انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    "استحملت اللى مفيش جبل يستحمله".. نجمة مسلسل جعفر العمدة "جورى بكر" تعلن انفصالها    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    الدكتور محمد قاسم الثور يعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    بن مبارك يبحث مع المعهد الملكي البريطاني "تشاتم هاوس" التطورات المحلية والإقليمية    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    رئيس مجلس القيادة يناقش مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي مستجدات الوضع اليمني مميز    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    مليشيا الحوثي تنظم رحلات لطلاب المراكز الصيفية إلى مواقع عسكرية    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل الإمام الشهيد حسن البنا (الحلقة الثانية والثلاثون)
نشر في أخبار اليوم يوم 30 - 08 - 2012

وأما النظرة الثانية : فإلى ما وصلت إليه الحال في أوطاننا الغالية العزيزة من بلاد العروبة وأمم الإسلام :
فلسطين : مهددة بهذا الاجتياح الذي انتهت إليه هذه المؤامرة الدولية من الأمريكان والروس والإنجليز على السواء , بفعل الصهيونية العالمية التي سخرت الحكومات والشعوب الغربية بالمال , مع استعدادها السابق , بكل تعصب ذميم على العرب والمسلمين أينما كانوا...
و الباكستان الناشئة : تقاسي الأمرين من هذا العدوان الوثني المسلح , المؤبد بدسائس الاستعمار وأسلحة الاستعمار على اختلاف دوله , حتى روسيا – التي تتظاهر باحترام إرادة وأمم الشعوب – تتآمر هي الأخرى على الدولة الناشئة إن صح ما ولفتنا به اليوم البرقيات الأخبار ...
وإندونيسيا :التي تبلغ سبعين مليونا أكثرهم من المسلمين , تضغط عليها هولندا التي لم تكسر قيد الاحتلال الألماني إلا بيد غيرها من جنود الحلفاء , وتريد أن تحول بين الشعب السلم الباسل وبين ما هو حق طبيعي له من حرية واستقلال ..
وطرابلس الغرب وبرقة : تجهز لها حبائل الاستفتاء ولا يدري عواقب هذه اللعنة السياسية إلا الله , وإن غدا لناظره قريب ...
وشمال أفريقيا بأقسامه : تونس والجزائر ومراكش , يستغيث ولا مغيث , ويجاهد ما ستطاع ليكسر القيود والأغلال التي ضربتها من حوله فرنسا , وحرمته بها حقه في العيش الحر الكريم , ومن الاستقلال التام ...
وقل مثل ذلك في كل شعب عربي إسلامي , فإنك لن تجد واحدا منها قد سلم من مناورات الغصب ودسائس الاستعمار ... هذا في أوضاعه السياسية ، وكلها من حيث الأوضاع الاجتماعية ليست أحسن حالا مما تقدم ذكره في وادي النيل ... وكلنا في الهم شرق .
وأما النظرة الثالثة : فإلى ما انحدر إليه التفكير بين زعماء العالم وساسة الشعوب والذين أتاحت لهم المقادير أن يكونوا قادة الدنيا في هذه الأيام بعد الحرب العالمية الثانية .
لقد اختفت المثل العليا تمام الاختفاء , وغابت عن الأنظار و القلوب تلك الأهداف الجميلة التي نادى بها هؤلاء الناس ساعة العسرة , وجندوا باسمها قوى الأمم ضد الظلم و الطغيان ... فالعدالة الاجتماعية , والحريات الأربع , ومبادئ ميثاق الأمم.. الخ .
هذه القائمة الطويلة العريضة من المبادئ السامية والأهداف المغرية أصبحت في خبر كان ولم تعد لهؤلاء الساسة و الزعماء " فلسفة راقية " يقودون بتوجيهها العالم إلا فلسفة المصالح المادية ، والمطامع الاستعمارية ومناطق النفوذ والاستيلاء على المواد الخام ! . وكل ذلك على صورة من الجشع و النهم لم تر الدنيا لها مثيلا ولا بعد الحرب العالمية الأولى . وأصبحت هذه المعاني وحده محور التنافس بيت الدول المنتصرة , روسيا من جانب وأمريكا وإنجلترا من جانب آخر , وإن حاولت كل منها أن تستر جشعها ومناورتها بستار من دعوى المبادئ الاجتماعية الصالحة , والنظم الإنسانية الفاضلة , باسم الشيوعية أو الديمقراطية , وليس وراء هاتين اللفظتين إلا المطامع الاستعمارية والمصالح المادية في كل مكان .
ونتيجة هذا الانحراف – الذي هو في حقيقة أمره مسخ لإنسانية بنى الإنسان – ليست إلا "الحرب الثالثة " المسلحة بالقنابل الذرية ، والغازات الخانقة والأسلحة المهلكة , وما سمعنا وما لم نسمع عنه بعد من معدات الهلاك والدمار التي تمثل ما جاءت به الكتب السماوية ومن وصف القارعة وهول القيامة : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ , وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة:4-5) .
هذه هي صورة الحال في وطننا الخاص , وفى وطننا العربي والإسلامي وفى وطننا الإنساني العام , وإذا لم تقم في الدنيا أمة " الدعوة الجديدة " تحمل رسالة الحق والسلام فعلى الدنيا العفاء , وعلى الإنسانية السلام ...
وإن من واجبنا وفى يدنا شعلة النور وقارورة الدواء , أن نتقدم لنصلح أنفسنا وندعو غيرنا , فإن نجحنا فذاك , وإلا فحسبنا أن نكون قد بلغنا الرسالة وأدينا الأمانة وأردنا الخير للناس , ولا يصح أبدا أن نحتقر أنفسنا , فحسب الذين يحملون الرسالات ويقومون بالدعوات من عوامل النجاح أن يكونوا بها مؤمنين , ولها مخلصين , وفى سبيلها مجاهدين , وأن يكون الزمن ينتظرها و العالم يترقبها ... فهل من مجيب ؟
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ:46) .
أي لون نختار؟
(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)
تسود مجتمعنا اليوم حيرة ... و إذا دامت هذه الحيرة فليس وراءها إلا الثورة , و الثورة الهوجاء التي لا غاية لها , ولا ضابط ولا نظام ولا حدود , ولا تعقيب إلا الهلاك و الدمار والخسارة البالغة , وبخاصة في هذا العصر الذي لا يرحم والذي تتجارى بأهله الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، وفى وطن كمصر تتطلع إليه الأنظار وتتقاذفه المطامع في الداخل والخارج .
هذا الكلام متفق عليه بين كل من يعنيهم أمر هذا الوطن , وإنك لتسمعه من الزعماء و المفكرين كما تسمعه من العامة في مجالسهم و المجتمعين في أنديتهم وذوى الأعمال في أماكن عملهم ، ومن سائق العربة إذا ركبت معه , ومن بائع الخضر إذا تحدثت إليه .. وإذا أنكرنا ذلك أو تغافلنا عن أثره , أو استصغرنا نتائجه كنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل وتظن أنها بذلك تخدع الصياد .
ومن هذه الثغرة وتطبيقا لهذا القانون الاجتماعي الذي لا يتخلف , تأمل المبادئ الجديدة والدعوات الجديدة أن تنفذ إلى مصر , وتكافح في سبيل استيلائها على النفوس المصرية والقلوب المصرية أشد الكفاح وتسلك إلى ذلك كل سبيل مستطاع وغير مستطاع ومن هنا سمعنا كثيرا من هذه الأصوات يتردد في الصحف السيارة وفى المجالس والمنتديات , فالشيوعية جادة في فرض تعاليمها على أبناء هذا المجتمع , والديمقراطية الاستعمارية الهزيلة تحاول من جانبها أن تقاوم هذا التيار , ويتوسطهم قوم داعون للاشتراكية , ويقف الإسلام العتيد المستقر في هذه القلوب أربعة عشر قرنا ,المستولى عليها , المؤثر فيها بجماله وجلاله وسموه وروعته , يأبى على الجميع أن ينزل عن مرتبته أو يتخلى عن هذه القلوب التي أمنت به وجاهدت أكرم الجهاد في سبيل إعلائه وبقائه ورفعته وردت عنه بهذا الجهاد غارات الصليبيين وهجمات التتار ومكايد الصهيونية : (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21) .
