مفهوم الفيدرالية الذي اخذ يشاع هذه الايام بقوة في مختلف الدوائر السياسية والثقافية والإعلامية والشعبية العربية العمومية ينتمي الى حقل الفكر السياسي الغربي الحديث مثل غيره من المفاهيم السياسية وغير السياسية الحديثة الكثيرة الاخرى ؛ ثورة، جمهورية ، دستور، برلمان، ليبرالية ، اشتراكية ، قومية ، ديمقراطية ، احزاب انتخابات ... الخ من الكلمات والرموز التي انهالت على المجتمعات العربية الإسلامية التقليدية منذ مطلع القرن التاسع عشر وذلك بعد الاصطدام المباشر بمشروع الحداثة الغربية ببعدها الاستعماري . بل أنها -اقصد المفاهيم والنماذج الحديثة اليوم وفي ظل موجة العولمة الكاسحة وانكماش الزمان والمكان بين سكان المعمورة باتت تطوق الجميع بحضورها الآسر ، بما يجعل الناس في مجتمعاتنا التقليدية يتلقفونها ويستخدمونها بتلعثم وتندر ولامبالاة وبدون إي حس نقدي أو جهد فكري هادف للمعرفة والفهم والحكم والتمييز ، على طريقة مسرحية التركة الشهيرة للمرحوم المبدع عبدالله المسيبلي (( قالوا ثورة قلنا ثورة قالوا قومية قلنا معاكم !)) وذلك بسبب الأمية المتفشية وقلة النخب المتعلمة المثقفة فضلا عن حداثة التجربة في مجتمعات تقليدية خيم عليها الجهل والظلام أكثر من ستة قرون متواصلة منذ عبقرية ابن خلدون الحضرمي الذي كان بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية أشبه بالوهج الذي يشتعل قبيل انطفاء الشمعة .
هذا الانقطاع التاريخي الثقافي الكبير عن مواكبة الحضارة الإنسانية الحديثة ، يفسر وعوامل أخرى ما نحن فيه من كوارث وفوضى واضطرابات دائمة ،غير ان المؤسف حقا ان يستمر تعاملنا مع المفاهيم والرموز الحديثة وطرق تلقفها كما كان قبل تأسيس الجامعات والمؤسسات الأكاديمية ووجود عشرات الإلف من حملة الشهادات والنخب الأكاديمية الحائزة على ارفع الشهادات الجامعية في مختلف الاختصاصات العلمية والشرائح المثقفة ،إذ لافرق بين موقف الناس في منتصف القرن الماضي من المفاهيم والأفكار الجديدة الآتية من سياقات مغايرة وموقفنا هنا والآن منها ، فمازال العلم والموقف العلمي هو الغائب الوحيد في هذا البازار الحواري الاستعراضي الصاخب بالترويج لمخرجات ما يسمى بمؤتمر ( الحوار الوطني الفاشل ) الذي تمخض عن فيدرالية الأقاليم أل 6 التي يراد فرضها بقوة النار والحديد على المستهدفين الفعليين - اقصد شعب الجنوب الثائر الذي أكد مرارا وتكرارا رفضه للحوار المزعوم منذ البدء بتظاهرات مليونية في عدن وحضرموت وفي جميع المحافظات ، وهذا ما جاء في أخر تقرير موسع نشره (مشروع التهديدات الحرجة) the American Enterprise Institute" التابع لمعهد أمريكان انتربرايز المتخصص لتتبع وتحليل التهديدات الأمنية في منطقة خليج عدن وباكستان أعدته الباحثة "كاثرين زيمرمان" قبل أيام ترجمه .أياد الشعيبي ونشره في موقع عدن الغد الخميس 13 فبراير 2014 08:43 مساءً إذ جاء فيه (لم يتم التوصل إلى اتفاق بحلول الموعد النهائي للحوار في سبتمبر 2013 ، فريق عمل القضية الجنوبية أنشأ لجنة فرعية - أطلق عليها لجنة 8 8 بسبب الانقسام بين المشاركين الجنوبيين والشماليين - لإيجاد الحل. اللجنة الفرعية طوّقت من القيام بواجبها ، واختير بدلا من ذلك الطريق الأسهل لتقديم التوصية للجنة الفنية لمعالجة هذه القضية. ولكن اللجنة حققت تقدما في الحوار الوطني ، حيث وقع ممثلون عن الأحزاب السياسية وثيقة " حلول فقط" في أوائل يناير كانون الثاني 2014 ، ونصّت الوثيقة النهائية للحوار الوطني اليمني الاتجاه نحو تبني النظام الفيدرالي الذي يتماشى مع استنتاجات فريق عمل القضية الجنوبية ، لكن اتفاق الستة الأقاليم لم يجد قبولا لدى القادة الجنوبيين. حتى الآن المشاركون الجنوبيون في الحوار الوطني لم يستحوذون على مشاعر الشارع الجنوبي ، الذي يرفض عملية الحوار تماما وكذلك نتائج التفاوض. بعض المندوبين للحوار اليمني ينحدرون من الجنوب ، ولكن منذ فترة طويلة ينظر إليها على أنها متواطئة مع الشمال ، مما يقوض