الوية العمالقة توجه رسالة نارية لمقاتلي الحوثي    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    تعيين شاب "يمني" قائدا للشرطة في مدينة أمريكية    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    القبائل تُرسل رسالة قوية للحوثيين: مقتل قيادي بارز في عملية نوعية بالجوف    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة في حادث مروري بمحافظة عمران (صور)    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    التفاؤل رغم كآبة الواقع    انهيار وشيك للبنوك التجارية في صنعاء.. وخبير اقتصادي يحذر: هذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنوب: جريمة إبادة جماعية
نشر في عدن الغد يوم 21 - 11 - 2013

(الدراسة جزء من كتاب بعنوان "القضية الجنوبية: رهانات الهوية، ومسألة الدولة، وجريمة الإبادة الجماعية"، سيصدر قريباً)
أصدر مركز عدن للدراسات والبحوث الإستراتيجية دراسة جاءت تحت عنوان «الجنوب: جريمة الإبادة الجماعية».
وحاولت الدراسة أن ترصد وتتعرّف على الأبعاد والمسارات المختلفة والمتصاعدة التي اتخذتها الجريمة المرتكبة في الجنوب منذ اجتياحه في حرب صيف 1994، من حيث: طبيعة الأفعال المرتكبة، حجم التدمير وغاياته، القصدية الكاملة في إحداث النتائج، ثم تبعاتها وتداعياتها المختلفة على كافة الأصعدة؛ الفردية والجماعية، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولاهمية الدراسة تنشر صحيفة "عدن الغد" حصريا نصها :

د. قاسم المحبشي -أمين اليافعي
تمهيد:
تعود أهمية قضية من القضايا إلى ذلك الوقيد الانفعالي المستعر بشأنها, وليس هناك من قضية اليوم استقطبت الاهتمام وأثارت أمواج عاتية من الأفعال والانفعالات والتفاعلات مثل القضية الجنوبية, التي أخذت تحظى باهتمام مضطرد في مختلف الفضاءات المحلية والإقليمية والعالمية, بعدّها قضية خطيرة وعادلة ونوعية وجديرة بالاهتمام والدرس والبحث والحل في ذاتها ولذاتها ومن أجل ذاتها.
ورغم الحضور الكثيف لخطاب الجنوب والقضية الجنوبية في مختلف الوسائط الإعلامية المرئية والسمعية والورقية. فضلاً عن حضورها الملتهب في عالم الممارسة الاجتماعية الواقعية اليومية لحياة الجنوبيين الذين خرجوا منذ عام 1994م للتعبير عن رفضهم ومقاومتهم السلمية للواقع الجديد بمختلف أشكال وأدوات وطرق المقاومة والتعبير الممكنتين , كتابات, ومناشدات واعتصامات واحتجاجات , ومظاهرات وجمعيات وتكوينات وتكتلات في الداخل و الخارج, تمخضت عنها ثورة شعبية عارمة منذ 7/7/2007م.
ورغم كُثرة الكتابات والمناقشات والمؤتمرات والشعارات والممارسات الشعبية والمدنية والرسمية والإعلامية والإيديولوجية التي أنجزت بشأنها هذه الظاهرة الاجتماعية التاريخية الحيوية الراهنة , إلا أنها للأسف الشديد ظلت بعيدة عن اهتمام المشتغلين في البحث المنهجي والحقل الأكاديمي المهني التخصصي المعني بالبحث عن الحقيقة, حقيقة الظاهرة وفهمها , فهماً علمياً ومنهجياً نقدياً عقلانياً موضوعياً محايداً. إذ لم ينجز حتى الآن خطاباً ابستمولوجياً ذات اعتبار بشأن القضية الجنوبية, من حيث هي ظاهرة تاريخية اجتماعية سياسية شديدة التعقيد والتركيب بما تنطوي عليه من بنيه تضم شبكة هائلة من العناصر والأنساق والمستويات والأبعاد, فاعلين وأفعال وعلاقات وتفاعلات وبنيات, ممارسات وخطابات وقيم ومواقف ومواقع واتجاهات...إلخ.
وهذا هو حال كل الظواهر الاجتماعية السياسية التاريخية المتعددة الأبعاد, والمتشابكة المجالات، والتي تنبسط بوصفها موضوعاً لعدد من فروع العلوم: الاجتماعية والتاريخية والسياسية والانثروبولوجية والجغرافية والاقتصادية والحقوقية والثقافية والأيديولوجية والنفسية والأمنية، وبكلمة واحدة ما بات يعرف ب "الدراسات الثقافية" و "النقد الثقافي"..
وهذا ما يستدعي تعاون جهود عدد واسع من الدارسين الاختصاصين والمهتمين للإحاطة الممكنة بأبعاد الظاهرة(القضية الجنوبية) والنفاذ إلى صميم بنيتها المغلقة, والكشف عن تيماتها المتخفية والمستترة, بما يساعد على فهمها فهماً سليماً بعيداً عن الأوهام والخرافات والأهواء والرغبات والتحيزات والغايات.
وهي بحكم راهنيتها وحضورها المؤلم في العقول والقلوب مفعمة بشحنة انفعالية وعاطفية أيديولوجية بالغة الحساسية والتأثير في أذهاننا ونفوسنا بهذا القدر أو ذاك, يصعب علينا التحرر منه كلياً, وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهره من الظواهر , فهي كما يرى بحق الفرنسي ريجيس دوبريه " يبدو معها الإنسان أقل قدرة على ملاحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي وإعداد الطرق الملائمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها وتوقع مآلاتها على نحو سليم".
الإبادة الجماعية: محددات المفهوم والقانون
يعود أول ظهور لمفهوم" الإبادة الجماعية" إلى فترة الحرب العالمية الثانية في سياق الجهود الساعية إلى تحريم وتجريم "البربرية" و"التخريب المتعمد" و"إبادة الجماعات الوطنية والأثنية". ويرجع الفضل في صياغة هذا المفهوم إلى القانوني البولندي رافائيل ليمكين الذي استخدمه في دراسة أعدها عام 1944 لتوضيح خصوصية الجرائم المرتكبة من النازيين والفظائع التي ماسوها ضد الإنسانية؛ خاصة تلك الأفعال الهادفة لتدمير دول أوروبا الواقعة تحت الاحتلال النازي، وإلى "جرْمنة" هذه الدول. ومصطلح "الإبادة الجماعية" مشتق من الكلمة اللاتينية Genus وتعني الجماعة أو الجنس، ومن كلمة Cide ومعناها يقتل، وتعني في مجملها "قتل الجماعة" أو" إبادة الجماعة"، وقد أطلق ليمكين على تلك الجريمة فيما بعد مصطلح "جريمة الجرائم " Crime of Crimes لعظم آثارها التدميرية، ثم أورد تعريفًا لتلك الجريمة مضمونه أن "كل من يشترك أو يتآمر للقضاء على جماعة وطنية بسبب يتعلق بالجنس أو اللغة أو حرية أو ملكية أعضاء تلك الجماعة يعد مرتكبًا لجريمة إبادة الجنس البشري".
غير أن مفهوم "الإبادة الجماعية" يثير الكثير من الالتباس عند استخدامها في توصيف حالة ما، لاسيما في سياقات ثقافية واجتماعية تفتقد إلى الثقافة الحقوقية والقانونية، فضلاً عن معناها المزدوج: الشائع والقانوني.
ففي المعنى الشائع تستخدم لوصف حالة وحيدة فقط، وهي حالة الإبادة التامة لجماعة أو شعب ما، أي إزالتهم النهائية من الوجود، لذلك غالباً ما تكون هناك مهابة وتردد في استخدامها لوصف جرائم الحروب التي تتجسد فيها.