ولك إلى متى هذا التطاحن بين هذه الآراء و الأوضاع , وهو إن كان اليوم صغيرا فهو لن يظل كذلك ؟!‍
و إلى متى ينظر أهل الرأي في مصر إلى هذا الصراع في غفلة وبله وانصراف كأن الأمر لا يعنيهم , وكأنه يتناول بلدا غير بلدهم وأشخاصا غير أشخاصهم ؟!.. لا مناص لنا من أن نختار .
وإذا لم نختر اليوم ونحن راضون , فسنقبل غدا – بل الغد القريب جدا – ونحن مرغمون , وإني لأرى الوميض خلال الرماد ويوشك أن يكون له ضرام .
لابد من أن نختار لون الحياة الجديدة التي نحياها , ولم تعد أوضاع الحياة الاجتماعية بكل نواحيها في مصر صالحة أمام التطور الجديد في الأخلاق و الأفكار وحاجات الناس , والعاقل من تدبر الأمر قبل وقوعه وأعد له عدته .
وأمامنا الشيوعية والاشتراكية , وهما معتبرتان في منطق التحالف الدولي اليوم من معاني الديمقراطية , ولا يستطيع الديمقراطيون أن يقدموا غير هذا . وأمامنا كذلك (نظام الإسلام) وتوجيه الإسلام , وتعاليم الإسلام , وأحكام الإسلام .
ونحن في الحقيقة لسنا مخيرين ولسنا أحرارا في الاختيار , فإننا جميعا آمنا بهذا الإسلام الحنيف دينا ودولة , واعتبرنا مصر دولة إسلامية , بل هي زعيمة دول الإسلام . وقال دستورنا صراحة " دين الدولة الرسمي الإسلام ولغتها اللغة العربية ".
وهذا الشعب – شعب وادي النيل كله في الشمال والجنوب – يدين بهذا الدين الحنيف والأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن و العدالة و المساواة التامة في كل تعاليمه و أحكامه , هذا الذى يقول كتابه :
(لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) .
والكلام في هذا المعنى مفروغ منه , وهذا التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعا – مسلمين وغير مسلمين – يكفينا مؤونة الإفاضة والإسراف , فإن من الجميل حقا أن نسجل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يقدرون هذه المعاني في كل المناسبات , ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم .
وإذاً لا مناص للحكومة المصرية و الهيئات المصرية والأحزاب المصرية من أن تفي بعهدها الشرعي لله ولرسوله يوم نطقت بالشهادتين فالتزمت الإسلام , وبعهدها المدني الوطني لهذا الشعب يوم أصدرت الدستور , ونصت فيه على أن الدين الرسمي هو الإسلام , وبغير ذلك تكون قد غدرت بعهدها , و خانت أمانة الله و الناس عندها , وعليها أن تصارح الشعب ليحدد موقفه منها وموقفها منه ، ولا محل اليوم للمداورة والخداع .
وهذا الوفاء سيحمى الوطن مما يهدده من أخطار اجتماعية داهمة , ويعيد الطمأنينة و السكينة إلى النفوس و القلوب , لكنه يستلزم حالا تغيير الاتجاهات و الأوضاع كلها و المجاهرة بأن وادي النيل هو حامل رسالة الإسلام و منفذها ومبلغها فى غير مواربة ولا وهن , ولا يغنى عن العمل الكلام .
فهل تصيخ الآذان المغلقة إلى هذا النذير , فتعود إلى حجر الإسلام قولا وعملا وتطبيقا ؟؟ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .
يا دولة رئيس الحكومة .
ويا رجال الأزهر الشريف .
ويا رؤساء الهيئات و الجماعات والأحزاب .
ويا أيها الغيور على مصلحة هذا الوطن العزيز .
ويا أبناء هذا الوطن جميعا ...
إليكم أوجه النداء , فإلى تعاليم الإسلام ، (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138) .
ألا قد بلغت ... اللهم فاشهد .
اعتراضات
( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ )
دعوت قومي إلى أن يختاروا ، أو بعبارة أصح و أوضح , إلى أن يبروا بعهدهم مع الله ومع أنفسهم فيقيموا دعائم حياتنا الاجتماعية في كل مظاهرها على قواعد الإسلام الحنيف , وبذلك يسلم مجتمعنا من هذا القلق والاضطرابات و البلبلة التي شملت كل شيء , والتي وقفت بنا عن كل تقدم , والتي حالت بيننا وبين أن نتعرف الطريق السوي إلى علاج أية قضية من قضايانا الكثيرة المعلقة في الداخل و الخارج , وقلت إنه لا سبيل إلى النجاة إلا هذا الاتجاه عقيدة وعملا بكل ما نستطيع من حزم وسرعة .
وقد يقال : كيف ذلك والحياة العصرية في العالم كله لا تقوم على أساس الدين في أية ناحية من نواحيها , وقد اصطلحت أمم العالم , التي بيدها اليوم مقاليد الأمور وتوجيه مقدرات الأمم والشعوب , على فصل الحياة الاجتماعية عن العقائد الدينية , وإقصاء الدين عن كل مرافق الحياة وحصره بين الضمير والمعبد ، وهى وحدها نافذة المؤمن التي يتصل منها بالله .
والذين يقولون هذا القول لم يعرفوا " الإسلام " , ولم يدرسوا تعاليمه وأحكامه , ولم يفقهوه بعد على طبيعته الصحيحة ووضعه السليم .. من أنه دين ومجتمع , ومسجد ودولة , ودنيا وآخرة ، وأنه تعرض لشؤون الحياة الدنيوية العلمية بأكثر مما تعرض به للأعمال التعبدية , وإن كان قد أقام الشطرين معا على دعامة من سلامة القلب ، وحياة الوجدان , ومراقبة الله , وطهر النفس . فالدين على هذا جزء من نظام الإسلام , والإسلام ينظمه كما ينظم الدنيا تماما. ونحن كمسلمين مطالبون بأن يقوم ديننا ودنيانا على أساس القواعد الإسلامية : ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) .
ومن هنا فرق الفقهاء في النظرة التشريعية بين ما هو من قواعد أحكام المعاملات وشؤون الحياة الاجتماعية , فأفسح للنظر والاجتهاد في الثانية ما ليس في الأولى حتى لا يكون على الناس في ذلك حرج ولا مشقة , (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة:185) . وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور .
وقد يقال : إن هذا جمود ورجوع بالعالم إلى الوراء ألف عام أو تزيد ، فكيف يعقل أننا نطبق اليوم نظما جاءت لأمة عاشت قبلنا بأربعة عشر جيلا في أرض غير أرضنا وعلى لون من الحياة غير ألوان حياتنا ؟! وأين سنة التطور وقوانين التقدم والارتقاء ؟
ونقول لهؤلاء كذلك إنكم أيضا لم تفهموا طبيعة الإسلام الحنيف , الذي جاء للناس فكرة سامية تحدد الأهداف العليا , وتضع القواعد الأساسية , وتتناول المسائل الكلية , ولا تتورط في الجزئيات , وتدع بعد ذلك للحوادث الاجتماعية و التطورات الحيوية أن تفعل فعلها وتتسع لها جميعا ولا تصطدم بشيء منها .
وهذا تاريخ التشريع الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر رضى الله عنه كان يفتى في الموسم في القضية من القضايا برأي , ثم تعرض عليه في الموسم التالي من العام القابل فيفتى برأي آخر .. فيقال له في ذلك , فيقول : ذاك على ما علمنا وهذا على ما نعلم أو كلام هذا نحوه .
كما يحدثنا أن الشافعي رضى الله عنه وضع بالعراق مذهبه القديم , فلما تمصر وضع مذهبه الجديد نزولا على حكم البيئة , وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على مقتضى القواعد الأساسية الكلية الأولى ... وأصبحنا نسمع : " قال الشافعي في القديم . وقال الشافعي في الجديد " ونرى تغير رأى الرجل الواحد في القضية بحسب الزمان تارة – كما فعل بن عمر – وبحسب المكان تارة أخرى – كما فعل الشافعي – أو بحسبهما معا كما سمعنا أن عمر رضى الله عنه أمر بعدم القطع في السرقة عام المجاعة , وجاءه رجل يشكو سرقة خدمه فأحضرهم فأقروا وذكروا أن السبب ذلك أنه لا يقوم بكفايتهم من طعام وملبس ... الخ . فتركهم عمر قائلا : ( إذا سرق خدمك مرة ثانية قطعت يدك أنت ) واعتبرها شبهة تدرأ الحد ، ولاحظ الظروف والملابسات ..
