كتب/ محمد عبد الله يونس لا تزال قضايا حقوق الإنسان تثير جدلا متصاعدًا سواء بين نظم الحكم وقوى المعارضة داخل دول الإقليم، أو بين دول الإقليم والمنظمات الحقوقية الدولية، بحيث باتت أحد أهم مكامن التدخل الدولي في الشئون الداخلية وتدويل القضايا الوطنية، في خضم موجات ضغط متصاعدة علي دول الإقليم من جانب أطراف دولية متعددة، وفي هذا الصدد جاء تقرير "مؤشر العبودية العالمي" الذي أصدرته منظمة "سيروا أحرارًا" Walk Free Foundation مؤخرًا ليزيد من تلك الضغوط بطرحه لمفهوم "العبودية الحديثة" التي تتضمن قضايا العمل القسري، والإتجار بالبشر، واستغلال الأطفال، والاسترقاق، وزواج الفتيات القاصرات، بما يفرض تحديات عديدة أمام دول الإقليم ويزيد من أهمية آليات احتواء الضغوط الدولية المترتبة علي صدور هذا التقرير. ويعتبر مفهوم "العبودية الحديثة" من المفاهيم الشائكة التي تتضمن مؤشرات تتسم بقدر من المبالغة، ويتم توظيفها لأغراض سياسية في كثير من مراكز البحوث والدوائر الغربية لاعتبارات خاصة بالمصالح السياسية وليس للأغراض الإنسانية. ففي الآونة الأخيرة، اهتمت بعض المنظمات الحقوقية بإصدار العديد من التقارير بهدف استغلالها لتحقيق مصالح سياسية للدول الغربية الكبري، أو للضغط علي بعض الدول العربية لتدويل بعض القضايا، وهو ما يبدو جليًا في قضايا العمالة الأجنبية الوافدة. عولمة التدخل تعتبر منظمة "سيروا أحرارًا" Walk Free Foundation أحد تجليات تطور شبكات حقوق الإنسان العالمية، فعلي الرغم من أن المقر الرئيسي للمنظمة في استراليا، إلا أنها وثيقة الصلة بالمنظمات الحقوقية الأمريكية، فضلا عن العديد من المنظمات الحقوقية العالمية مثل منظمة "مكافحة الإتجار في البشر" في جنيف، ومنظمة "حرروا العبيد" في واشنطن، و"المركز العالمي لمسئولية الحماية"، و"مجموعة الأزمات الدولية" في بروكسل، إلي جانب بعض الشخصيات الدولية العامة المعنية بملف حقوق الإنسان مثل هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وبيل جيتس رئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت، وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وجوردون براون وزير الخارجية البريطاني السابق. ويعزي صك مفهوم "العبودية الحديثة" ومؤشراته إلي كيفن باليس الأستاذ بمعهد ويلبرفورس لدراسة العبودية والتحرر في جامعة هول البريطانية، حيث أصدر كتابًا في عام 2001 بعنوان "العبودية الجديدة في الاقتصاد العالمي" تضمن مؤشرات قابلة للتطبيق لقياس علاقات الاستغلال غير الإنسانية المخالفة للمواثيق الدولية ومدي انتشارها في مختلف دول العالم، تبعته كتب أخري من قبيل "إنهاء العبودية" و"العبودية الحديثة في الولايات المتحدة" بما أدي إلي إضفاء زخم حول هذه القضية. وقد تولي باليس تحرير "مؤشر العبودية العالمي" في إصداره الأول، ويعرف التقرير "العبودية الحديثة" باعتبارها امتلاك أشخاص أو السيطرة عليهم بما يحرمهم حريتهم واستغلالهم لتحقيق ربح وانتهاك حقوقهم والإكراه علي أوضاع غير إنسانية والزواج القسري وخطف الأطفال لاستغلالهم في الحروب، ويشير التقرير إلي "العبودية الموروثة" التي لا تزال قائمة في بعض دول غرب أفريقيا مثل موريتانيا وفي جنوب آسيا خاصة في الهند، ناهيك عن خطف الأطفال والسيدات وبيعهم واستغلالهم من خلال الزواج والعمل بدون أجر في أعمال متدنية وفي ظروف مهينة. وفي هذا الإطار، يقدر المؤشر عدد "المستعبدين" في العالم بحوالي 29.8 مليون فرد من بينهم 21 مليون فرد ضحايا للعمل القسري، وتتصدر موريتانيا دول العالم من حيث نسبة من يتعرضون للاستعباد إلي إجمالي عدد السكان، حيث يبلغ عددهم حوالي 160 ألف فرد بنسبة 4%، خاصة في ظل شيوع "العبودية التقليدية" وتوارث العبيد في موريتانيا، تليها الهند التي يصل عدد ضحايا العبودية