ويرى القانوني إيان دوجلاس أن الخلاف الدائر حول المفهوم يعكس ما يحمله من معنى "ملتبس". فالبعض يحذر من استخدام مفهوم "الإبادة الجماعية" وبدون حذر كي لا يفقد قيمته. وهذا يُعدُ سوء فهمٍ لما يعنيه مفهوم الإبادة الجماعية في مضمونه القانوني. إذ أن قصد التدمير هو الأساس في جريمة الإبادة، والمتمثلة في أفعال محددة تؤدي، أو قد لا تؤدي، إلى الإبادة الجماعية.
وربما كان البولندي رافائيل ليمكين قد أنتبه مبكراً إلى الالتباس وسوء الفهم اللذان قد يثيرهما المفهوم في الأذهان، لذا قام بتوضيحه على النحو التالي: « بشكل عام، لا تعني الإبادة الجماعية بالضرورة التدمير الفوري لأمة ما، إلا في حالة تنفيذ ذلك عن طريق القتل الجماعي لجميع أفراد تلك الأمة. إنما المقصود هو خطة منظمة، مركبة من طائفة واسعة من الأفعال المختلفة تستهدف تدمير الأسس الضرورية لحياة جماعات وطنية بهدف القضاء على الجماعة ذاتها. إن أهداف تلك الخطة عادة ما تتضمن تحطيم المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغة والمشاعر الوطنية والقيم والرموز المفضلة عند أفراد الجماعة الوطنية المحلية، وتحطيم أمانهم الشخصي وحرياتهم وصحتهم وكرامتهم ومقدراتهم وحتى حياة هؤلاء الأفراد المنتمين إلى تلك الجماعات».
وفي مسودة "اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية" التي أقرتها الأمم المتحدة بتاريخ 11/12/1946م، بقرار رقم 96 (1-د)، جاء تعريف "الإبادة الجماعية" على أنها: «الحرمان من حق الوجود لجماعة من البشر، في حين أن القتل هو إنكار حق الشخص في الحياة». وهو ما يعني أن جريمة الإبادة الجماعية لا تقتصر، وكما هو شائع، على عملية المحو الكلي لجماعة ما بيولوجياً، وإنما مجرد حرمان جماعة ما من الحق في الوجود ك"جماعة" لها شخصيتها الاعتبارية المعترف بها، أي كمؤسسة سياسية اجتماعية ثقافية ذات هوية محددة ومقدرة، يدخل في المضمون القانوني لمفهوم الإبادة الجماعية.
وقد اعتمدت الأمم المتحدة في العام 1948م " اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" كوثيقة قانونية ملزمة لجميع الأعضاء بعد التوقيع والتصديق عليها من قِبل الدول المعنية. وقد دخلت هذه الوثيقة حيز التنفيذ في 12/1/1951م.
وفي مادتها الثانية، أقرت الاتفاقية الأتي:
«تعني "الإبادة الجماعية" أياً من الأفعال التالية المرتكبة عن قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه:
قتل أعضاء من الجماعة.
إلحاق أذى جسدي أو روحي بأعضاء من الجماعة.
ج. إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
نقل أطفال عنوة من جماعة إلى جماعة أخرى».
أما المادة الثالثة من الاتفاقية فتنص على أن كل من الأفعال التالية مُجرمة تستحق المعاقبة:
الإبادة الجماعية.
التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.
ج. التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية .
محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
التواطؤ في الإبادة الجماعية.

لقد أثارت المادة الثانية من الاتفاقية وما احتوت عليه من كلمات عامة جدلاً واسعاً بشأن المعنى المقصود ب"جزئي"، "جماعة"، "التدمير"، "الإيذاء".
ولقد جرى الاتفاق على أن مصطلح "جزئي" تعني جزءاً جوهرياً من الجماعة. وفي البند رقم (18) من الفقرة رقم (1093) من قانون الولايات المتحدة الأمريكية جاء أن مصطلح "جزء جوهري" يعني جزءاً من الجماعة على درجة من الدلالة العددية بحيث أن تدمير أو فقدان ذلك الجزء يؤدي إلى تدمير الجماعة ككيان حيوي في داخل الأمة التي تمثل تلك الجماعة جزءاً منها.
ومصطلح "كيان حيوي" يعني ببساطة أن الجماعة المعنية تتوقف عن إمكانية الأداء بحيوية في حالة أن جزءاً جوهرياً منها تم تدميره أو فقده.
أما مصطلح "جماعة" فيقصد به مجموعة من الأفراد هويتهم في ذاتها مميزة فيما يخص الجنسية السياسية والأحوال الوطنية أو المحلية أو الخبرات التاريخية والثقافية.
وشبه الجملة "في ذاتهاّ" التي وردت في الاتفاقية هي عنصر له خصوصية قصدية، بمعنى أن أي من الأفعال المنصوص عليها أعلاه المادة الثالثة من الاتفاقية قد تم اقترافه ضد أي فرد أو أفراد بصفتهم جزء من جماعة مفهوم أنها جماعة في ذاتها.
وعلى هذا الأساس، عند المحاولة لتقديم دليل الإدانة، يجب تقديمه مبنياً على أن الجماعة المعنية قد استهدفت "في ذاتها"، الأمر الذي يمكن إثباته على أساس نمط الأفعال المتراكمة وليس بالضرورة على أساس هدف معلن أو قصد معلن. وكذلك فإن استهداف الجماعة يمكن أن يُفهم في سياق "قصد محدد" لاقتراف الجريمة.
ولقد ركزت المادة الثالثة من "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" على معنى "القصد"، إذ تستدعي إقامة الدعوى في إطار معطيات هذه الاتفاقية تبيان عنصر "القصد المحدد" وما يشار إليه أيضاً ب « Mens rea» (أي العقل المذنب، الغرض المذنب أو الجائر، أو القصد الجنائي).
إن القصد المحدد يستند عليه في العادة، وإن لم يكن دائماً، في إدراك أن الفعل الذي تمّ القيام به سيؤدي إلى التدمير أو إلى تحويل جماعة بعينها، كلياً أو جزئياً أو قسم جوهري منها، إلى جماعة غير قابلة للحياة، وأنه بذلك يمثل فعلاً غير قانوني، وأن نتائجه مستهدفة مسبقاً.
ويتضمن القانون الجنائي تقليدياً خمسة مستويات من القصد، يُميّز فيما بينهما على أساس من الدرجات المختلفة للعلم والإرادة الجنائية.
القصد الهادف، بمعنى أن تكون النتيجة غير القانونية متوقعة ومرغوباً فيها ومخططاً لها.وفي هذه الفئة لا يُشترط بالضرورة تحقيق الفعل المحدد أو مجموع الأفعال التي تمثل الإبادة الجماعية، على الرغم من أن حدوثها يضيف ويدعم وزن وجسامة الاتهام بارتكاب الجريمة.
القصد غير المباشر، حيث يمكن توقع التبعات كنتيجة مؤكدة لفعل ما أو مجموعة من الأفعال.
القصد مع سابق المعرفة، حيث يكون المتهم على علمٍ، أو يجب منطقياً، أن يكون على علمٍ بالنتائج لفعل أو مجموعة من الأفعال.
التهور، حيث النتائج متوقعة، وعلى الرغم من ذلك يتم آتيان الفعل أو مجموعة الأفعال.
الإهمال، حيث تستند المسئولية القانونية قناعة ثابتة بأنه كان من الضروري التنبؤ بالنتائج لكن المتهم لم يتنبأ بها.