فهل يقال بعد هذا إن في الرجوع إلى النظام الإسلامي رجعية وجمودا , وليست في الدنيا شريعة تقبل التطور , وتساير مقتضيات التقدم , وتتمتع بمعاني المرونة و السلاسة والسعة كشريعة الإسلام الحنيف , (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6) .
وقد يقال إن الجهر بالعودة إلى نظام الإسلام مما يخيف الدول الأجنبية و الأمم الغربية , فتتألب علينا وتتجمع ضدنا , ولا طاقة لنا بهم ولا قدرة لنا عليهم , وهذا منتهى الوهن وغاية الفساد في التقدير وقصر النظر .. وها نحن أولاء نرى هذه الدول وقد سايرناها في نظمها , وأخذنا بألوان حياتها , واتبعناها في تقاليدها , فهل أغنى ذلك عنا شيئا ؟! وهل دفع من كيدها ؟ وهل منعها من أن تحتل أرضنا ، وتسلب استقلالنا وتستأثر بخيرات بلادنا ، ثم تتجمع في كل مؤتمر أو مجتمع دولي ضد حقوقنا وتثير المشكلات والصعاب والعقبات في وجوهنا , ولا تتأثر إلا بشيء واحد هو ظروفها ومصالحها فقط ، ولا يعنيها بعد ذلك إلا أنها نصرانية, فقد رأيناها في الحرب الماضية يحطم بعضها بعضا , وكلها مسيحية , وتتملق مع هذا دول الإسلام وأممه وشعوبه , وتتزلف إليه بمعسول وحلو الحديث , وهاهم أولاء جميعا يناصرون الصهيونية اليهودية وهى أبغض ما تكون إليهم لارتباط مصالحهم المادية وأغراضهم الاستعمارية بهذه المناصرة . وقد أصبح هذا المعنى معلوما في تصرفات كل الساسة الغربيين.
إذن فلن يجدينا شيئا عندهم أن نتنصل من الإسلام , ولن يزيدهم فينا بغضا أن نعلن التمسك به والاهتداء بهديه , وبخاصة وهم الآن معسكران مختلفان متنافسان على المصالح المادية وحدها.
ولكن خطر التنصل من الإسلام والتنكر له عظيم على كياننا نحن , فما دمنا بعيدين عن تشرب روحه وتحقيق تعاليمه , فسنظل حائرين فتتحطم معنوياتنا . متفرقين فتضعف قوتنا . ولو أخذنا بالحزم وأعلناها صريحة واضحة : أننا معشر أمم الإسلام لا شيوعيون ولا ديمقراطيون ولا شئ من هذا الذي يزعمون ، ولكننا بحمد الله مسلمون ، لارتسمت أمامنا توا طريق الهداية والنور ، ولجمعتنا كلمة الإسلام , ووحدت بيننا وبين إخواننا جميعا في أقطار الأرض ... وفى ذلك وحده – ولا شئ غيره – القوة والمنقذ أمام هذا العدوان الغربي الاستعماري الجارف الذي يهددنا في كل مكان .
وخلاصة هذا الكلام في إيجاز : أننا إذا لاحظنا غضب الغربيين ورضاهم في تمسكنا بالإسلام أو بعدنا عنه ، فليس لهذا من معنى إلا أننا إن لم نتمسك بالإسلام فلن نكسب رضاهم وسنخسر أنفسنا ، في حين أننا إذا تمسكنا به وتجمعنا من حوله واهتدينا بهديه كسبنا أنفسنا ولا شك . وكان هناك احتمال قوى أن نكسبهم أيضا بتأثير قوة الوحدة فأي الرأيين أولى بالاتباع يا أولي الألباب ؟ !
أما اعتراض الأقليات الغير مسلمة فقد أشرنا إليه من قبل ولا نريد أن نطيل فيه القول اليوم , فالأمر أوضح من أن يكون موضع مراء .
إنه ليس أمام الأمم الإسلامية اليوم إلا هذه الفرصة ، وإن الدول الغربية تدرك هذا تماما ، فهي تشغلنا بأنفسنا ، وتزيدنا حيرة على حيرة . وليس في الوقت متسع للتردد , وإن تبعة من لا يعلم في عنق من يعلم ، ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .
فيا رئيس الحكومة ... ويا رجال الأزهر الشريف...
ويا أعضاء الجماعات والأحزاب ويا ذوى الغيرة على هذا الوطن .
ويا أبناءه جميعا ... إليكم أقول :
عودوا إلى الإسلام تغنموا وتسلموا : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور:51) .
ألا قد بلغت ... اللهم فاشهد
قضيتنا الوطنية في ضوء التوجيه الإسلامي
حقوقنا الوطنية معروفة ، أعلنتها الأمة بكل وضوح وجلاء على لسان أحزابها وهيئاتها وجماعاتها وأفرادها في كل المناسبات ، وهى : تحقيق وحدة وادي النيل جنوبه وشماله , وجلاء القوات الأجنبية عنه جميعا , لتتم بذلك حريته واستقلاله .
والإسلام الحنيف يعلن الحرية ويزكيها ، ويقررها للأفراد والأمم والجماعات بأفضل معانيها ، ويدعوهم إلى الاعتزاز بها والمحافظة عليها ، ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم : (من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منى) . وهو يحارب هذه اللصوصية الدولية التي يسمونها الاستعمار بكل ما فيه من قوه ، ولا ترضى تعليمها أبداً بأن تسود أمة أو يرهق شعب شعباً آخر ، ولا تزال كلمة عمر الفاروق رضى الله عنه ترن في الأذن حين قال لعامله عمرو بن العاص : (متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) .
ويوم حمل الفاتح المسلم سيفه على عاتقه ، وانطلق غازياً في أراضى الله لم يكن يرجوا من وراء ذلك مغانم دنيوية ، ولم يكن يتطلع إلى خيرات الأمم والشعوب ليستأثر بها دونها وإن امتلأت يداه منها بغير قصد منه .. ولكن كان يؤمن بدعوته ويحمى رسالته ، ويحمى في العالم مبادئ الحق والعدل والسلام وتاريخ الصدر الأول من أئمة المسلمين الراشدين المهديين – وهم الحجة للإسلام – يعطيك هذه الصورة بنية المعالم ، واضحة الحدود .
والإسلام مع هذا يعتبر الأمة الإسلامية أمينة على رسالة الله في أرضه ، وله في العالم مرتبة الأساتذة – ولا نقول مرتبة السيادة – بحكم هذه الأمانة ، فلا يسمح لها أن تذل لأحد ، أو تستعبد لأحد ، أو تلاين قناتها لغامز أو تخضع لغاصب معتداً أثيم : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء:141) .
ويوم قرر الإسلام هذا ، قرر الطريق العلمي لحماية هذه الحرية . فافترض الجهاد بالنفس والمال ، وجعله فرض كفاية لتأمين الدعوة ، وفرض عين على كل أبناء الأمة لرد العدوان على الوطن إذ واجهته قوات الغزاة من غير المسلمين ، وجعل الشهادة أعلى مراتب الإيمان , ووعد المجاهدين النصر و التأييد في الدنيا , والخلود والبقاء والنعيم المقيم في الآخرة ، وأعلن أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان , (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ , يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ , خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة:20-22) .
ومع هذا فقد رحب الإسلام بالوسائل السلمية وإنهاء الخصومة متى أدت هذه الوسائل إلى الاعتراف بحق الكمال لأصحابه , (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (لأنفال:61) . وما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن محرماً , ومن السلم المفاوضة إذا أوصلت إلى الحق الكامل , وقد فاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية , ومن السلم التحاكم إذا أدى إلى هذا الحق أيضاً . وإن كنا لا نعلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو أحد من الخلفاء الراشدين المهديين رضي بتحكيم كافر . ولكنه مقتضى عموم الآية , ولازم الاتفاق على الخير ، الذي لا يمنعه الإسلام بين المسلمين وغيرهم متى كان فيه مصلحة لهم وليس فيه ضرر عليهم .
فإذا فشلت هذه الجهود السلمية فإن رأى الإسلام صريح في (النبذ) الذي يتضمن إعلان الخصومة ، ثم الأخذ تواً بكل وسيلة من وسائل الجهاد : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ , وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ , وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (لأنفال:58-60) .