بها إلي حوالي 14 مليون شخص، في حين تضم دول هايتي ونيبال وباكستان والصين وأثيوبيا أعلي معدلات للرق في العالم. قضايا العبودية علي الرغم من أن أغلب دول الإقليم لم تأت في ترتيب متقدم في مؤشر العبودية العالمي باستثناء موريتانيا التي تصدرت أعلي معدلات الاستعباد، والسودان التي جاءت في المرتبة 22 بعدد إجمالي يصل إلي 264518 فردًا، والصومال التي حازت علي المرتبة 27 بإجمالي 73156 فردًا، بينما احتلت أفغانستان المرتبة 58 بعدما بلغ عدد من تعرضوا للانتهاكات حوالي 86089 فردًا. ويبدو الانفصال واضحًا بين أعداد ضحايا العبودية وترتيب الدول في التقرير، بالنظر إلي اعتماد الترتيب في المقياس علي معايير أخري بأوزان مختلفة من بينها تصنيف الضحايا إلي ضحايا العبودية وهم الأكثر خطورة والأعلى وزنًا في التقدير، ثم ممارسات الإتجار بالبشر، والعمل القسري بدرجات متفاوتة، وزواج القاصرات، ومن ثم تحتل السودان المرتبة الأولي من حيث عدد الضحايا، تليها موريتانياوتركياوأفغانستانوالصومال، في حين يبلغ عدد الضحايا في مصر حوالي 69372 فردًا، وفي إيران حوالي 65312 فردًا. وعلي الرغم من تأخر ترتيب دول مجلس التعاون الخليجي في التقرير، إلا أنه أفرد مساحات واسعة في المتن للتعليق علي قضايا مثل العمل القسري، وإساءة معاملة العمالة الوافدة في بعض الدول لا سيما قطر التي واجهت حملة دولية بسبب وفاة 44 من العمال النيباليين العاملين في قطاع الإنشاءات الخاصة بتنظيم كأس العالم 2022. وفي هذا الصدد يرتبط إدراج دول الإقليم في التقرير بالقضايا التالية: 1- العمالة الوافدة: أشار التقرير إلي تصاعد نسبة العمالة الوافدة في بعض دول الإقليم، حيث تصل- وفق التقرير- إلي ما يتراوح بين 40% إلي 90% من سكان دول مثل الأردن والسعودية والكويت، وفي بعض تلك الدول يتعرض العمال لانتهاكات مثل حجب الرواتب واحتجاز جوازات السفر وعدم القدرة علي المغادرة، وهو ما يرتبط بانتقادات منظمة العمل الدولية لنظام الكفيل ومعاملة خدم المنازل، وتنديد المنظمات الحقوقية الدولية مثل منظمة العفو الدولية بوفاة 44 من العمال النيباليين في قطاع التشييد والبناء خاصة بعد تحقيق نشرته صحيفة "الجارديان" البريطانية في مطلع أكتوبر الفائت حول الظروف غير الإنسانية للعمل في منشآت كأس العالم عام 2022 في قطر. 2- الصراعات الأهلية: تسبب الصراع الأهلي في سوريا في تجنيد الميليشيات المسلحة المنضوية تحت لواء الجيش السوري الحر للأطفال في صفوفها وفق تقديرات كشفتها "اليونيسيف" ومنظمات إغاثة إنسانية خاصة منظمة "نداء جنيف" في مايو الماضي، ناهيك عن الانتهاكات بحق الأطفال والنساء، والأمر ذاته ينطبق علي الصومال وليبيا حيث استعانت الميليشيات ببعض الأطفال، فضلا عن أعمال الاختطاف والعنف بحق العمال الوافدين التي كان آخرها اختطاف 70 سائقًا مصريًا في ليبيا من جانب ميليشيات تابعة لإحدى القبائل في منتصف أكتوبر الفائت بهدف التفاوض للإفراج عن ذويهم المحتجزين في السجون المصرية. 3- زواج القاصرات: كشف تقرير للمجلس القومي للطفولة والأمومة في يونيو الماضي، عن تصاعد عدد ضحايا زواج القاصرات في مصر من الأجانب بسبب الفقر، وأوضحت الدراسة أن 72% من تلك الحالات يتعرضن لضياع حقوقهن، و46% يتعرضن لسوء المعاملة، و39% من الحالات يتعرضن لتعقيدات في إجراءات الطلاق بسبب هجرة الأزواج، وهي ظاهرة تتكرر أيضًا في المجتمعات القبلية في موريتانيا والسودان والصومال واليمن. 4- الإتجار بالبشر: تعد ممارسات الإتجار بالبشر أحد أهم الانتهاكات التي باتت منتشرة في بعض دول الإقليم، حيث أشار تقرير وزارة الخارجية الأمريكية المتعلق بالإتجار بالبشر في يوليو الماضي، إلي أن دول مثل مصر والمغرب وليبيا واليمن وإيران وليبيا تعاني من تصاعد مضطرد في ممارسات الإتجار بالبشر سواء عبر الهجرة غير الشرعية، أو الاستعباد مقابل الديون، أو نقل الفتيات عبر الإقليم للدول المتقدمة. 