ويذهب القانوني أيان دوجلاس إلى أن: «إذا أمكن إثبات وجود رغبة قوية حتى وإن لم يُعلن عنها في إحداث النتائج التي تمثل الإبادة الجماعية، فلا يمكن التنصل عندئذ من المسئولية عن جريمة الإبادة الجماعية»
وتشير المادة الثالثة من الاتفاقية فضلاً عن القصد إلى جريمة التواطؤ مع الإبادة الجماعية. إذ تنص الفقرة (ب) من المادة على "التآمر على الاقتراف" كأحد الأطراف التي تشملها العقوبة.والتآمر هنا بمعنى التواطؤ على ارتكاب الجريمة، لذلك فقد كانت الاتفاقية واضحة في تجريمها الشديد "للقصدّ نفسه بالتساوي مع تنفيذ ذلك القصد".

الجريمة في الجنوب:
إن حرب صيف 1994م ليست بأي معنى تقليدي ممارسة للسياسة بوسائل أخرى، بل إنها ليست حتى حرباً تقليدية.
فمسارات تلك الحرب وتداعياتها وتبعاتها قد حمّل الأحداث من الانتهاكات والتدمير بما لم يخطر على بال أكثرهم تشاؤماً من نتائجها. فقد تبين، بعد وهلةٍ قصيرةٍ من خفوتِ سعيرها؛ والذي لم يخفت إطلاقاً، أن الحرب والتخطيط لها وأهدافها ونتائجها كانت تستهدف تدمير دولة الجنوب كمؤسسة سياسية وجماعة وطنية وقوة حيوية وتاريخ وهوية وأرض وثروة ونظام اجتماعي واقتصادي مختلف عن الشمال (أو دولة الجمهورية العربية اليمنية).
فقد قضت الحرب على إنجازات ما يُقارب الستين سنة من جهود تحديث الجنوب، إذ أنه وبتدمير مقومات الدولة، ومؤسساتها العسكرية والأمنية، وكياناتها الفاعلة، وبتدمير البُنى التحتية الرئيسية قد تجاوز السعي لهزيمة الاشتراكيين لأنه شمل التدمير للمدارس والجامعة والمستشفيات والمتاحف والمكاتب الحكومية؛ بتدمير كل ذلك أصبحت الساحة خالية ليفعل نظام الجمهورية العربية اليمنية ما يشاء في الجنوب.
يروي الكاتب السوري بشير البكر في شهادته على الأحداث، والبكر كان مقيماً في عدن أثناء الحرب، أنه وبعد إسقاط مدينتي عدن والمكلا من قِبل القوات الغازية، حصلت عملية اجتياح واسعة للجنوب ونهب وانتقام على طريقة ما قبل القرون الوسطى؛ فكتب يقول: "ما تعرضت له عدن بعد سقوطها، وعلى مدى أسبوع يفوق الوصف، ولكن يمكن تلخيصه بعبارة واحدة "السبي الكيفي المُنظم". أي أن هناك تجاوزات منظمة وتجاوزات كيفية. لكن اختلاط الناهبين من جنود ومقاتلي القبائل والإسلاميين أراح الحكومة في صنعاء من المسئولية من دم تلك المدينة التي تفرق بين القبائل".
لقد نُهبت المؤسسات والقطاعات العامة للدولة والمحلات والمتاجر وأرزاق المواطنين وممتلكاتهم من سيارات وأدوات كهربائية ومواد غذائية وأثاث، فاكتظ طريق عدن-صنعاء البري على نحو غير معهود بالسيارات الذاهبة شمالاً وهي تحمل الغنائم أو تلك الآتية للبحث عن الغنائم. فخبر سقوط عدن والفتوى لاستباحتها انتشرا بسرعة البرق في أوساط الشمال، الذي هبت قبائله للسبي وفقاً للعُرف الذي اعتادت عليه. وبعد أسبوع من السبي، والجانب الرسمي المحلي والعربي والدولي مطبق في صمته، خرج نائب رئيس الوزراء ليقول أن عمليات النهب توقفت. فرد عليه عُمر الجاوي، الذي عُين بعد الحرب رئيساً للجنة إنقاذ عدن، بالقول: "لم يبق ما يُنهب".
كما انتشر على نحو مخيف الاستيلاء على المنازل والممتلكات بالقوة والعنف. فتعرضت الممتلكات العامة للنهب الكلي. وفي خريف ذلك العام نقلت تقارير عن وجود حالات استيلاء على ممتلكات خاصة بالقوة, وتحدث السكان عن حالات تدخلت فيها القوات المسلحة مقابل الحصول على نظير نقدي لمصلحة بعض الشخصيات النافذة لطرد السكان من مساكنهم. وفي المجال الاقتصادي قام المتحالفون مع النظام بمصادرة الأراضي سواء في عدن أم في المكلا على أساس إعادة توزيع الممتلكات المصادرة سابقاً من قِبل الدولة في الجنوب. وهكذا تم فرض النموذج المعروف في صنعاء على العاصمة الجنوبية والمناطق الأخرى. وقد كان استخدام مؤسسات الدولة الرسمية، كالجيش والأمن، في دعم وتوفير غطاء للتجاوزات والانتهاكات ، فضلاً عن السهولة البالغة في جلب واستخدام وحدات عسكرية وأمنية (رسمية) من قِبل النافذين لردع أي مقاومة لتجاوزاتهم حاول أن يبديّها بعضُ المدنيين، في حالات نادرة، دفاعاً عن ممتلكاتهم.. لقد كان ذلك بمثابة سابقة خطيرة ومدمّرة في الجنوب على مدى عقود طويلة من تاريخه.
وبعد هيمنة نظام الجمهورية العربية اليمنية، يشير الباحث الفرنسي مرمييه إلى مدى الاختلال الفج الذي ظهر في مجالٍ هامٍ للغاية؛ هو المجال القضائي، أنه في العام 1997م اعتدى ضابط أمن سياسي ينتمي إلى قبيلة شمالية بالضرب على قاضٍ في حرم محكمة عدن بعد أن ذكّره هذا القاضي بمنع حمل السلاح في المحكمة! ومع معرفة الضابط (الذي لم يتعرض للمساءلة قط) وضع ضحيته، ذبح ثوراً في اليوم التالي عند باب المحكمة "تعويضاً" عن فعلته وفقاً للتقاليد القبلية الصِرفة! وهكذا تؤدي يُعلق مرمييه على الحادثة ممارسة السلطة العليا الخفية، ممثلة بضابط الأمن السياسي، للعنف والتعسف ضد شخص يمثل عدالة يفترض أن تكون رمزاً للمساواة بين المواطنين أمام القانون إلى زيادة الشعور بفرض قانون غريب عن المدينة.
هذه الأمثلة على الانتهاكات في الحقوق الخاصة، وفي النظام الضبطي الاجتماعي العام، وفي آليات عمل مؤسسات الدولة، هي في حسابات الكم قطرة في بحر الانتهاكات التي تعرض لها الجنوبيون منذ غزو 1994م، ولا سبيل إلى سردها هنا، وتأتي في إطار سلسلة طويلة من الانتهاكات والخروقات والتجاوزات لم تتوقف قط حد اللحظة. أما إذا نظرنا إليها من حيث الكيفية، فسيقودنا ذلك إلى استنتاج فرضية وحيدة كان مرمييه نفسه قد توصل إليها بعد سنوات عدّة من هذه الحرب، إذ يقول في دراسته "اليمن: موروث تاريخي مجزّأ": « تبدو الجمهورية اليمنية اليوم على المستوى السياسي استمراراً للجمهورية العربية اليمنية أكثر منها محاولة أصيلة لدمج نظامي صنعاء وعدن». فبعد انتصار القوات الشمالية، وهزيمة الطرف الجنوبي «اختفى نموذج المجتمع العدني، وأغرقته السيطرة المتزايدة لنموذج الحكم والمراجع الثقافية القادمة من صنعاء. وقد شُبّهت هذه السيطرة للسلطة الشمالية على جميع مناطق الجنوب ب"الاستعمار الداخلي"».
