كلما قل احتكاك الأشخاص المتعلمين تعليما عالياً بأشباههم من ذات الاختصاص، كلما زاد جهلهم بذواتهم وبالآخرين. والآخر مرآة الذات، واكتشاف المحجوب عن الذات يمر عبر الاحتكاك بالآخر، ولا سبيل للمرء في معرفة حقيقة ذاته وقدراته وعلمه ومعارفه ومعتقداته الإ بالاحتكاك بالآخرين ومعرفتهم والحوار معهم والاستماع اليهم وفهم ما لديهم في سياق مقارن بما توفره التغذية الراجعة الواعية أو غير الواعية من حصيلة منتجة. من هنا يأتي حرص الجامعات والمراكز العلمية الأكاديمية على تنظيم المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية الدورية في مختلف فروع المعرفة والاختصاصات العلمية بما يمنح كل أساتذة الجامعة وطلاب الدراسات العليا والباحثين فرص كافية للمشاركة الفاعلة. وأتذكر أنني حينما كنت طالبا في برنامج الدراسات العليا دكتوراه في جامعة بغداد سنحت لي الفرصة للمشاركة في ثلاثة مؤتمرات علمية في بيت الحكمة العباسي، إذ كنت اعتقد قبل المشاركة في المؤتمر الفلسفي الأول عام 2002م بأنني قد حزت العلم كله وأن ورقتي التي سوف أشارك بها بالمؤتمر ستكون كلمة الفصل بالفكر الفلسفي وستدهش الجميع، كنت نافش ريشي على الاخر! واشتريت بدلة من القماش الراقي وكنت أمشي بخطى متثاقلة، مزهوا بنفسي كالطاووس! وما أن جاء دوري للصعود الى المنصة وقراءة ورقتي التي كانت تحمل العنوان: ( ما أجل إنسان الغد.. هل من فلسفة عربية للتربية؟) قرأتها أمام نخبة من المفكرين والعلماء والأساتذة المخضرمين الذين لديهم بالعلم والفكر باع طويل أمثال: مطاع الصفدي وناصيف نصار ومحمد المصباحي وحسام الدين الالوسي وحسن حنفي وعبد الأمير الأعسم وطه عبدالرحمن والسيدة جاكلين من لبنان وعلي حسين الجابري وحسن عبيد المجيدي وغيرهم من الأساتذة الكبار الذين تمتلى المكتبات العربية والأجنبية بمؤلفاتهم الفكرية . أقول ما أن سمح لي بقراءة ورقتي حتى شعرت بالارتباك والتلعثم وكدت أذوب عرقاً، أحسست وانّا انظر الى وجوه الحاضرين بالقاعة بقلة حيلتي وضالة ما لدي من معرفة عن الموضوع الذي أتكلم عنه. إذ كانت تلك التجربة هي الأولى في حياتي التي تتواجه فيها ذاتي مع اصحاب الصنعة من الآخرين. إذ لا أنسى ما حييت تلك اللحظة المحرجة التي مررت بها وأنا قاعد بجانب المفكر العربي الكبير مطاع الصفدي استاذ الفكر العربي بجامعة السوربون بفرنسا رئيس الجلسة وهو يرمقني بنظره! وتعلمت منها الشيء الكثير حيث انكشف الوهم الذي كان لدي عن ذاتي، ومن حينها وأنا أتعلم من كل فرصة احتكاك مماثلة في تنمية ذاتي والتخلص من أوهامها الغبية!
وتحضرني الذاكرة الآن أن أحد الزملاء المشاركين في ذات المؤتمر قدم من جامعة صنعاء أسمه د حسين صالح عبده وهو خريج جامعة بغداد جاء بورقة بحثية مثيرة بعنوان: العلولمة في القرآن الكريم ! كان وضعه أسوأ من وضعي بكثير، ولكنه لم يرتبك أو يندى له جبين! وهذا ما منحني بعض السلوى والمواساة فضلا عن وجود زملاء آخرين من العراق الحبيب لاسيما من الباحثين المبتدئين من شاكلتي ههههههه وربما يتذكر الأصدقاء الذين كانوا معنا في ذات المؤتمر تلك الوقائع .
وهكذا عرفت أن ثمة أشياء لا يمكن تعلمها الإ بخوض تجربتها.وليس بمقدور المرء تعلم السباحة حتى وأن قرأ كل الكتب المنشورة عن رياضة العوم، بل لا بد له من أن يلقي بنفسه الى البحر إن أراد تعلم العوم. وهكذا هو الأمر في تعلم الغوص في بحر العلوم. ولا تكفي البدلة والكرفتة والشهادة الكرتونية والحقيبة المحمولة على الكتف لتكون عالماً أو باحثاً أو أستاذاً جامعياً في علم من العلوم! وأوهم الأوهام هو وهم المرء إنه بلا وهم ! والتواضع من الإيمان. ودمتم بخير وسلام.