوزعوا على عائلات اشكنازية ثرية تبنتهم بغية إلغاء ذاكرتهم الأولى.
أما حفلة «الصيد» الأخيرة التي أنجزتها إسرائيل سراً وكتماناً، فلم تحصد سوى تسعة عشر يهودياً يمنياً نقلتهم إلى الأرض المحتلة، متعاونة كما قيل مع جماعة من الحوثيين. أخذتهم إسرائيل إلى فلسطين، ناقلة إياهم من بؤس إلى بؤس آخر ومن فقر إلى فقر. إنهم المقتلعون الذين سيظلون مقتلعين. وكان مُصيباً رئيس الوكالة اليهودية للهجرة في تصريحه بعيد إتمام المهمة، عندما قال إن فصلاً من تاريخ أقدم الجماعات اليهودية في العالم بلغ نهايته. وهي النهاية التي تبغيها إسرائيل التي لا تميز بين اليهودي والإسرائيلي، على خلاف الإسلام والمسيحية اللذين فصلا بين اليهودية بصفتها ديناً كتابياً والإسرائيلية بوصفها مشروع احتلال وتهجير وقتل وإجرام...
تسعة عشر يهودياً يمنياً خشيت إسرائيل عليهم وغامرت سراً لتنقلهم من اليمن إلى كيانها اللاشرعي، بينما أهلنا في سورية مثلاً، ترميهم دولتهم على الشطآن ليركبوا السفن ويغرقوا في مياه البحار بعدما أمطرتهم بحمم القذائف والصواريخ وبراميل البارود. أنظمتنا تمعن في قتل شعوبها، تفقرهم وتجوّعهم وتضطهدهم وتحرمهم أقل شروط الحياة... أما عدونا الإسرائيلي فيبحث على ضوء السراج عن اليهود في العالم، داعياً إياهم إلى أرض «الوعد» الموهوم.
عندما قرأت في الصحف عن الصفقة الإسرائيلية السرية واليهود اليمنيين التسعة عشر، تذكرت رواية «اليهودي الحالي» للكاتب اليمني الشاب علي المقري وهي عرفت نجاحاً حين صدورها عام 2008 وتُرجمت إلى لغات أجنبية وتمّ الترحاب بها صحافياً. تنبش الرواية الذاكرة اليمنية اليهودية وتسلّط الضوء على يهود اليمن الذين لم يبق منهم سوى خمسين ومعظمهم في صنعاء، وركيزتها قصة حب بين اليهودي سالم النقاش الذي تسميه حبيبته اليمنية المسلمة فاطمة ب «الحالي» تودداً. مثل هذا الحب في اليمن لن تُكتب له خاتمة سعيدة، مع أن الحبيبين يتحديان الأعراف ويتزوجان وينجبان ابناً يسميانه «سعيد». لكنّ «سعيد» هذا يمثل عقدة العقد، فهو في نظر أهل زوجته المسلمة يهودي لأن أباه يهودي، وفي نظر أهل والده هو مسلم لأن أمه مسلمة وليست يهودية، أخذاً بالعرف اليهودي العرقي.
لم يكن البطل اليهودي سالم يشعر بانتماء حقيقي إلى وطنه اليمن، وهذا شعور لم يفتعله الكاتب، فهو ينتاب عادة معظم الذين ينتمون إلى أقليات ضئيلة ومهمشة ومضطهدة سياسياً واجتماعياً وذاكرتها الجماعية مشبعة بالدم والرماد. يقول الحبيب لحبيبته: «أنت البديل عن وطني»... لكن فاطمة لن تكون وطناً بعد المصير المأسوي الذي كان ينتظرهما. ليست قصة الحب التي تتقاطع فيها الطوائف والمذاهب والملل بجديدة في الأدب العربي، لكنّ فرادتها في رواية المقري أنها تختصر حال اليمن ويهود اليمن الذين يعانون، منذ عصور مثلهم مثل سائر اليهود العرب، انفصاماً في الروح والانتماء أو الهوية. وقد نجح المقري في فتح هذا الجرح التاريخي الذي لم يندمل ولن. ولعل المقري تمكن من استباق إسرائيل في اختيار بطله اليهودي لينسج قصة حب بينه وبين فاطمة، قبل أن تنقض عليه الاستخبارت العبرية التي لا تعرف ما هو الحب، وتهجّره إلى الأرض المحتلة بصفته يهودياً فقط... وسيكون من الصعب الآن على الروائيين اليمنيين أن يجدوا يهودياً حالياً آخر.