ولأن الاستعمار، كما حلل ظاهرته الفيلسوف الشهير جان بول سارتر في وقتٍ مُبكرٍ، يقوم على إستراتيجية النزوع المتأصل الذي يهدف من خلاله "المُستعمِر" إلى التحطيم المُنظّم والمنهجي للطابع الخاص للسكان الأصليين بما يفقدهم شخصيتهم الوطنية وثقافتهم وعاداتهم وقيمهم، وبما يؤدي إلى حرمانهم من الاندماج في بلدهم الأم والاستفادة من مزاياها، ليعيشوا في البؤس مثل الأشباح!
إن هذا التحطيم المنظم (أو "التدمير المنهجي"وفق ما أعترف به المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بنعمر وضمنه إحدى تقاريره المُقدّمة إلى مجلس الأمن الدولي). إن هذا التحطيم الذي سعى إلى المحو الكلي لمؤسسات الدولة في الجنوب ، والتدمير المنهجي لكل أشكال الروابط والأسس والقيم التي تقوم على تنظيم العلاقات بين الناس، وتحدد لهم حقوقهم، وتحافظ على أمنهم وأمانهم واستقرارهم واستمرارهم في الوجود... إن هذا التدمير كان قد قلب حياة الجنوبيين رأساً على عقب، وجلب الكارثة إلى كل بيت. فالجنوبيون باتوا يعيشون في ظل شروطٍ لا قِبل لهم بها؛ فهم بلا أية حقوق، ولا أمن، ولديهم قليل من الفرص للبقاء أحياء على أرضهم، وليس لديهم أية فرصٍ لتنظيم أنفسهم، والدفاع عن حقهم في العيش الكريم، كان عليهم فقط أن يتقبلوا شروط العيش الجديدة بخضوعٍ تامٍ.
والمفارقة أن كاتباً (شمالياً)، وهو بالمناسبة رجل قانوني كبير في اليمن، كتب مقالاً في الفترة الأخيرة يشرح فيه سر تفاؤله بعدم إمكانية حصول الجنوبين على مطلبهم في الانفصال عن الشمال؛ في المدى القريب، على الأقل، على حد تعبيره. ومن ضمن النقاط الهامة التي أوردها الكاتب واعتبرها معوقات جوهرية أمام " الحركة الانفصالية"هو افتقارها للإمكانيات السياسية والعسكرية التي تمنحها القدرة على بسط سيطرتها المادية في المناطق الجنوبية لفرض واقع انفصالي فعلي. وقد أرجع هذا الافتقار في القدرة إلى عوامل عدّة، أهمها، هشاشة الكيان الجنوبي، خاصة بعد تدمير المؤسسات السياسية والعسكرية الجنوبية في حرب 1994. فحتى حالة التشتت والنزاع التي تعيشها حاليا "الحركة الانفصالية"؛ فلا وجود لتنظيم سياسي أو عسكري حقيقي حتى الآن، رغم مرور ستة أعوام على بدايتها، هي من تبعات هذا التدمير.
إن هذا التفسير، وخصوصاً من رجلٍ قانوني، لا يوحي فقط بأن ما فعلته القوى الغازية منذ اجتياحها الجنوب من تدميرٍ للدولة بمؤسساتها المختلفة والشاملة، وللمجتمع بمرجعياته القيمية والتنظيمية، وللإنسان بما هو فاعلٌ وحيويٌّ، كان مُخططاً له، بل كان متوقعاً حدوث نتائجه، ومرغوباً فيها باستمرار!!
لقد دفعتنا تفحص ومعاينة الأبعاد والمسارات المختلفة والمتصاعدة التي اتخذتها الجريمة المرتكبة في الجنوب منذ اجتياحه في حرب صيف 1994، من حيث: طبيعة الأفعال المرتكبة، وحجم التدمير وأهدافه، والقصدية الكاملة في إحداث النتائج، ثم تداعياتها المختلفة على كافة الأصعدة؛الفردية والجماعية، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خلال السنوات الماضية إلى السعي الدائم والدءوب للوصول إلى فهم صحيح، وتفسير مقنع، لما حدث ويحدث في الجنوب بما يُمكّننا من إطلاق الوصف الأنسب لمأساته الكبيرة. وقد قادنا هذا بالضرورة إلى التأمل والبحث والقراءة في مجالات الحرب والشرعية الدولية وحقوق الإنسان وتاريخ الانتهاكات، حتى اهتدينا في النهاية بالعثور على كلمة السر التي فتحت لنا آفاق رحبة وواسعة للإطلالة على لغز الجنوب، وجوهر قضيته، وفصول مأساته، وعمق كارثته.
وتهدف السطور التالية إلى مقاربة الجريمة في الجنوب كجريمة إبادة جماعية ذات أركان مكتملة، وبنيان سامق، ولا يلزمها التصريح بها على الطريقة الهتلرية كي تتوافر أركان القصد، فالقصد يمكن إثباته عن طريقة الأفعال المتراكمة التي قادت في النهاية إلى فعل التدمير.

استراتيجيات الإبادة الجماعية ضد الجنوب:
أولاً: الحرب الاستعمارية بوصفها إبادة جماعية
إن جريمة الإبادة الجماعية هي غاية ونتيجة كل حرب استعمارية خارجية أو داخلية، بل أن منطق الحرب ذاته ينطوي بالضرورة على جريمة الإبادة الجماعية. فالحرب في معناها اللغوي تعني القطع، البتر، الفصل، ومن هنا اشتقت أسماء "الحربة" بمعنى الحد القاطع، والحرابة بمعنى قطع الطريق أو التقطّع. والحرب بما أنها، وبطريقة ما، شكل من أشكال التفاعل والاتصال بين الذوات الاجتماعية، فهي تعني بأن العلاقة بين الذوات قد استنفذت جميع قنوات التواصل والاتصال والتفاعل العقلاني الإنساني الحواري التشاوري والكلامي السلمي.. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للوحدة والتوحد والاتحاد، فحينما تنشب الحرب، تختفي الوحدة، وحينما تحضر الوحدة تغيب الحرب، إذ أن الوحدة هي وصل واتصال وحب وانسجام واحترام واعتراف متبادل بين الأطراف الداخلة فيها، إما الحرب فهي قطع وقطيعة وعنف وتدمير، كره وعدوان وقتل وحرمان، حقد وقهر وثأر وانتقام. ومن هنا نفهم المعاني العميقة لفحوى موقف الأمم المتحدة من حرب 1994م، ورفضها القاطع "للوحدة بالقوة".
يُفسّر جان بول سارتر، في مقالته "الإبادة الجماعية"، النتيجة الوحيدة التي تفضي إليها أي حرب تُشن تحت أهداف وغايات أو حتى عوائد استعمارية. فالانتصار في هذه الحروب يُعادل الإبادة السياسية والثقافية والاقتصادية للشعب المحتل، في حين تطرح الهزيمة الإبادة الجماعية كحل للدولة الاستعمارية. إن منطق الإبادة الجماعية متأصل في كافة أوجه الحرب الاستعمارية، من حيث فترة استمرارها في مواجهة المقاومة الشعبية، ومن حيث إمكانية التصعيد الشديد في مواجهة المقاومة الشعبية، ومن حيث نتيجتها في حالة الاستسلام.
وقد كانت حرب 1994 الشاملة التي شنّها نظام صنعاء على الجنوب، وتبعاتها المتلاحقة، وتداعياتها المختلفة، من نوعية تلك الحروب، ومنذ يومها الأول. ويمكن الإشارة هنا إلى أبرز الممارسات التي رافقت الحرب ودلّت على مستوى أو أكثر من مستويات القصد الجنائي، أهمها:
إصدار فتوى رسمية (تكفيرية) من قِبل رجل الدين عبدالوهاب الديلمي، الذي كان يشغل منصب وزير الأوقاف وقتها، أحلّت دماء الجنوبيين، وشرعنت لتدميره وهدره جذرياً وكلياً بنصٍ صريحٍ واضحٍ. وقد جاء نص هذه الفتوى على النحو التالي: «إننا نعلم جميعاً أن الحزب أو البغاة في الحزب الاشتراكي اليمني المتمردين المرتدين هؤلاء لو أحصينا عددهم لوجدنا أن أعدادهم بسيطة ومحدودة, ولو لم يكن لهم من الأنصار والأعوان من يقف إلى جانبهم ما استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوه.. وهنا لابد من البيان والإيضاح في حكم الشرع في هذا الأمر:
أجمع العلماء أنه عند القتال؛ بل إذا تقاتل المسلمين وغير المسلمين فإنه إذا تترس أعداء الإسلام بطائفة من المسلمين المستضعفين فإنه يجوز للمسلمين قتل هؤلاء المُتترس بهم مع أنهم مغلوب على أمرهم وهم مستضعفون من النساء والضعفاء والشيوخ والأطفال، ولكن إذا لم نقتلهم فسيتمكن العدو من اقتحام ديارنا وقتل أكثر منهم من المسلمين ويستبيح دولة الإسلام وينتهك الأعراض».
إن هذه الفتوى، من وجهة نظر جنائية، هي بمثابة الدليل الدامغ على أعلى درجات القصدية والإفصاح عن نيّة إحداث جريمة الإبادة الجماعية خصوصاً وأن الجنوب لم يكن في أي وضعية من وضعيات المُعتدي بالصورة التي حاولت الفتوى أن توحي بها، وكأسلوبٍ مراوغٍ للتخفيف من فجاجة وفداحة الدعوة الصارخة لارتكاب الجريمة.على عكس من ذلك تماماً، كان الجنوب، في واقع الأمر، هو المُعتدى عليه، وعلى كافة المستويات.
ومن أكثر الأمور غرابةً في هذه الفتوى، أنها تتناقض مع الأصول والقواعد التي استندت عليها، وهي المبادئ الإسلامية العامة؛ وكما تبين من الاعتراضات الحازمة ضدّها التي أبداها رجال دين بارزون في العالم الإسلامي، البعض منهم ينتمي إلى ذات المرجعيّة التي ينتمي إليها الديلمي. وفي هذا ما يؤكد بوضوحٍ، بأن الفتوى، خصوصاً على الصعيد الرسمي، لم تصدر تحت إلحاحٍ وغايةٍ دينيةٍ قد تتكرر في أكثر من مكان من العالم الإسلامي بفعلٍ مزاجٍ عامٍ سائدٍ، بل كانت غايتها الوحيدة التهيئة والتبرير للطابع التدميري الذي اتخذته الحرب، وتبعاتها فيما بعد.
وعلى أي حالٍ، يستحيل تبرير دعوة (فتوى) كهذه تحت أي صيغةٍ وغايةٍ كانت. فالطابع الذي تتخذه الفتاوى (التكفيرية) يقوم على منهجية الانشطار والتقسيم الحاد بين الذات والآخر كما تذهب دراسات علم النفس الاجتماعي، فالآخر يكتسب دلالة قصوى للسوءِ المحضِ، وأسطورة لا حدود لها للشر. ومن خلال هذه الانشطار والتقسيم بين الإيمان والكفر، الإنسان واللاإنسان، تنهار العلاقة الإنسانية كلياً، ومع انهيارها يُصبح فعل القتل وهدر الدم والتصفية ممكناً بدون شعور بالإثم. وفي هذه الحالة، لا تصبح التضحية به، وتصفيته، والقضاء عليه، ممكنة فقط، بل هي تصبح واجبة، وتتخذ دلالة العمل النبيل للقضاء على السوء والشر، كما لا يُصبح فعل القتل مبرراً فقط، بل هو يرقى إلى مستوى الواجب والرسالة النبيلة: القضاء على الضلال والفساد واستعادة الحق والفردوس المفقود!.
إن ما يزيد الأمر سوءا وتعقيداً في هذا الجانب، أن إصدار الفتاوى التكفيرية صارت مع مرور الوقت عادة يُقْبِل عليها رجال الدين في الشمال بنهمٍ منقطع النظير عند أبسط حادثة دون أن يكون للجهات المخولة أي تدخل كان لوقف مثل هذه الدعوات التي ما زالت تُبيح فعل الإبادة بحق الجنوبيين، أو حتى أن يكون هناك من يدين. بل على العكس تماماً، فأغلب المحافل التي يتم فيها إصدار مثل هذه الفتاوى التحريضية ضد الجنوبيين يتم الدعوة لها من على المنابر الإعلامية للنظام الحاكم، فضلاً عن أن رجال الدين هم من ذوي الحضوة البالغة في بلاط السلطان.
في مطلع شهر يونيو 1994، وبعد مُضي ما يُقارب الشهر على شن الحرب الشاملة ضد الجنوب، أصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراره رقم (924) وطالب فيه بوقف فوري لإطلاق النار، وحث طرفي النزاع للعودة إلى طاولة المفاوضات لحل الخلاف السياسي بالوسائل السلمية. ونظراً لأن النظام في صنعاء، الذي كان في وضعية الهجوم، لم يبد معه أدنى استجابة، مواصلاً حربه على جميع جبهات القتال، أضطر مجلس الأمن في التاسع والعشرين من ذات الشهر (يونيو) إلى إصدار قرارٍ ثانٍ برقم (931). أكد فيه على ما تضمنه القرار السابق (924) الخاص بالوقف الفوري لإطلاق النار، وأيّد بقوة دعوة الأمين العام لوقف فوري وكامل لقصف مدينة عدن، وشجب عدم الاستجابة لهذه الدعوة. كما شدّد على أهمية وجود وتنفيذ فعلي لوقف إطلاق النار يشمل جميع العمليات البرية والبحرية والجوية بما في ذلك البنود الخاصة بوضع الأسلحة الثقيلة خارج نطاق مدينة عدن، وندّد بسقوط جرحى وقتلى من المدنيين العُزّل وكذلك بالدمار الناجم عن استمرار الهجوم العسكري على المدينة.
لم يستجب النظام في صنعاء لهذا القرار، ولم يستجب أيضاً لأي مناشدة دولية كانت أم إقليمية لوقف الحرب ومنع التدمير وسقوط الضحايا، والجلوس، بدلاً عن ذلك، للحوار، منها البيان الذي صدر عن مجلس التعاون الخليجي في شهر يونيو بدورته رقم 56، وجاء فيه: «انطلاقا من حقيقة أن الوحدة مطلب لأبناء الأمة العربية فقد رحب المجلس بالوحدة اليمنية عند قيامها بتراضي الدولتين المستقلتين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في مايو 1990م وبالتالي فان بقاءها لا يمكن أن يستمر إلا بتراضي الطرفين. وأمام الأمر الواقع المتمثل بأن أحد الطرفين قد أعلن عودته إلى وضعه السابق وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية فانه لا يمكن للطرفين التعامل في هذا الإطار إلا بالطرق السلمية وتقديرا من المجلس لدوافع المخلصين من أبناء اليمن في الوحدة فأنه يؤكد انه لا يمكن إطلاقا فرض هذه الوحدة بالوسائل العسكرية، كما يبين المجلس أن استمرار القتال لابد أن يكون له المواقف المناسبة تجاه الطرف الذي لا يلتزم وقف إطلاق النار والتشاور مع الأطراف العربية والدولية حول الإجراءات اللازم اتخاذها في مجلس الأمن تجاه هذا الوضع المتفاقم بناء على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة». ومع كل ذلك، استمر الهجوم على الجنوب، عبر مختلف الطرق والوسائل، وازداد القصف والحصار الخانق لمدينة عدن، فمنع عن قاطنيها الماء والكهرباء ووسائل الاتصالات وكافة الخدمات، في عز صيفٍ جهنمي، وكنوع من العقاب الجماعي، حتى سقطت المدينة، في النهاية!
ومن زاوية تتجاوز الانتهاكات والتجاوزات والممارسات المصاحبة لمجريات الحرب، يبدو، من خلال مراجعة مواقف وممارسات القوى المهيمنة في نظام الجمهورية العربية اليمنية منذ تشكله، على الأقل، في صنعاء، أن هنالك أسباباً ودوافعاً عدّة جعلت الجنوب ودولته وجميع مكتسباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي كل الإمكانيات والقدرات التي لا تجعله في وضعيّة الخاضع الضعيف وتحول دون الهيمنة عليه ونهب كل ممتلكاته وأصوله وموارده وثرواته، هدفاً استراتيجياً ثابتاً للتدمير، ولا يخبو تحت السطح إلا في فتراتٍ ومراحلٍ تفرض أولويات وانشغالاتٍ داخليةٍ طارئةٍ. إن هذه الزاوية مهمة لإعادة النظر في الأبعاد والدوافع والأهداف المختلفة للحرب، تتجاوز تصوير البعض لها وكأنها حادثةٌ عرضيّةٌ نشأت كنتيجةٍ حتميةٍ لخلافٍ (آني) طرأ بين شريكي الوحدة حول مسائل تتعلق بالسلطة والنفوذ، وأظهر عدم الكفاءة في إدارة مشروع الدولة الجديدة لأسبابٍ تتعلق بشمولية النظامين المتحدين.
ويمكن، في هذا الصدد، رصد ثلاثة دوافع رئيسية بارزة حتى أن البعض كان قد سبق بالإشارة إليها، وهي دوافع متقاطعة ومتداخلة، ويرتبط بعضها ببعضٍ ارتباطاً تكاملياً وثيقاً:
الدافع السياسي: يشير المحلل البريطاني باتريك كريجر إلى أن أمر السعي من قِبل حُكام الشمال لضم الجنوب وإخضاعه والاستحواذ عليه ليس بجديدٍ، بل يعود إلى اليوم الأول لإعلان الاستقلال في الجنوب (وقد أوضحنا في الفصل الأول من هذا الكتاب الصيغ التي يتم من خلالها تبرير هذا الإخضاع). فالشيخ سنان أبو لحوم يقول في مذكراته (اليمن – حقائق ووثائق عشتها، مؤسسة العفيف، صنعاء، 2002، الجزء الثاني، ص262): «تم جلاء الاستعمار البريطاني من الشطر الجنوبي من الوطن في 30 نوفمبر 1967م، وأعلنت دولة مستقلة في الجنوب بزعامة الجبهة القومية. ولم تكن فكرة إقامة دولة في الجنوب واردة في ذهن القيادة في الشمال، وإزاء ذلك اختلفت القيادة في موقفها بين رافض قيام الدولة في الجنوب وبين قابل للأمر الواقع، لأن الموقف خطير والملكيين بعد انسحاب القوات المصرية شددوا من هجماتهم وبدءوا يحاصرون العاصمة، فليس بإمكاننا والوضع كذلك أن نحارب على جبهتين». يستخلص كريجر من خلال هذا الحديث، وأحاديث أخرى، أن حكام الشمال ينكرون أصلاً على أبناء الجنوب استقلالهم في دولتهم التي قاتلوا لطرد الاستعمار البريطاني منها، وأنه كان عليهم بعد نيل الاستقلال أن يسلموا بلادهم لحكام الشمال. كما يُفهم من شهادة أبي لحوم أنه لولا أن النظام في صنعاء كان حينها منشغلاً بالحرب مع الملكيين الذين وصلوا إلى تخوم العاصمة، لكان قد شن حرباً مبكرة على دولة الجنوب.
الدافع الثقافي: كانت مدينة عدن بمثابة وهج ثقافي وحضاري وتجربة سياسية واجتماعية حديثة ونظام إداري عصري منذ دخول الاستعمار البريطاني إليها، ثم استمر هذا الوهج، وإن كان بشكلٍ مختلفٍ، بعد خروج الاستعمار وقيام نظام يساري علماني في الجنوب. وقد شكل هذا النموذج تحديا صعبا وعسيرا للقوى التقليدية لدرجة أن أحد أبرز ممثليها وصف مدينة عدن ب"قرن الشيطان"(كان الناس في خير وأمان إلى أن بزغ قرن الشيطان من عدن سنة 1972م). وحضور الشيطان في المخيال العربي- الإسلامي، هو حضورٌ كثيفٌ بكل دلالات ومعاني السوء، والذي ينبغي على المسلم ألا يوقف موقفاً محايداً (سلبياً) إزاءه، بل عليه أن يُسارع، وباستخدام جميع الوسائل، إلى إخراسه في جميع صوره وأشكاله وتمثلاته.
الدافع الاقتصادي: يذكر الكاتب السوري بشير البكر في كتابه "حرب اليمن: القبيلة تنتصر إلى الوطن" أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وقبل أسبوعين من إعلان الحرب، اتهم "الأقلية الجنوبية" بأنها تحاول الانفصال بالجنوب كي تستأثر بثلثي ثروات وأراضي وممرات وسواحل اليمن البحرية، لتحويل الأكثرية الشمالية إلى عمالة لديها، كما هو حال اليمنيين في دول الخليج، وما علينا، والكلام هنا للشيخ عبدالله، سوى إن نعد سلاح الأكثرية لإفشال مشروع الأقلية حتى لو أدى الأمر إلى إبادتها. وهذه التهديد يتفق مع عرفٍ راسخٍ في جذور التاريخ كان يجري التعامل به مع المناطق التي تُعتبر "مناطق خراجية"، ومستباحة دوماً لكل عمليات الغزو والغنيمة من قِبل النظام القبلي في صنعاء. كما يفصح هذا التهديد عن إعلان صريح بنية الإبادة، وحتى لو لم تتحقق الإبادة البيولوجية بشكل فعلي لكامل الجماعة، فإن التهديد بحد ذاته يوفر القصد الجنائي لجريمة الإبادة الجماعية ، فضلاً عن كونه يطرح "منطق الإبادة المتأصل" الذي تحدث عنه سارتر، أي أن يعيش الناس في رعبٍ مستمرٍ من التصفيّة. فأي نزوع محليّ باتجاه السيطرة على هذه الموارد، وفرض السيادة عليها، سيدفع بالذهنية العقابية إلى ابتكار واستخدام شتى الوسائل لمحق هذا النزوع من جذوره، والذي يعني، في جوهره، تدمير كل مقومات البيئة التي احتضنت، بأي كيفية، ولادته ونموه.
ثانياً: استراتيجيات الإبادة بعد الحرب
يذهب القانونيون إلى أنه يمكن استنتاج القصد في ارتكاب جريمة "الإبادة الجماعية" من تراكم "نمط الفعل الهادف". فإذا كان إجمالي ما حدث قد أدى إلى نتيجة التدمير الكلي أو تدمير قطاع جوهري من جماعة بعينها، وإذا كانت تلك النتائج معروفة مُسبقاً أو كانت قابلة للتنبؤ بها مقدماً، أو تم الإخطار بها فجرى تجاهلها، فإن ذلك يُعتبر بمثابة إبادة جماعية وقصد جنائي محدد، وكما صرّح القانوني لينون: «إذا كان ممكناً التنبؤ بالنتيجة، فإنه من المؤكد أخلاقياً أن ندّعي بتوفر القصد».
في الحالة الجنوبية، موضوع دراستنا، يمكن رصد كثير من الممارسات والانتهاكات والأفعال التي هدفت إلى تحقيق إستراتيجية تحويل الجنوب إلى كيان غير حيوي, والجنوبي إلى شخصٍ عاجزٍ عن الفعل والفاعلية وبدون شخصية اعتبارية كاملة الأهلية.