إحساس الجنوبيين بالتمثيل في الحوار الوطني. علاوة على ذلك رفض زعماء داخل الحراك الجنوبي المشاركة أو انسحبوا من الحوار. حتى هؤلاء القادة بعيدون كل البعد عن الجنوبيين الأصغر سنا. المبادرة الخليجية تصورت بأن الحوار الوطني سيكون كوسيلة لرأب الصدوع العميقة الجارية بين الشمال والجنوب ، ولكن من دون المشاركة الجنوبية والقبول ، سوف تظل القضية الجنوبية قائمة.) هذا بعض ما استخلصه مركز دراسات أمريكي يقع في أقصى شمال الكرة الأرضية في القارة الجديدة ، أليس من الأولى بجامعة عدن والجامعات ومراكز البحث المحلية الأخرى القيام بدراسة وبحث المشكلة من زاوية نظر منهجية نقدية علمية محايدة والإسهام الفعال في إيجاد حلول علمية ممكنة كجزء جوهري من وظيفتها الأساسية؛ وظيفة تنمية وتنوير المجتمع والإسهام في حل مشكلاته ، بدلا من الزج بالأكاديميين في هذه المعمعة السياسية وتجاذبانها الإيديولوجية الضارة كما يشاع هذه الأيام في ان الجامعة عدن ستبدأ حملة تدشين مخرجات الحوار فضلا عن ان هذا ليس من وظائف المؤسسة الأكاديمية في كل الأحوال ! ثمة أشياء كثيرة جدا تستطيع الجامعة وهيئتها الأكاديمية الانشغال بها في هذا الأمر بالذات ، اقصد أمر (الفيدرالية والأقاليم المقترحة ) إذ تفعل خيرا لو أنها عقدت ندوة فكرية أو علمية للإجابة عن الأسئلة الحيوية الملحة بشأن مشكل الفيدرالية ، المفهوم والدلالات والفرص والتحديات ، إذ مازال المجتمع ونخبه بحاجة ماسة لمعرفة وفهم المزيد عن الفيدرالية ومشتقاتها معرفة وفهما اقرب إلى الصواب ، وحينما يواجه المجتمع الذي وجدت المؤسسة الأكاديمية فيه ومن أجل خدمته وتنميته ونفعه وسعادته تحديات وقضايا مصيرية خطيرة فمن واجب الجامعة ان تنهض بمسؤوليتها الاجتماعية والثقافية والعلمية تجاهه بما يليق بها ووظيفتها الجوهرية . وأهمية الجامعة لا تعود إلى أهمية وقيمة وظائفها الأساسية الثلاث المعروفة : أولا -بالوظيفة التدريسية التعليمية المعنية بحفظ وصون ونقل وتداول المعرفة عامة والمعرفة العلمية خاصة .ثانيا_ وظيفة البحث العلمي ونقد وتنقيح وإنتاج وتجديد وتطوير المعرفة. ثالثا _ وظيفة خدمة وتنمية وتنوير المجتمع بمعنى استخدام وتطبيق المعرفة من اجل خير الناس العام وحل مشكلاتهم الاجتماعية . فحسب بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديثة والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم وإدارة فنية مهنية عالية الجودة والكفاءة وقيم ومعايير أكاديمية وعلمية إنسانية مجردة وشاملة موضوعية محايدة ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل والتام الأتم والجمال الأجمل والخير والنفع الإنساني العمومي الكلي وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم فهي نزوع دائماً نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعا وخيرا مهما كلف الأمر. والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور بما يضمن بلوغ أعلى مراتب الجودة والاعتماد الأكاديمي الشامل .
كما ان الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة.
وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من اخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها.
وكما يقول توبي أ. هف » بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها«
ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول مؤرخ العلم كروبر "إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية"، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره.وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله"أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع ".وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار.هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها ، فهل آن الأوان لأقدم واعرق جامعة في شبه الجزيرة العربية ، جامعة عدن المجيدة ان تنهض بمهمتها ؟! والله من وراء القصد