وقد وعد الله المجاهدين للحق أن يدافع عنهم ، وينصرهم لا محالة على أعدائهم مهما يكن عدوهم كامل الأهبة ، عظيم العدد ، مرموق العدة ، قوى الوسائل ، وعليهم ألا يعبأوا بذلك ، وإن يعتمدوا على الله وحده , (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47) , هذه الأحكام جميعاً مقررة في الإسلام يعرفها بتفصيل أوسع واستدلال أقوى وأدق وأحكام كل من نهل من معينه , وأخذ بحظ من الفقه فيه , وعلى ضوئها نستطيع أن نحل قضيتنا الوطنية التي وصلت إلى حد من الارتباك , واضطربت الأذهان , وإليك بيان بذلك :
لقد فاوضنا فلم نصل إلى شيء لتعنت الإنجليز وتصلبهم ومناورتهم .
واحتكمنا فلم نصل إلى شئ ، كذلك أمام تغليب المصالح الدولية والمطامع الاستعمارية , ولقد قال كاتب فاضل : أننا وصلنا إلى كسب أدبي عظيم بالدعاية الواسعة لقضيتنا بطرحها أمام أنظار العالم كله ، وإخراجها من حيث التفاهم الثنائي الضيق , إلى حيز التحاكم الدولي الواسع ، وذلك صحيح ولكن هذا الكسب الأدبي لم يغنى عن الحقيقة الواقعة شيئا ، وهى أننا مازلنا مع الإنجليز حيث كنا لم نقدم خطوة , بل أن هذا الركود كان مدعاة إلى التساؤل والبلبلة .
لم يبقى إذاً إلا (النبذ على سواء) بأن نعلنهم بالخصومة الصريحة السافرة ، ونقرر في صراحة إلغاء ما بيننا وبينهم من معاهدات واتفاقات , ونعلن اعتبارا أمة وادي النيل معهم في حالة حرب - ولو سلبية - وننظم حياتنا على هذا الاعتبار .
اقتصادياً : بالاكتفاء والاقتصار على ما عندنا وعند إخواننا من العرب والمسلمين والدول الصديقة إن كانت.
واجتماعياً : تشجيع روح العزة والكرامة وحب الحرية .
وعلمياً : بتدريب الشعب كله تدريباً عسكرياً حتى يأتى أمر الله.
وتهيأ نفوس الشعب لذلك بدعاية واسعة تامة كاملة ، كم تفعل الأمم إذا واجهت حالة الحرب الحقيقية ، وتتغير كل الأوضاع الاجتماعية على هذه الأساس .
وهذا العمل لا يتسنى للأفراد ولا للهيئات ابتداء , ولكن الحكومة هي المسئولة عنه أولاً وأخيراً ، فأما الشعب نقولها في صراحة ووضوح وثقة ، أنه على أتم استعداد لبذل كل شيء لو سلكت الحكومة هذا السبيل ، إنه مستعد ليجوع ويعرى … وليموت ويناضل ، ويكافح بأشد النضال والكفاح .. ولكن على شريطة أن يكون ذلك في سبيل حريته واستقلاله لا في سبيل ارتباك اللجان الحكومية ، وضعف الوسائل الإدارية والتخبط في السياسة الاقتصادية والوقوف أمام مكائد الإنجليز وضغطهم موقف المستسلمين العاجزين .
لقد سمعت عاملا فقيرا يقول حين صدرت الأوامر بخلط الخبز : إنني مستعد أنا وأولادي أن نأكل كل يوم مرة واحدة , إذا وثقنا من أن هذا في سبيل الحرية والتخلص من الإنجليز , ولكنني ساخط كل السخط لأني لا أفهم لماذا نلجأ إلى هذا الخلط ونحن بلد زراعي أعظم محصوله المواد الغذائية؟!
فالشعب على أتم استعداد للبذل , ولكن في الطريق واضحة مرسومة تؤدى إلى الحرية أو الشهادة , بقيادة حكومة حازمة ترسم له في قوة وإخلاص مراحل هذا الطريق , أما إذا استمرت الحكومة في ترددها وتراخيها واضطرابها ، فلن يؤدى ذلك بالشعب إلا إلى أحد أمرين ، إما أن يثور ، وإما أن يموت ، و كلاهما جريمة وطنية لا يغتفرها أبداً التاريخ .
فيا دولة رئيس الحكومة ..
ويا رجال الأزهر الشريف ..
و يا زعماء الهيئات والأحزاب ..
ويا ذوى الغيرة على هذا الوطن ..
ويا أبناء الأمة جميعا :
هذه هي الطريق فاسلكوها في ضوء الإسلام والله معكم .
ألا قد بلغت .. اللهم فأشهد
وحدتنا في ضوء التوجيه الإسلامي
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
بالأمس وضعت بين يدي قومي وفي قضيتنا الوطنية الخاصة ، توجيه الإسلام الذي هو أخصر الطرق كلها حلاً حاسما كريما ، والذي لا يعدوا النبذ بالخصومة ، وإعداد وسائل الجهاد , ومتى فعلنا ذلك , فقد خرجنا ولا شك من هذه الحيرة ، ووجدنا الجواب الصحيح لهذا السؤال الذي يتحرك به كل لسان ، ويتردد في خاطر كل مواطن : ماذا نعمل الآن ؟ .
والحق أننا لا نحار لأننا لا نريد أن نفعل شيئا , ونهرب من تبعات العمل , ونفر من ثقل التضحيات وتكاليف الكفاح ، ونلتمس اللين والسهولة دائماً ، ولا نفكر في سواهما , ونتصور أن الحرية والاستقلال يهبطان من السماء بغير عمل , والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ، ولا تفيض بحرية أو استقلال .. ولو كنا جادين حقيقة في الطلب ، لسرنا في الطريق بعد أن عرفنا في كلمتين اثنين (ننبذ ، ونجاهد) ، والنصر بعد ذلك من عند الله .
والآن أعرض لموضوع آخر يتصل بقضيتنا الوطنية العامة ، التي تنتظم قضايا الأمة العربية بمختلف شعوبها والعالم الإسلامي كله , لنرى كيف تحل هي الأخرى في ضوء توجيه الإسلام الحنيف .
معلوم أن الإسلام رسالة عالمية جاءت لخير الأمم والشعوب جميعاً ، لا فرق بين عربي أو عجمي أو شرقي أو غربي : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1) . ولهذا دعا إلى القضاء على الفوارق الجنسية والعنصرية ، و أعلن الأخوة الإنسانية ، ورفع لواء العالمية بين الناس لأول مرة في تاريخ البشرية : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .
ومعلوم أن الإسلام كذلك قد قرر من باب الأول أقوى معاني الأخوة بين المؤمنين به والمنتسبين إليه والمعتقدين لرسالته ، حتى جعل الأخوة معنى من معاني الإيمان ، بل هي أكمل معانيه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) , (المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه) ، (ومثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا إشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) , (والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضا) .
ويوم واجه المسلمون العالم كله صفاً واحداً وقلباً واحداً في ظل هذه الأخوة الصادقة الحقة ، لم تلبث أمامهم ممالك الروابط الإدارية أو السياسية المجردة ساعة من نهار ، وانهزم أمامهم – بغير نظام – الروم والفرس على السواء . وكونوا إمبراطورية ضخمة تمتد من المحيط إلى المحيط ، ذات علم وحضارة ، وقوة وإشراق .
ويوم غفلوا عن سر قوتهم , ولم يأخذوا بهدى كتابهم : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46) , ودب إليهم داء الأمم من قبلهم من تغليب المصالح المادية الزائلة على الاخوة الإيمانية الباقية … تمزقت هذه الإمبراطورية أيدي ابن سبأ , ولعبت بها المطامع الخارجية والداخلية ، وانتهى أمرها مؤخراً بعد الحرب العالمية الأولى إلى الانهيار ، والوقوع في أسر خصومها من غير المسلمين , الذين احتلوا أرضها ، وملكوا أمرها , وتقاسموها فيما بينهم ، وظنوا أنه قد انتهى أمر الإسلام وختمت الحروب الصليبية أفضل ختام .
وكانت الدسيسة الكبرى التي اقتحمت على المسلمين عقولهم وقلوبهم أولاً ، ثم أراضيهم وبلادهم ثانياً ، هي تأثرهم بالعنصرية والشعوبية ، واعتداد كل أمة منهم بجنسها ، وتناسى ما جاء به الإسلام من القضاء على عصبية الجاهلية والتفاخر بالأجناس والألوان والأنساب .
وقد انتهت الحرب العالمية الثانية , التي قضت على العنصريات الحديثة في أوربا ، عنصرية النازية والفاشية ، فرأينا بعدها الدول الأوربية الكبرى تسعى سعياً حثيثاً إلى التجمع والتكتل ، باسم العنصريات تارة , والمصالح تارة أخرى .. فروسيا تحاول أن تجمع العنصر الصقلبى بكل شعوبه تحت لواء الاتحاد السوفيتي , وإنجلترا وأمريكا تتجمعان باسم الجنس واللغة ، ثم تتقاسمان بعد ذلك أمم العالم ومناطق النفوذ في الأرض باسم المصالح والضروريات الحيوية , وتستر هذا التنافس بينها بتكوين هيئة الأمم المتحدة لتوهم الناس أنها تزكى العالمية ، وتعمل لخير بنى الإنسان , كما رأينا هذه الدول نفسها تتجمع ضد حقوقنا الوطنية ، وتخذلنا في كل قضية من قضايانا الجوهرية , سواء عرضت على مجلس الأمن أم في هيئة الأمم المتحدة , كما حدث في قضية مصر , وفى قضية فلسطين , وفي قضية إندونيسيا .
نحن أمام كل هذه الأوضاع العالمية الجديدة ، وأمام تشابه قضايانا ، فهي كلها قضية واحدة معناها استكمال الحرية والاستقلال , وتكسير قيود الاستغلال والاستعمار .. ولا بد أن نلجأ من جديد إلى ما فرضه الإسلام على أبناءه منذ أول يوم ، حين جعل الوحدة معنى من معاني الإيمان … يجب أن نتكتل ونتوحد . وقد بدأنا بالجامعة العربية ، وهى وإن كانت لم تستقر بعد الاستقرار الكامل ، إلا أنها نواه طبية مباركة على كل حال ، فعلينا أن ندعمها ونقويها ، ونخلصها من كل ما يحيط بها من عوامل الضعف والتخلخل . وعلينا أن نوسع الدائرة حتى تتحقق رابطة أمم الإسلام – عربية وغير عربية – فتكون نواه (لهيئة الأمم الإسلامية) بأذن الله … وبهذه الطريقة ، والتي ستضيف إلى وسائلنا الخاصة بكل أمة ، من النبذ والجهاد معنى آخر من معاني القوة , وهي الوحدة والتجمع ، نستطيع أن نتخلص ، وأن نحفظ التوازن العالمي بين الأمم الطامعة ، والدول المتنافسة على المغانم والحطام .
والمسؤول عن تحقيق هذه الخطوات ، الحكومات العربية والإسلامية جميعاً ، وكل دعاة الإصلاح في هذه الشعوب من رسميين وأهليين . واليوم أوجه النداء : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103) .
ألا قد بلغت .. اللهم فاشهد .
حسن البنا
نظام الحكم
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ
الحكومة في الإسلام
يفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس ، فهو لا يقر الفوضى ، ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام ، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه : (إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه), كما قال في حديث آخر لبعض أصحابه كذلك : (إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم رجلا) .
فمن ظن أن الدين – أو بعبارة أدق الإسلام – لا يعرض للسياسة ، أو أن السياسة ليست من مباحثه ، فقد ظلم نفسه ، وظلم علمه بهذا الإسلام ولا أقول ظلم الإسلام فإن الإسلام شريعة الله لا يأتيها الباطل من بين يده ولا من خلفه .. وجميل قول الإمام الغزالي رضى الله عنه : (اعلم أن الشريعة أصل ، والملك حارس ، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع) فلا تقوم الدولة الإسلامية إلا على أساس الدعوة ، حتى تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة ، ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها , كما لا تقوم الدعوة إلا في حماية تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها .
وأول خطئنا أننا نسينا هذا الأصل ففصلنا الدين عن السياسة عملياً , وإن كنا لن نستطيع أن نتنكر له نظرياً فنصصنا في دستورنا على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام , ولكن هذا النص لم يمنع رجال السياسة وزعماء الهيئات السياسية أن يفسدوا الذوق الإسلامي في الرؤوس ، والنظرة الإسلامية في النفوس , والجمال الإسلامي في الأوضاع ، باعتقادهم وإعلانهم وعملهم على أن يباعدوا دائما بين توجيه الدين ومقتضيات السياسة ، وهذا أول الوهم و أصل الفساد .
عائم الحكم الإسلامي
والحكومة في الإسلام تقوم على قاعدة معروفة مقررة ، هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي .. فهي تقوم على مسؤولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام أرادتها ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال .
مسئولية الحاكم :
فالحاكم مسئول بين يدي الله وبين الناس ، وهو أجير لهم وعامل لديهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ، وأبو بكر رضى الله عنه يقول : عندما ولى الأمر وصعد المنبر: (أيها الناس ، كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم ، فأنا الآن أحترف لكم ، فافرضوا لي من بيت مالكم) . وهو بهذا قد فسر نظرية العقد الاجتماعي أفضل وأعدل تفسير ، بل هو وضع أساسه , فما هو إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة , فإذا أحسن فله أجره , وإن أساء فعليه عقابه .
وحدة الأمة :
والأمة الإسلامية واحدة , لأن الأخوة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلا بها ولا يتحقق إلا بوجودها . ولا يمنع ذلك حرية الرأي وبذل النصح من الصغير إلى الكبير ، ومن الكبير إلى الصغير ، وذلك هو المعبر عنه في عرف الإسلام ببذل نصيحة ، والأمر المعروف النهى عن المنكر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة) ، قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: (لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقال : (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها) ، وفي رواية : (وبطن الأرض خير لهم من ظهرها) ، وقال : (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .
ولا تكون الفرقة في الشؤون الجوهرية في الأمة الإسلامية ، لأن نظام الحياة الاجتماعية الذي يضمها نظام واحد هو الإسلام ، معترف به من أبنائها جميعاً . والخلاف في الفروع لا يضر ، ولا يوجد بغضا ولا خصومة ولا حزبية يدور معها الحكم كم تدور .. ولكنه يستلزم البحث والتمحيص والتشاور وبذل النصيحة , فما كان من المنصوص عليه فلا اجتهاد فيه وما لا نص فيه فقرار ولى الأمر يجمع الأمة عليه وهى شيء بعد هذا .
احترام إرادة الأمة :
ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة ، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير , وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها , وأن يأخذ بالصالح من آراءها , وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران:159) . وأثنى به على المؤمنين خيرا فقال : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38) .
ونصت على ذاك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهدين من بعدهم .. إذا جاءهم , أمر جمعوا أهل الرأي من المسلمين واستشاروهم ونزلوا عند الصواب من آرائهم ، بل أنهم ليندبونهم إلى ذلك ويحثونهم عليه . فيقول أبو بكر رضى الله عنه : (فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني أو قوموني) , ويقول عمر بن الخطاب: (من رأى فيّ اعوجاجاً فليقومه) .
(والنظام الإسلامي) في هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التي لا يكون الحكم صالحاً بدونها , ومتى طبقت تطبيقاً يحفظ التوازن ولا يجعل بعضها يطغى على بعض , ولا يمكن أن يحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحي والشعور الحقيقي بقدسية هذه التعاليم ، وإن في المحافظة عليها وصيانتها الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة ، وهو ما يعبرون عنه فالاصطلاح الحديث (بالوعي القومي) أو النضج السياسي أو (التربية الوطنية) أو نحو هذه الألفاظ ، ومردها جميعاً إلى حقيقة واحدة هي اعتقاد صلاحية النظام ، والشعور بفائدة المحافظة عليه … إذ أن النصوص وحداها لا تنهض بأمة كاملة كما لا ينفع القانون إذا لم يطبقه قاضٍ عادل نزيه .
ونحن في حياتنا العصرية قد نقلنا من أوربا هذا النظام النيابي الذي تعيش في ظله حكوماتنا الآن , ووضعنا دستورنا على أساسه ، وتغيير هذا الدستور مرة باسمه كذلك ، وجربنا الكثير من آثاره ، فإلى أي مدى ينطبق هذا النظام على الإسلام ؟ وإلى أي مدى كانت فائدتنا منه طوال هذه المدة ؟
ذلك ما سنعرض له إن شاء الله .
مسؤولية الحاكم
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
قدمت في الكلمة السابقة أن الدعائم التي يقوم عليها نظام الحكم الإسلامي ثلاث :
( أ ) مسؤولية الحاكم .
(ب) ووحدة الأمة .
(ج) واحترام إرادتها .
ولقد تحقق هذا النظام بأكمل صورة في عهد الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم . فكانوا يشعرون أتم الشعور بالتبعات الملقاة على كواهلهم كحكام مسؤولين عن رعاياهم . ويظهر ذلك في كل أقوالهم وتصرفاتهم وحسبك أن تقرأ ما قاله عمر بن الخطاب رضى الله عنه حيت ولي الخلافة ، وعمر بن عبد العزيز حين وليها كذلك , وجاءت سيرتاهما مطابقتين لقولهما : (أيها الناس قد وليت عليكم ، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم ، وأقواكم عليكم ، وأشدكم اضطلاعا بما ينوب من مهم أموركم ، ما توليت ذلك منكم ، وكفي عمر مُهِماً محزنا انتظار موافقة الحساب ، يأخذ حقوقكم كيف أخذها ووضعها أين أضعها ، وبالسير منكم كيف أسير فربى المستعان) ، فإن عمر أصبح لا يثق بقوة و لا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده ، وكان يقول : (لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب) .
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : (أما بعد ، فإنه ليس بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي ,ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب , ألا ما أحل الله عز وجل إلى يوم القيامة ، وما حرم الله حرام إلى يوم القيامة ، ألا لست يقاض ولكنني منفذ ، ألا إني لست بخيركم ولكنى رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً) . وقدمت إليه مراكب الخلافة بعد دفن سليمان بن عبد الملك فأمر بتأخيرها ، وركب بغلته وعاد إلى منزله ، فدخل عليه مولاه مزاحم فقال : يا أمير المؤمنين لعلك مهتم؟‍ فقال : (بمثل هذا الأمر الذي نزل بي اهتممت ، إن ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب أحد إلا له قبلي حق يحق علي أداؤه إليه ، غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني) .
وكانت الأمة مجتمعة الكلمة باستمساكها بأهداب الدين ، واعتقادها فضل ما جاء به من أحكام ، ورعايتها لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده في الوحدة حتى أمر بقتل من فارق الجماعة أو خرج على الطاعة ، فقال : (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنا من كان) ، كما قال : (من خرج على الطاعة وخالف الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل ، فقتلة جاهلية . ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي ذا عهد عهده ، فليس منى ولست منه) .
كما كانت إرادتها محترمة مقدرة ، فما كان أبو بكر يمضى في الناس أمراً إلا بعد أن يستشيرهم وخصوصاً فيما لا نص فيه ، وكذلك كان عمر بن الخطاب ، فقد جعل الخلافة من بعده شورى في الستة اللذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض .
وقلت في الكلمة السابقة أيضا إننا نقلنا هذا النظام النيابي ، الذي تعيش حكومتنا في ظله ، عن أوربا ، فإلى أي مدى ينطبق على الإسلام ؟ وما الذي أفدناه منه منذ طبق في عهده الأخير في بلادنا إلا الآن , وهي مدة تبلغ ربع قرن من الزمان تقريبا ؟
موقف الإسلام من النظام النيابي والدستور المصري
يقول علماء الفقه الدستوري إن النظام النيابي يقوم على مسؤولية الحاكم ، وسلطة الأمة ، واحترام إرادتها ، وإنه لا مانع فيه يمنه وحده الأمة واجتماع كلمتها ، وليست الفرقة والخلاف شرطاً فيه , وإن كان بعضهم يقول إن من دعائم النظام النيابي البرلماني : الحزبية , ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا في قيم هذا النظام , لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية .
وعلى هذا فليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم ، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيداً عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه , وبهذا الاعتبار يمكن أيضاً أن نقول في اطمئنان إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام ، وليست بعيدة من النظام الإسلامي ولا غريبة عنه , بل إن واضعي الدستور المصري رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها ، فقد توخوا فيه ألا يصطدم أي نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية ، فهي إما متمشية معها صراحة كالنص الذي يقول : (دين الدولة الإسلام) أو قابلة للتفسير الذي يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذي يقول : (حرية الاعتقاد مكفولة).
وأحب أن أنبه هنا إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التي تسير عليها المحاكم إذ أن كثيراً من هذه القوانين يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام ، وذلك بحث أخر سنعرض له في موضعه إن شاء الله .
ومع أن النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم ، فإننا نصرح بأن هناك قصورا في عبارات الدستور ، وسوءاً في التطبيق ، وتقصيرا في حماية القواعد الأساسية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور ، أدت جميعاً إلى ما نشكو منه ، ما وقعنا فيه من اضطراب في كل هذه الحياة النيابية .
وستناول هذا الإيجاز بشيء من البيان .
الوزارة
فأما عن مسؤولية الحاكم فإن الأصل فيها في النظام الإسلامي أن المسؤول فيها هو رئيس الدولة كائنا من كان ، له أن يتصرف ، وعليه أن يقدم حساب تصرفه للأمة ، فإن أحسن أعانته ، وإن أساء قومته ، ولا مانع في الإسلام في أن يفوض رئيس الدولة غيره في مباشرة هذه السلطة وتحمل هذه المسؤولية ، كما عرف ذلك في (وزارات التفويض) في كثير من العهود الإسلامية ، ورخص الفقهاء المسلمون في ذلك وأجازوه ما دام فيه مصلحة ، والقاعدة في مثل هذه الأمور رعاية المصلحة العامة ، قال الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية : (والوزارة على ضربين ، وزارة تفويض ، ووزارة تنفيذ ، فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه ، وإمضاءها على مقتضى اجتهاده ، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة ، قال تعالى حكاية عن نبيه عليه الصلاة والسلام : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي , هَارُونَ أَخِي , اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي , وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (طه:29-32) . فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز . لأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعها إلا باستنابة ، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور في تفرده بها ليستظهر بها على نفسه ، وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل) .
والأصل في هذه المسؤولية في النظام النيابي ، أن المسؤول هو الوزارة مسؤولية على رئيس الدولة ، وقد جرى على هذا الدستور المصري والدستور الإنجليزي ، فصرح كل منهما بمسؤولية الوزارة ، وإخلاء رئيس الدولة من كل مسؤولية واعتباره لا يخطئ ، واعتبار ذاته مصونة لا تمس .
على أنه لا مانع في النظام النيابي من تحمل رئيس الدولة المسؤولية واعتبار الوزارة تابعة له في ذلك ، كما يقرر ذلك دستور الولايات المتحدة . والغريب أن تشير كتب الفقه الإسلامي إلى هذا الوضع أيضاً ، وتسمى هذه الوزارة (وزارة التنفيذ) فيقول الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) أيضا : (وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف ، وشروطها أقل ، لأن النظر مقصور فيها على رأى الإمام وتدبيره ، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة ، يؤدى عنه ما أمر ، وينفذ ما ذكر ويُمضي ما حكم …) ولا شك أن هذا من سعة مادة الفقه الإسلامي ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان .
غموض الدستور المصري
هذه هي قواعد النظام الإسلامي والنيابي معاً في (مسؤولية الحاكم) , فماذا فعلنا نحن في مصر؟ وقفنا في منتصف الطريق نصاً وتطبيقاً . وجاء دستورنا في هذا المعنى غامضاً مقتضباً غير واضح ولا مفصل ، مع أنها أهم نقطة في تحديد لون الحياة النيابية والإسلامية التي نحياها .. وشرحا لذلك سأسوق ما كتبه الأستاذان الدكتور إبراهيم مدكور عضو مجلس الشيوخ المصري , والأستاذ مريت غالي في مذكرتهما (نظام جديد) قالا تحت عنوان الدستور وغموضه :
{ فأما العامل الأول فملخصه أن دستورنا على الرغم من دقته وضبط عباراته ، قد وقع في نفس الغموض الذي وقعت فيه دساتير أسبق منه ، وترك أهم نقطة في الحكم النيابي دون أن يحددها التحديد الكافي ، ونعني بها سلطة الوزراء وصلتهم بالشعب ممثلة في نوابه من جهة ، وإشراقهم على ما يؤدى إليه من خدمات من طريق المصالح والإدارات من جهة أخرى . كما أجمل إجمالاً مخلاً في بيان موقفهم من رئيس الدولة و مليك البلاد ، واكتفى بأن يصوغ هنا في عبارات تصلح لكل ما يراد منها , وواضح أن الوزارة هي العمود الفقري لهيكل النظام النيابي الجديد وحلقة الاتصال بين التشريع والتنفيذ ومبعث الحياة والحركة في نظام يراد به احترام سلطة الشعب مع تصريف شؤون الدولة تصريفاً محكماَ سريعاً . وإذا ما رجعنا إلى الدستور وجدنا أن ما جاء به متصلا بهذه النقطة الحساسة لا يكاد يتجاوز ثلاثة أسطر كلها غموض وعموم , فيقرر في المادة 29 : (أن السلطة التنفيذية يتولاها الملك في حدود هذا الدستور) , وفي المادة 48 : (الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه) , وفي المادة 49 : (الملك يعين وزراءه ويقيلهم) , وفي المادة 57 : (مجلس وزرائه هو المهيمن على مصالح الدولة) , وفي المادة 61 : (الوزراء مسؤولون متضامنون لدى مجلس النواب عن السياسة العامة للدولة , وكل منهم مسؤول عن أعمال وزارته) , وفي المادة 63 : (أوامر الملك – شفهية أو كتابية – لا تخلي الوزراء من المسؤولية على أية حال) }
تلك تقريبا جملة النصوص المتصلة بهذا الموضوع , ولا نظن أن فيها ما يكفي مطلقا لحل أي مشكل من المشاكل التي أشرنا إليها .
وقد أفاضا بعد ذلك في الشرح والتمثيل بما يفصل ما تقدم من هذه المعاني .. والمهم أن هذه النقطة وهي لب الأمر تحتاج على إيضاح واستقرار , وهي القاعدة الأولى من قواعد (النظام الإسلامي) أو النيابي على السواء , و بغير ذلك لا يمكن أن تستقيم الأمور أو تسلم .
وحدة الأمة
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وأما عن وحدة الأمة فقد أبنت أن الإسلام الحنيف يفترضها افتراضاً , ويعتبرها جزءاً أساسياً في حياة المجتمع الإسلامي لا يتساهل فيه بحال , إذ أنه يعتبر الوحدة قرين الإيمان (إنما المؤمنون أخوةً) , كما يعتبر الخلاف والفرقة قرين الكفر كما فال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100) . أي بعد وحدتكم متفرقين كما قال رسول الله e : (لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم وجوه بعض) فعبر بكلمة الكفر على الفرقة والخلاف وأن يضرب بعضهم وجوه بعض .
وأعتقد أن الحكم النيابي – برلمانيا وغير برلماني - لا يأبى هذه الوحدة , وبخاصة إن كان لون الحياة الاجتماعية واحداً في أصوله واتجاهاته العامة , كما هو شأن الأمة الإسلامية جميعاً في هذه الأيام , وإنما لازمت الحزبية والفرقة والخلاف هذا النظام النيابي في أوربا وغيرها , لأنها نشأت على أنقاضها , وكانت الخلافات المتكررة الدامية بين الشعوب وحكامها هي السبب في نشأته فعلاً مع تباين المشارب واختلاف الآراء ... أما الأمم الإسلامية فقد حماها الله من ذلك كله , وعصمها بوحدة الإسلام وسماحته من هذا التبلبل والاضطراب .
ومع هذا فإن الحكم النيابي في أعرق مواطنه لم يقم على هذه الحزبية المسرفة , فليس في إنجلترا إلا حزبان هما اللذان يتداولان فيها الأمر , وتكاد تكون حزبيتهما داخلية بحتة , وتجمعهما دائما المسائل القومية المهمة , فلا تجد لهذه الحزبية أثرا البتة , كما أن أمريكا ليس فيها إلا حزبان كذلك لا نسمع عنهما شيئا إلا في مواسم الانتخابات , أما فيما عدا هذا فلا حزبية ولا أحزاب , والبلاد التي تطورت في الحزبية وأسرفت في تكوين الأحزاب ذاقت وبال أمرها في الحرب والسلم على السواء , وفرنسا أوضح مثال لذلك.
وإذا كان الأمر كذلك , وكانت وحدة الأمة أساسا في النظام الاجتماعي الإسلامي ولا يأباه النظام النيابي فإن من الواجب أن نتحول سريعا إلى الوحدة بعد أن أهلكت الحزبية في مصر الحرث والنسل .
الأحزاب المصرية
لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى , وهي أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن , وأنها ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا , فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة , اقتضت الظروف في يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها القومية , كما انعقد الإجماع على أن هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج , ولا خلاف بينها في شيء أبدا إلا في الشخصيات , وآية ذلك واضحة فيما تعلن من بيانات خارج الحكم وفيما تطلع به من خطب العرش داخل الحكم , وبما أن الأحزاب هي التي تقدم الشيوخ و النواب , وهي التي تسيّر دفة الحكم في الحياة النيابية فإن من البديهي ألا يستقيم أمر الحكم وهذا حال من يسيّرون دفته .
وهذا الكلام الذي انعقد إجماع الأمة عليه , أعلنه شيوخ ونواب وفقهاء ودستوريون في صراحة ووضوح , ومن قرأ ما كتبه علوبة باشا في كتابه (مبادئ وطنية) , أو الأستاذ حسن الجداوي في كتابه (عيوب الحكم في مصر) أو غيرهما من الكتاب , رأى صدق ما نقول , وحسبنا هنا أن ننقل فقرة من كتاب الفقيه الدستوري الأستاذ سيد صبري (مبادئ القانون الدستوري) عن الأحزاب المصرية قال : (والواقع أنه لم يعد لأغلب الأحزاب السياسية في مصر برنامج يدافع عنه أنصاره , بل أصبح كل حزب عبارة عن وزير سابق له أنصار ومريدون , ولهذه النتيجة أهميتها , فإن الانتخاب لن يقوم على المفاضلة بين البرامج , فقد أصبحت واحدة للجميع , بل سيقوم على الثقة بالأشخاص أو المفاضلة بينهم , وستكون الانتخابات شخصية لا حزبية بالمعنى المفهوم لدى الشعوب الغربية , وبديهي أن بقاء الأحزاب على هذا المنوال يقسم البلاد شيعا وأحزابا ويثير الشقاق والمنازعات بين الأفراد والأسر بلا سبب مفهوم ولا أساس معقول).وإذا أضيف إلى هذا أن مصر بلدا محتلا إلى الآن , وأن الذي يستفيد من هذه الفرقة هم المحتلون الغاصبون فقط , وأنه إذا استسيغ الخلاف – وهو غير مستساغ بحال – في أمة من الأمم , فإن أمة وادي النيل هي أحوج ما تكون إلى أكمل معاني الوحدة لتتجمع قواها في نضال الاستقلال وفي عمل الإصلاح الداخلي , إذا أضيف هذا كله كان الأمر أخطر من أن يهمل أو يستهان به .
حل الأحزاب المصرية
ولا أدري إذا كان الأمر كذلك فلا أدري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمي نفسها الأحزاب السياسية؟
إن الأمر خطير , ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة ولو مؤقتة لمواجهة هذه الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد , فيئسوا وأخفقوا , ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول , ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعا وتجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريته , ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام , ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة التي يفرضها الإسلام.
احترام رأى الأمة
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
نظام الانتخابات
وأما عن احترام رأى الأمة , ووجوب تمثيلها واشتراكها في الحكم اشتراكاً صحيحاً ، فإن الإسلام لم يشترط استبانة رأى أفرادها جميعاً في كل نازلة ، وهو المعبر عنه ، في الاصطلاح الحديث بالاستفتاء العام ، ولكنه اكتفى في الأحوال العادية (بأهل الحل والعقد) ولم يعينهم بأسمائهم ، ولا بأشخاصهم ، والظاهر من أقوال الفقهاء ووصفهم إياهم أن هذا الوصف ينطبق على ثلاث فئات هم :
1 - الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام .
2 - وأهل الخبرة في الشؤون العامة .
3- ومن لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤوساء المجموعات .
فهؤلاء جميعاً يصح أن تشملهم عبارة "أهل الحل والعقد" .
ولقد رتب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخابات وطرائقه المختلفة ، والإسلام لا يأبى هذا التنظيم ما دام يؤدى إلى اختيار أهل الحل والعقد ، وذلك ميسور إذا لوحظ في أي نظام من نظم تحديد الانتخاب صفات أهل الحل والعقد ، وعدم السماح لغيرهم بالتقدم للنيابة عن الأمة .
عيوب نظم الانتخابات في مصر
ونحن في مصر قد أخذنا بنظام الانتخاب المباشر تارة في قانون سنة 1923 , وبنظام الانتخاب على درجتين في قانون سنة 1930 , وكلاهما في الواقع لم يحقق الغرض المقصود منه , وظهر له حين التطبيق عيوب يجب أن نعمل على إصلاحها بتعديل شامل , وليس الخطأ عيبا في ذاته , ولكن الرضا به والاستمرار عليه والدفاع عنه هو الخطأ كل الخطأ .
ولقد شعر الجميع بقصور قانون الانتخابات الحالي عن الوفاء بالغرض الذي وضع من أجله وهو الوصول إلى اختيار الصالحين للنيابة عن الأمة ، ووجهت إليه انتقادات مرة كشفت عن كثير من العيوب وأهمها ما ذكره الدكتور سيد صبري في كتابه (مبادئ القانون الدستوري) : {أنه أوجد هيئة ناخبة لا يمكنها تحقيق الغرض من الانتخابات على الوجه المطلوب ، وأنه لم يحقق فكرة تمثيل الأمة تمثيلاً صحيحاً ، وأنه لم يصل إلى إيجاد هيئة تعمل للصالح العام مجردة من كل قيد ... ) وقد أورد بعد ذلك إحصائية دقيقة خلص منها بالأرقام إلى أن قرارات البرلمان المصري في أدواره المختلفة لا تعبر عن رأى الأمة ولا عن رأى أكثريتها ، ولا عن رأى أقلية محترمة عن أبنائها , وإنما تعبر عن رأى نسبة ضئيلة من مجموع من له حق الانتخاب , لم تصل يوما إلى 12% وبيان ذلك :
أن مجلس نواب سنة 1936 لا تمثل قراراته – مع أنها صحيحة ونافذة بحكم القانون – إلا 10.75% من هيئة الناخبين .
ومجلس سنة 1929 نسبة التمثيل فيه 9.25% .
ومجلس سنة 1936 النسبة فيه 10.75% .
ومجلس سنة 1938 النسبة فيه 11.75% .
ومجلس سنة 1942 النسبة فيه 9.75% .
فكيف يقال بعد هذا إن ذلك تعبير عن رأي الأمة وتمثيل لها تمثيلا صحيحا؟!
تعديل وإصلاح
لا بد من تعديل وإصلاح لقانون الانتخاب ، ومن وجوه هذا الإصلاح الضرورة :
1 - وضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم ، فإذا كانوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هذا المرشح ، وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهم من الصفات والمناهج الاصلاحية ما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة ، وهذا المعنى مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب في مصر ، وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية فيها .
2 - وضع حدود للدعاية الانتخابية ، وفرض عقوبات على من يخالف هذه الحدود ، بحيث لا تتناول الأسر ولا البيوت ولا المعاني الشخصية البحتة التي لا دخل لها في أهلية المرشح وإنما تدور حول المناهج والخطط الإصلاحية .
3 - إصلاح جداول الانتخابات ، وتعميم نظام تحقيق الشخصية ، فقد أصبح أمر جداول الانتخابات أمراً عجباً بعد أن لعبت بها الأهواء الحزبية والأغراض الحكومية طول هذه الفترات المتعاقبة ، وفرض التصويت إجبارياً .
4 - وضع عقوبة قاسية للتزوير من أي نوع كان ، وللرشوة الانتخابية كذلك.
5 - وإذا عدل إلى الانتخابات بالقائمة ، لا الانتخاب الفردي كان ذلك أولى وأفضل ، حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم ، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية في تقدير النواب والاتصال بهم .
وعلى كل حال فأبواب الإصلاح والتعديل كثيرة ، هذه نماذج منها ، وإذا صدق العزم وضح السبيل ، والخطأ كل الخطأ في البقاء على هذا الحال والرضا به ، والانصراف عن محاولة الإصلاح.
الواقع الحالي
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً
عرضت في الكلمات السابقة لدعائم الحكم الصالح الثلاث في النظام الإسلامي أو النيابي على السواء , وهي :
1 – مسؤولية الحاكم
2 – ووحدة الأمة
3 – واحترام إرادتها
وأشرت في إيجاز بالغ إلى نواحي الغموض في التشريع , والقصور والفساد في التطبيق , في أسلوب الحكم الذي جربناه منذ صدور الدستور المصري إلى الآن , وقد كانت نتيجة هذا الغموض والقصور والفساد ... ما نحن عليه الآن من حيرة قلق و ارتباك , وما وصلنا إليه من فرقة وتمزق وشتات .
ضعف الحكومات
لا يجادل أحد في أن الحكومات المتعاقبة قد ضعفت عن أداء واجبها ، وفقد معظم هيبتها في النفوس كحكومة , بسبب هذا التجريح بالحق وبالباطل الذي تمليه الروح الحزبية البحتة ، وبسبب هذا العجز الناتج عن عدم تحديد المسؤولية والاضطلاع بها كاملة غير منقوصة ، ولولا أن النفوس في مصر مطبوعة بطابع الطاعة والاستسلام ، والأعمال تسير بطريق روتيني لا تجديد فيه ولا ابتكار .. لتعطل كل شئ ، ولعجز الدولاب الإداري المضطرب عن أن ينهض بحاجات الشعب أو أن يؤدى للناس عملاً.
هيبة القانون
ولا شك أن سلطان القانون قد تزعزع وفقد معظم احترامه كذلك ، بسبب هذه الاستثناءات والمحسوبيات والحيل المتكررة ، والاعتداء أحياناً بنسخ القانون لغرض شخصي .. ولو أن هذا النسخ بقانون في ظاهر الأمر , ولكن الدوافع تكون معروفة دائماً ولا تخفي على أحد ، فيعمل ذلك عمله في النفوس وينال من هيبة القانون واحترام النظام .
حزبية عمياء
ولا شك أن نار الخصومة والحقد قد اضطرب في نفوس الحاكمين والمحكومين على السواء ، بفعل هذه الحزبية الخاطئة , التي لم نفهمها نحن في مصر في يوم من الأيام على أنها خلاف في الرأي لا يفسد للود قضية , بل فهمناها عداوة وبغضاء تتعدى النظر في المصالح العامة إلى المقاطعة في كل الشؤون عامة وخاصة , وإلى أن نرى الحق في جانب خصومنا الحزبيين باطلا , والباطل في جانب أنصارنا الحزبيين حقا , ونصدر من هذا الشعور في كل تصرفاتنا وصلاتنا , ويستفحل هذا الداء ويستشري حتى في أحرج المواقف , فلا نستطيع أن نوحد صفوفنا في أي موقف قومي مهما يكن يتوقف عليه إصلاح أمرنا ومستقبل بلادنا .
وهذا الشعور البغيض , والفهم الخاطئ للحزبية الذي تحول إلى عداوة متأصلة , قد كان من نتائجه : أن انصرفت معظم الجهود الفكرية والعملية إلى أمرين استغرقا كل اهتمام رجالنا , وهما : الإيقاع بالخصوم الحزبيين واتقاء مكائدهم , فالحاكم يصرف جل همه في هاتين الناحيتين , والمعارضة لا تقل عن الحاكم اهتماما بها , وفي سبيل ذلك تضيع الحقوق وتتعطل المصالح , ويرثى الأصدقاء ويشمت الأعداء , ويستفيد الخصم الجاثم على صدر البلاد .
هذه الحال قد أنتجت التحطم في المعنويات ، والفساد والاضطراب في الماديات وقد بلغ الأمر منتهاه ولم يعد قوس الصبر منزع ، ولابد من تغيير حازم حاسم سريع .. فأما أن يفقه أولو الأمر هذه الحقيقة ويقدروها ، فيبادروا في سرعة إلى إجراء التغيير الصالح برأيهم وعلى أيديهم ، وفي ذلك السلامة والاستقرار ، ومازال في الوقت متسع للإصلاح ، وإما أن يظلوا في هذا الانصراف فتسبقهم الحوادث ، ويفلت من يدهم الزمام ، ولا يدري عاقبة ذلك إلا الله .
يا أولى الأمر في هذا البلد ..
ويا دولة رئيس الحكومة ..
ويا رجال الأزهر ...
ويا زعماء الأحزاب والهيئات والجماعات ...
ويا ذوى الغيرة على هذا الوطن الأسيف :
تداركوا الأمر قبل الفوات .. وأمامكم سفينة النجاة بنظام الإسلام .. ولله عاقبة الأمور .
ألا قد بلغت ... اللهم فاشهد .
حسن البنا
النظام الإقتصادي
طبقة جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.