فالكاتب السوري بشير البكر يوّثق في شهادته على الأحداث أنه وبعد اجتياح وسقوط المدن الجنوبية جرى لها استباحة كاملة، وتعرضت لأبشع عمليات وصور وأشكال النهب والسلب، وبطريقة لا يمكن وصفها. ففي مدينة عدن، عاصمة دولة الجنوب، جرى نهب كلي لممتلكات الدولة والمؤسسات ومقرات الحزب الحاكم آنذاك. كما جرى نهب جميع الوثائق الرسمية والأثاث والمكيفات والسيارات ومخازن الغذاء ومحتويات المستشفيات والمطار والمرفأ والمصانع، وكذلك المدارس وجامعة عدن التي تفخر كلية التربية بأهم مكتبة متخصصة في منطقة الجزيرة العربية وقتذاك، كما أن المتحف الوطني الذي يحوي على ذاكرة المنطقة سواءً من خلال المقتنيات الفلكلورية أو التحف الأثرية والحُلي والألبسة والمخطوطات، سُرق بأكمله. بينما أُحرقت سجلات الدولة في خطوة وصفت بأنها تهدف إلى محو شخصية الجنوب. أو "اقتلاع الجنوب" وفق توصيف آخر لعبدالله البردوني. وهذا بالفعل ما عناه مرمييه في عبارة أنفة الذكر "تبدو الجمهورية اليمنية اليوم استمراراً للجمهورية العربية اليمنية أكثر منها محاولة أصيلة لدمج نظامي صنعاء وعدن"!، إذ لم يعد هناك من وجود للجنوب في معادلة دولة ما بعد الحرب.
وطالما أننا فهمنا الدوافع، فإن الكشف عن الوسائل يصبح أمراً أكثر سهولة. ويتضح مما سبق أن نظام الجمهورية العربية اليمنية كان لديه من الأسباب ما يجعله يرغب في سياق منطقه الخاص في تدمير الجنوب كدولة وشعب. أما الوسائل التي استخدمها في تدمير الدولة، وفي محاولته تدمير الشعب، فإنها تنبع من تلك الأسباب وتتوافق معها: لقد سعى النظام في صنعاء بشكلٍ خاصٍ إلى:
تفكيك وتدمير المؤسسات العسكرية والأمنية الجنوبية، وبما أن المؤسسات العسكرية والأمنية كانت مكان التجمع الوحيد لقوة منظمة، وينظمها تراتب إداري يجعلها قادرة على الحركة وممارسة القوة، وكذلك بما هي رمز القوة للجماعة الوطنية، واهم كيان حيوي يحافظ من خلاله المجتمع على وجوده وسيادته وشخصيته الاعتبارية المميزة، فإن تدمير هذه المؤسسات قد جعل الجنوبيين باعتبارهم جماعة سياسية في عجزٍ تامٍ عن حماية أنفسهم وكيانهم ومجالهم الحيوي، وعرّضهم لكل صنوف التهديدات منذ الحرب حتى يومنا هذا. والأمثلة كثيرة على ذلك، وأكثرها دلالة هو ما جعل محافظِين كبيرتِين (أبين وشبوة) في عام 2011 تقعان بقبضة عشرات من المسلحين أسلحة خفيفة في لمح البصر، بينما كانت قوات الأمن والجيش (الشمالية) في موضع المتفرج، وفي حالات عديدة لم تكتف بدور المتفرج (السلبي)، بل قامت بتسهيل ودعم الجماعات المسلحة.
نجم عن عملية تدمير المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية الجنوبية، ونهب مؤسسات القطاع العام الاقتصادية من تعاونيات ومزارع ومصانع؛ تسريح مئات آلاف من الموظفين قسرياً، بين ذكورٍ وإناثٍ، وهذا ما جعل الجنوبيون يرزحون تحت وطأة أوضاعٍ معيشيةٍ صعبةٍ للغاية، ويصابون بحالةٍ مفرطةٍ من الشعور بالإحباط واليأس والحرمان. وهي حالة يُصطلح عليها في علم النفس ب"وضعية الصدمة"، أي عدم القدرة على التكيّف مع الأوضاع المفروضة قهراً، وإحساس المرء بأنه لا يستطيع التحكم في وضعه، وعدم القدرة على التغلب على الصعوبات والحوادث غير المتوقعة، وعدم احترام المرء لذاته..إلخ.وقد نجم عن ذلك بروز ظواهر عديدة كالانتحار والأمراض النفسية والطلاق والعنف والثأر... وبما أن بعض الظواهر ليست ظواهر شديدة الانتشار في المجتمعات الإسلامية، كظاهرة الانتحار مثلاً، فإن وجودها له دلالة خطيرة من الناحية الاجتماعية والسياسية، إذا تشير إلى أن الحياة غدت جحيماً حقيقياً لا يُطاق.
كان الاختلاف جوهرياً بين نظام الدولة في الجنوب ونظام الجمهورية العربية اليمنية، الأول كان يقوم على الملكية العامة لأدوات وعلاقات الإنتاج، والآخر يقوم على قُدْسيّة الملكية الخاصة، مما تعني أن الناس في الجنوب كانوا يعتمدون بشكلٍ كليٍّ على الوظيفة العامة وشبكة الضمان الاجتماعي التي توفرها الدولة بما فيها مجانية التعليم والصحة والمواصلات، ودعم المواد الغذائية والاستهلاكية وتوفيرها بما يتناسب مع قدرات المواطنين الشرائية... وربما كانت الجريمة في عمقها المادي والمعنوي تكمن هنا؛ فبتدمير المؤسسات،وإلغاء شبكة الضمان الاجتماعي والاقتصادي كاملةً تم حرمان الجنوبيين من الحصول على فرص الحياة في مستواها البسيط. وقد أدّى ذلك إلى انتشار الأمراض والأوبئة وسوء التغذية خصوصاً عند الأطفال والموت المُبكر والتفكك الأسري وجنوح الأطفال وزواج الصغيرات والهجرة والتشرد وعمالة الأطفال وحرمانهم من فرص التعليم..إلخ. وما جعل هذا الوضع وضعاً مقصوداً، ومرغوباً به في نفس الوقت، وليس وضعاً طبيعياً كنتيجة لتطبيق نظام مختلف كلياً كما يحلوا للبعض تفسيرها، أن النظام الجديد لم يفعل شيئاً أمام هذه الفجوة الكبيرة الناشئة عن عملية "فرض" نظامه، بل زاد عليه تسريح مئات الآلاف من الموظفين، ونهب وتدمير المؤسسات والمصانع والمتاجر والتعاونيات وكل ما من شأنه أن يُشكل مصدراً ضئيلاً للكسب.وبدا الهدف واضحاً بالإصرار على إخضاع الجنوبيين عمداً لظروفٍ معيشيةٍ يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
القتل الممنهج الذي طال الجنوبيين، وقد اتخذ هذا الأمر مسارين: المسار الأول تم في الفترة الواقعة
بين 90-94م ، حيث تم اغتيال أكثر من 160 من كوادر الدولة الجنوبية في صنعاء. أما المسار الثاني فأتخذ شكلا أكثر منهجية، وتم سن قوانين لأجل ذلك، وهو ما تنبه له تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش (Human Right Watch) الصادر في ديسمبر 2009 م، الذي كان صارما في التشديد على أن يتم وضع حد لاستخدام الاتهامات الجنائية المبهمة والفضفاضة، مثل المواد 125 و 612من قانون الجرائم والعقوبات لعام 1994، الذي يعاقب بالإعدام كل من "قصد المساس و"أذاع أخبار... أو إشاعات كاذبة أو.. عمد "* باستقلال الجمهورية أو وحدتها أو سلامة أراضيها إلى دعاية [ب] إثارة الفزع بين الناس أو إضعاف الروح المعنوية في الشعب"، على التوالي والمادة 136 التي تعاقب بالسجن ثلاث سنوات كل من "أذاع أخباراً... أو إشاعات كاذبة... بقصد تكدير الأمن العام أو... إلحاق ضرر بالمصلحة العامة". ويجب إلغاء هذه المواد وتعديل المواد 127 و 128 و 129 و 131 لإلغاء الاتهامات الفضفاضة المبهمة إلى حد بعيد.