5- تدفق اللاجئين: أضحت قضية اللاجئين السوريين لدول الجوار أحد مظاهر الاستعباد الحديث في الإقليم، خاصة في ظل الظروف غير الإنسانية في مخيمات اللاجئين في دول مثل تركياوالأردن والعراق، حيث يتعرض اللاجئون لانتهاكات مثل الاعتداءات وسلب الحقوق الأساسية والاحتجاز والترحيل والإجبار علي الزواج. تحديات ضاغطة لا ينفصل إصدار تقرير "مؤشر العبودية" عن تدويل القضايا الداخلية في دول الإقليم والضغوط التي تمارس عليها من قبل المنظمات الحقوقية، في خضم التحولات الهيكلية المصاحبة للثورات العربية، وفي ظل الزخم الذي بات يحظي به التقرير عالميًا، وفي هذا الصدد قد تواجه دول الإقليم مخاطر محتملة علي إثر صدور هذا التقرير أهمها ما يلي: 1- لجان التحقيق: قد يُفرض علي بعض دول الإقليم قبول استقبال لجان تحقيق دولية للتأكد من مدي مصداقية ما ورد في التقرير في حالة إثارة جدل في بعض المنظمات الدولية مثل الأممالمتحدة أو منظمة العمل الدولية حول ما يتضمنه من نتائج وقد تصدر هذه اللجان توصيات بحق تلك الدول، وهو ما تعرضت له قطر عقب وفاة العمال النيباليين في منتصف أكتوبر الفائت. 2- تجميد الاستحقاقات: أدت حملة الانتقادات الحقوقية التي تعرضت لها قطر بسبب الاتهامات بالعمالة القسرية ووفاة العمال النيباليين، إلي تلويح مصادر بالاتحاد الدولي لكرة القدم باحتمال سحب تنظيم كأس العالم عام 2022 من الدوحة، وتصاعد دعوات بعض المنظمات الحقوقية الدولية لفتح معسكرات العمال في مواقع المنشآت الرياضية الجديدة لمحققين دوليين بهدف التعرف علي ظروف المعيشة. 3- المنازعات القضائية: لا يمكن استبعاد تكرار سيناريو إحالة الرئيس السوداني عمر البشير وبعض قيادات النظام السوداني إلي المحكمة الجنائية الدولية في عام 2008 في حالات أخري عن طريق التقاضي أمام جهات قضائية سواء في داخل الدولة التي تشهد حدوث الانتهاكات أو في الدول التي ينتمي إليها الضحايا أو أمام القضاء الدولي مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فعلي سبيل المثال هدد المحامي فرانك بيرتون في 4 أكتوبر الفائت، بمقاضاة دولة قطر أمام القضاء الفرنسي بسبب احتجاز أربعة مواطنين فرنسيين لم يحصلوا علي مستحقاتهم المالية مقابل أنشطتهم في الترويج للملف القطري الخاص بتنظيم كأس العالم 2022. 4- العقوبات الدولية: قد تواجه بعض دول الإقليم عقوبات دولية إذا ما نجح مصدرو تقرير "مؤشر العبودية" في تنظيم حملات إعلامية وشعبية ضاغطة علي المنظمات الدولية والدول الكبري، بما يصاحب ذلك من تسييس متعمد لقضايا حقوق الإنسان بسبب تعارض المصالح. وقد تفرض تلك العقوبات بصورة منفردة من جانب بعض الدول مثل الولايات المتحدة، أو من جانب احدي المنظمات الدولية وتشمل تجميد عضوية الدولة في تلك المنظمة، أو فرض حظر علي استيراد بعض السلع التي يتم إنتاجها في ظروف العمل القسري. إجمالا، يمكن القول إن هذا التقرير قد يكون بداية لموجة ضاغطة علي دول الإقليم تتضمن تصاعد التدخل الدولي في الشئون الداخلية بما يستوجب البدء في إجراءات وطنية للتعامل مع القضايا التي يثيرها التقرير وتوضيح أبعادها وتحييد مسبباتها، ولعل تخصيص دولة الإمارات العربية المتحدة حوالي 7 مليون دولار لتمويل عدد من المؤسسات المعنية بمكافحة الإتجار بالبشر وتنظيم دورات تدريبية وورش عمل لإنفاذ القانون بمواجهة تلك الممارسات، يعد نموذجًا مهمًا علي احتواء تلك الضغوط الدولية، في حين ينبغي علي دول أخري بالإقليم مواجهة القضايا التي تسبب في تلك الممارسات، مثل الفقر والبطالة وتدني مستويات المعيشة وتصاعد ظاهرة أطفال الشوارع والمشردين وانتشار العشوائيات. عن/المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجيه