عندما تحررت عدن قبل عام وبضعة أشهر ، استبشر سكانها وكل أبناء الجنوب ببداية عهد جديد يعيدها إلى سابق مجدها بعد زوال الهيمنة والسيطرة التي مارسها نظام حكم علي عبدالله صالح منذ صيف1994 ، ولم يدرك أغلبية الناس حينها بان الحرب على عدن لم تنتهي بعد ، وبان الحرب العسكرية ، ستليها حرب أمنية واقتصادية وخدماتية ، فالعدو الذي انهزم عسكريا لا زال موجودا في الميدان وعلى الأرض و متوغل في أجهزة ومؤسسات ومرافق الدولة وسوف يستخدم كل الوسائل لمواصلة الحرب ، لإبقاء عدن في حالة من الاضطراب وانعدام الاستقرار ومنع وإعاقة أي خطوات جادة لتعافيها والتفرغ لعملية إعادة البناء والأعمار فيها. لا ينكر أحدا إن التيار العفاشي وجيوب مخفيه وظاهره في الشرعية لازال لها امتدادات عفاشيه داخل أجهزة الدولة في عدن تعمل وفق خطة مدروسة ومحكمة باستغلال التباينات بين قوى الشرعية وارتباكها وضعف أدائها وغياب أي حكومة فعلية يمكنها إدارة الصراع مع الحوثيين وصالح انطلاقا من الأرض التي كان يفترض إن تكون عدن قاعدتها بعد التحرير مباشرة. وليس من الصعب وبقليل من التفكير إدراك خطة الحرب على عدن واستخلاص إبعادها الأساسية وخاصة منذ اغتيال الشهيد جعفر محمد سعد محافظ عدن السابق ، عندما خرجت الخلايا النائمة التي تم إعدادها لتنفيذ مشروع إمارة عدن الإسلامية لتقوم بهجمة أمنية استباقيه واسعة وشرسة على المحافظ الجديد ومدير الأمن ومحاولات اغتيالهما قبل ان يتمكنا من تثبيت إقدامهما على الأرض ، ووسعت عمليات الاغتيالات والتفخيخ وتصعيدها في كل مديريات عدن ومحيطها وبشكل يومي تقريبا حتى أصبح المواطن يرى الموت في كل زاوية وشارع ، في وقت كان فيه الكثير من الانتهازيين الذين ترتفع أصواتهم اليوم بالتباكي على عدن وأبناءها قد اختفوا تحت الأرض للحفاظ على أرواحهم ومصالحهم بانتظار حصيلة المواجهة ، وتم التصدي لأعمال الإرهاب بعزيمة وهمة الرجال المخلصين لعدن والجنوب وتحسنت الأوضاع الأمنية و تم إفشال مشروع الإماره الإسلامية وتضييق الخناق على قوى التطرف والإرهاب في عدن والمحافظات المجاورة لها .
وبعد النجاح الملموس في تطبيع الأوضاع الأمنية تم الانتقال الى تنفيذ بقية الحلقات من مسلسل الحرب ، وكان في مقدمتها منع وجود أي قوة عسكرية أو أمنية موحدة في عدن وعرقلة دمج المقاومة بشكل كامل على أساس وطني ، وتبني إنشاء وحدات عسكرية وأمنية بمسميات مختلفة ، فأصبح هناك أمراء عسكريين وأمنيين تحت مظلات شتى وتم تثبيت و تعيين أمراء ومسئولين في مرافق الدولة مهمتهم وضع العراقيل إمام أي حركة للتحديث أو التغيير ومنع السلطة المحلية من التدخل في معظم المرافق الحيوية بدعوى تبعيتها للحكومة كمرافق سيادية وأصبحت معظم المرافق دول ذات سيادة داخل المحافظة وجرى إيقاف معظم القرارات التي إصدارها وأهمها قرارات مؤسسة الكهرباء .
وفيما بعد تم الانتقال إلى المرحلة الأخطر والمتعلقة بحياة الناس ومعيشتهم ، وإثارة وتحريض المواطنين بصورة منهجية ضد السلطة المحلية في المحافظة سواء بالدعوات المبطنة للقيام بإعمال الشغب والفوضى والعصيان تحت مطالب حقوقية ، وتخريب المؤسسات الخدماتية التي لها علاقة بحياة الناس كالكهرباء والمياه والصحة والبيئة ، وتعطيل المؤسسات الحيوية عن العمل لوقت طويل كالمطار والميناء ، وبصورة متلازمة مع العمل العمل التعبوي والدعائي الذي يتصنع النقاوة الوطنية والإخلاص لتشويه السلطات المحلية وتحميلها كل شرور وأنام الحكومة باستخدام عناصر تتلبس رداء الحراك تارة والشرعية تارة أخرى ، وهي من تم تجنيدها ورعايتها عفاشيا في وقت مبكر ليطلق لها العنان للقيام بواجبها في الوقت المناسب ، من اجل إضعاف الوحدة الوطنية و محاولة إكساب حملة التشهير والدعاية الصفراء شيء من المصداقية ، وكما يحدث في كل عمل استخباري فان هناك أشخاص يسمح لهم بتغيير جلودهم وتوجهاتهم وفقا للأدوار المناطة بهم والظهور بموقف المدافعين والحريصين على مصالح الناس باستغلال ضعف الوعي وطول المعاناة واللعب على العواطف واستحرار الماضي ، رغم علمهم ان من يجري استهدافهم لا يتحملوا المسؤولية المباشرة وفقا للاختصاصات الدستورية والقانونية لأجهزة ومؤسسات الدولة ، فلا توجد حتى اليوم محافظة مستقلة بميزانيتها وإدارتها وقيادتها بل هي خاضعة للسلطة المركزية ، الأمر الذي يؤكد إن ما تقوم به تلك الأبواق لا صلة له بالواقع ولا بمبدأ المحاسبة والثواب والعقاب ، لأنها تتستر وتهادن من يفترض ان يوجه لهم اللوم في الحكومة ومن بيدهم القرار في الوزارة ومن معها من الجماعات المتنفذة التي تتلاعب بحياة ومعيشة المواطنين وأمنهم ، وليس السلطة المحلية التي مهمتها في الأساس مهمة إشرافية وتنفيذية مقيدة ببقية أجهزة الدولة الأعلى منها في الترتيبية والسلم الوظيفي.