في تقريرها سالف الذكر "باسم الوحدة.. قتل الجنوبيين"، تشير هيومن رايتس ووتش إلى أن الاحتجاجات الستة التي تعمقت في التحقيق فيها، انتهكت قوات الأمن اليمنية جميع أوجه المبادئ الأساسية للأمم المتحدة. ففي أغلب هذه الاحتجاجات، لم يمثل المحتجون تهديداً على الشرطة أو آخرين بشكل استدعي استخدام القوة المميتة، فأغلب المظاهرات كانت سلمية وراح يردد فيها مدنيون عُزل شعارات ويرفعون اللافتات. وعندما بدأت أعمال إلقاء الحجارة أو غير ذلك من أعمال العنف، كان بإمكان قوات الأمن اللجوء إلى سُبُل غير مميتة لاحتواء هذا العنف. ولم تقم قوات الأمن في أي من المظاهرات التي حققت فيها هيومن رايتس ووتش، بدعوة المتظاهرين إلى التفرق، أو هي أطلقت أعيرة نارية تحذيرية، أو غير ذلك من سُبُل تحذير المتظاهرين بأنها مقدمة على استخدام القوة المميتة. وفي أغلب هذه المظاهرات، لم تبذل الشرطة محاولات جدية تُذكر لاستخدام سبل غير مميتة لتفريق الحشود، مثل خراطيم المياه أو الرصاصات المطاطية أو القنابل المسيلة للدموع. وعندما استخدمت الغاز المسيل للدموع تلتها على الفور باستخدام الذخيرة الحية. كما رصد التقرير، بالإضافة إلى الاحتجاز التعسفي الجماعي بدون اتهامات وبدون سند قانوني، والمحاكمات غير العادلة، واحتجاز الأطفال دون السن القانونية، والتعذيب والخطف والإخفاء القسري، إصرار النظام على حرمان المصابين من الحصول على الرعاية الطبية، حيث قام الأمن بمنع المستشفيات العامة من استقبال أو علاج المصابين جراء الاحتجاجات، ووضعت ضباط من الأمن السياسي وأجهزة أمنية أخرى في المستشفيات، بل ونفذت هجمات داخل المستشفيات وأخذت مرضى مصابين من على أسرتهم، ومثل هذه الأعمال تعرض حياة المصابين لخطر جسيم، وكان كثيرون منهم قد أصيبوا بأعيرة نارية على نحو غير قانوني من قبل قوات الأمن. وفي تقرير أحدث، دعت المنظمة الحكومة الانتقالية في اليمن إلى اتخاذ خطوات عاجلة لضمان تحقق العدالة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ويجب على السلطات، ضمن هذه الجهود، أن تجري على الفور تحقيقا في مقتل ما لا يقل عن أربعة متظاهرين في مصادمات مع قوات أمن الدولة بعدن في 20 و21 فبراير/شباط 2013.
وما من شك أن الانتهاكات وعمليات التدمير الممنهجة غدت شبكة عذاب محكمة يتسع مداها ليشمل حياة أبناء الجنوب في كافة مجالات الحياة، الخاصة منها والعامة. فمنذ غزو الجنوب في 94م، باتت الانتهاكات، كما يرى المفكر أبو بكر السقاف، تتويجاً دموياً للعنف الممنهج واستمراراً لمحاولة جعل أبناء الجنوب في أوضاعٍ ليس بمقدورهم التأقلم معها. كما بات الجنوبي يُعامل كمُدانٍ حتى تثبت براءته في كل يوم، وهذا الشعور عبءٌ نفسيٌّ مُدمّرٌ، قد يتيح في ما يتيح عصاباً مدمراً للذات والآخر.
وهذه الانتهاكات لا تشير إلى حوادثٍ عرضيةٍ أو عابرة في عهد ما بعد الحرب، بل تُلخِّص سياسية رسمية وجدت طريقها إلى الحياة اليومية في الجنوب منذ 7/7/1994م، وهي تصفية القواعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية بصورة هوجاء، وقد وصل الأمر حتى إلى محاولة تصفية القطاع الخاص بواسطة الترهيب والمحاكمات رغم بُعد أصحابه عن السياسة. إن صفة الجنوبي، كما يذهب السقاف، كانت باستمرار هي المستهدفة.
وبمراجعة نص المادتين (2) و (3) من اتفاقية " منع جرائم الإبادة الجماعية"، يمكن استخلاص التالي:
لا يوجد حد أدنى لجريمة الإبادة الجماعية في حد ذاتها، بل أنها تحدد على أساس تحديد التدني الأخلاقي المرتكب في أفعال محددة تتم بقصد التدمير أو تحويل مجموعة كلياً أو جزئياً أو قطاع جوهري من المجموعة إلى "كيان غير حيوي".
تتعلق جريمة الإبادة الجماعية بالقصد في تهديد وجود جماعة محددة حتى لو لم يتحقق تدمير تلك الجماعة.
تتعلق جريمة الإبادة الجماعية كذلك بقصد القضاء على التطور البيولوجي والسيكولوجي الإيجابي لجماعة ما سواء عن طريق الأذى الجسدي أو النفسي أو عن طريق إعاقة النمو الاجتماعي والسياسي للجماعة.
على ضوء ذلك، يتضح من خلال رصد وتحليل طبيعة وأنماط الانتهاكات والجرائم المرتكبة أن النزوع نحو إحداث التدمير الممنهج بتحويل الجنوب كلياً أو جزئياً أو قطاع جوهري منه إلى "كيان غير حيوي" كان يجري وفق سياقٍ مرغوبٍ به سواء تم الإفصاح عنه أم لم يتم، لكن نتائجه كانت أكثر جلاء وبروز وتعاظم مع مرور الوقت، وهو الأمر الذي لامسه القانوني اليمني عبد الناصر المودع في سياق حديثه عن هشاشة الكيان الجنوبي اليوم بفعل تدمير المؤسسات العسكرية والسياسية الجنوبية منذ حرب 1994م والذي أوردناه في موضعٍ سابقٍ من هذه الدراسة.
وهذا التدمير الذي تم وفق خطة ممنهجة، ومركبة من طائفة واسعة من الأفعال المختلفة،سعت إلى تدمير الأسس الضرورية لحياة الجنوبيين باعتبارهم جماعة سياسية ووطنية بهدف القضاء على وجودهم الفاعل. وتتضمن تلك الخطة تحطيم المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغة والمشاعر الوطنية والقيم والرموز المفضلة عند الجنوبيين، وتحطيم أمانهم الشخصي وحرياتهم وصحتهم وكرامتهم ومقدراتهم وحتى حياة هؤلاء الأفراد وبصفتهم كجزء من جماعة مفهوم أنها جماعة في ذاتها. وهذا هو لب جريمة الإبادة الجماعية وفقاً للقانوني الدولي رافائيل ليمكين الذي صك هذه المصطلح .

الملاحق:
مؤسسات الدولة في الجنوب قبل الوحدة.
اتفاقية الوحدة.
وثيقة العهد والاتفاق.
نص فتوى حرب 1994م.
نص قراريّ مجلس الأمن رقم (924) ورقم (931).
قائمة بمؤسسات وقطاعات الدولة الجنوبية العامة التي تم تدميرها.
تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش 2009م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.