في تاريخ الشعوب، يعتبرا ثارة البلبلة والشغب والاضطرابات الداخلية والاعتصامات والتحريض على السلطات أثناء الحرب عملا من إعمال الحرب ، وأي شكل من إشكال التخريب كالعبث بالاقتصاد او الامتناع عن القيام بالواجب بمثابة خيانة عظمى تتيح للسلطات المختصة اتخاذ أقصى التدابير في مواجهتها ، وهذا الأمر ليس بجديد في حياة الأمم والشعوب، فكم محاكمات فورية وميدانية تم إقامتها لما عرف بالطابور الخامس إثناء الحروب، لان إضعاف الجبهة الداخلية وإقلاق السكينة العامة وإثارة الفوضى لصالح الأعداء ليس له علاقة بالوطنية والمصلحة العامة بل هي أفعال تصب في محصلتها النهائية لمصلحة العدو وتمكينه من تحقيق ما عجز عن تحقيقه في المواجهة العسكرية ،وفي وقت لازالت فيه قوات العدو تحيط بعدن بمسافات غير بعيده وتتحين الفرصة للتقدم نحوها مرة أخرى.
ما يجري اليوم في عدن من تخريب متعمد في المجال الاقتصادي والخدماتي وإعمال الإشاعة والدعاية والتحريض وهي لم تخرج بعد من تحت الأنقاض يعتبر مواصلة لأعمال الحرب بالمفهومين السياسي والقانوني. ومحاولة إحداث الأزمات المتتالية ليس لها علاقة بالحقوق والحريات، ولا يمكن تحت أي مفهوم أنساني او أخلاقي إن يتم إلحاق الضرر بمئات الآلاف من السكان وتعطيل الخدماتا لضرورية مقابل مطالب لمئات من الموظفين حتى ولو تأكدت مشروعيتها والمحافظة "العاصمة " دون موارد او ميزانية من الحكومة، وطالما ان الحرب لا زالت قائمة فان جميع المناطق والمحافظات تعتبر حكما في حالة وأوضاع الحرب ويفترض ان يجري التعامل معها بقوانين الطواري والأحكام العرفية وليس بقوانين الشرعية السويسرية.ومن واجب كل شرائح المجتمع الالتفاف حول السلطات المحلية لمساعدتها في مواجهة الإخطار والتحديات القائمة ومواصلة الخطى لإعادة الحياة إلى عدن بشكل تدريجي وللإمكانيات المتاحة إمامها .
الحكومة نفسها إلى وقت قريب دون ميزانية وتعيش حالة من الضياع والاتكالية وتتدبر أمرها بالممكن بالاعتماد على دول التحالف ، والتحالف مهتم بالجانب العسكري في الشمال مع القيام ببعض الخطوات المتواضعة المتصلة بالجوانب الإنسانية والخدماتية ،فدول مجلس التعاون كانت قادرة على فعل الكثير في عدن ومحافظات الجنوب ولكنها تراجعت عن تنفيذ الالتزامات التي قطعتها بالمساهمة في عملية تأهيل عدن وإعادة الأعمار فيها والمحافظات المجاورة لها وذلك لأسباب سياسية تتصل بالحسابات الإقليمية والمصالح الدولية ، فحل مشكلة الكهرباء بشكل نهائي يحتاج إلى مئات الملايين من الدولارات وعشرات الملايين لتوفير الوقود سنويا لتشغيلها ، ولا يمكن للحكومة إن تفي بها بوضعها الراهن دون مساعدة خارجية أو استعادة الموارد وإنتاج وتصدير النفط ، فكيف يكون الحال بالنسبة للسلطة المحلية في محافظة عدن إن تقوم بنفسها في حل مشكلة الكهرباء والخدمات الأساسية التي والتي ورثتها متهالكة ولم تكون سببا في وجودها، وهي من مسؤولية الحكومة .فالكهرباء والمصفاة والميناء والمطار وغيرها كفروع الوزارات تخضع للحكومة ورئاسة الدولة وليس لسلطة المحافظة من حيث سلطات الفصل او التعيين لمسئوليها حتى على مستوى مدراء العموم، وفي ظل هذه الأوضاع فان قيادة المحافظة هي سلطة مقيدة بقرارات الحكومة ووزاراتها المختلفة ، فإذا اجتهدت في التصحيح والتغيير اتهمت بالتمرد على الشرعية وان التزمت لتوجهات ورغبات الوزارات والسلطات العليا مع استمرار الفساد والتخريب اتهمت بالتقصير والتقاعس ، وفي الحالتين فهي متهمة ومستهدفة ، وهذا الاستهداف أساسه سياسي بالمطلق وليس له علاقة مطلقا بالحرص على عدن وأهلها ومعيشة سكانها أو إي أساس دستوري وقانوني من حيث الاختصاص والمسؤولية .