أن تكتب عن صنعاء، فليس شرطاً أن تُوجَّه إليكَ دعوةٌ لحُضور ندوةٍ أو ما شابه، أو أن يرضى عنكَ هذا أو ذاك، فالكتابة عن صنعاء القديمة ليست واجباً مهنياً، بل هي واجبٌ أخلاقي، وهُو يتعلَّق بالسرّ الأزلي، الذي فحواه أنَّكَ لكي تُحبّ مدينةً عليكَ أن تعشقها، وحين تعشقها فلا يأتي العشق بقرار، بل ناتج العيش، بل والمُعايشة. قبل إطلاق النداء لحماية صنعاء والحفاظ عليها كجوهرةٍ تتعرَّض لمُحاولات الخدش أحياناً ممَّن يُفترض أنَّهم أقرب الناس إليها، وأرجو أن يفشلوا. الحُبّ والعشق والتواصل مسألةٌ أُخرى لا يفهمها كثيرون، أنا شخصياً - وكثيرون غيري - لا أُحبّ صنعاء القديمة، بل أعشقها، ببساطة، لأنَّني عشتها وعايشتها وعشتُ فيها مُتنقِّلاً من حُبٍّ إلى حُبّ، ومن عشقٍ إلى ما هُو أسمى، صار واجباً أخلاقياً أن أنشد لها قصائد الشِّعْر، وأحنق عليها إذ تمتدّ إليها يد الإهمال، وهُناك مَنْ يتفرَّج، وإن كان يظهر في المُناسبات. صنعاء تحتاج إلى مَنْ يسمع همس حجارتها، وصمت أزقَّتها ورنين أجراس خلاخيلها، بحاجةٍ إلى مَنْ يُحسن الصمت ولا يُجيد الثرثرة، يَسْمَع شكواها، وشكواها من أبنائها الذين تركوها، هجروها، ذهبوا إلى بيوت حديثةٍ وتركوا جمال بيوتهم نهباً لعاديات الأيَّام. وفي الأخير يحصر البعض منهم صنعاء العظيمة الكبيرة السامية ببطاقةٍ يهبها لهذا ويمنعها عن ذاك، ويظنّ أنَّه استحوذ عليها، وهي تستحوذ حُبّ كُلّ اليمنيين، لا أدري لماذا يخشى البعض أن تقول له : أنتَ ابن صنعاء، ويُحاول أن يُدلِّل لكَ أنَّه يمنيٌّ ووطنيٌّ أكثر منك، ويذهب في خطابٍ تعلم من ملامح وجهه أنَّ كلامه في وادٍ وما في الأعماق في وادٍ آخر. أقولُ : ليس عيباً أن يُحبّ ابن صنعاء مدينته التي يحسدها عليه آخرون، ليس من العيب أن يتنكَّر أحدٌ لمسقط رأسه لمُجرَّد أنَّه يُريد إثبات يمنيّته، وأنا أقول إنَّ صنعانيّتي مدخلٌ ليمنيّتي، والعكس صحيح، فصنعاء التي أحبَّت كُلّ الناس وعشقوها هُم بكُلِّ معاني العشق، كبيرةٌ إلى درجة أن تجعلكَ تتهيَّب أن تنسب إليها هذا أو ذاك. صرتُ لا أذهب إلى صنعاء كما كُنتُ أفعل، حين تضيق بي الدُّنيا في زحمة ما وراء السُّور، فأرتمي في أحضانها، أتحسَّس أنفاسها وذكرياتٍ تذرذرت في أزقَّتها، وعند أبواب بيوتها وفي درجات منازل الزُّملاء والأصدقاء، صرتُ لا أذهب، ليس هُروباً منها، بل خوفاً عليها، فآخر مرَّةٍ دخلتها، أوَّل ما رأيت ذلك اللَّون الأزرق وقد كُتبت به عبارات ما هدى اللَّه وما رزق على الجُدران وآنيات الحجر، عُدتُ أدراجي، لم أَرَ أصحابي ولا تلك الوجوه البشوشة، والنوافذ قد تحوَّلت إلى الألمنيوم، وأبواب الخشب إلى الحديد، وصار الاهتمام بها دُون المُستوى إلاَّ من الأجانب الذين يضعونها في مآقي عُيونهم. هنا دعوني أُخاطب الدُّكتور حُسين العمري، الأُستاذ علي الآنسي، أبو التوثيق القاضي علي أبو الرجال، أنَّ صنعاء القديمة لا يُمكن أن تُحصر في جمعيةٍ أو مُنظَّمة، صنعاء يجب أن تكون جمعيتها اليمن كُلّه من أقصاه إلى أقصاه، والنداء يُوجَّه إلى كُلّ يمنيٍّ غيُّورٍ من أجلها ومن أجل المُدن التاريخية الأُخرى، خُذ زبيد - مثلاً - وأين جبلة؟ وماذا عن تعز القديمة، والصهاريج، والجوف، ومارب، وظفار، والعود؟ ذلك ما قاله الرَّجُل الكبير عبدالعزيز عبدالغني، الذي يُحسب لحُكوماته أنَّ أحد أهمّ إنجازاتها ما تحقَّق لصنعاء القديمة، ورحم اللَّه الدُّكتور عبدالرحمن الحدَّاد. صنعاء من اللَّحظة لا بُدَّ أن تُوضع في طوابع البريد، وعلى هوامش الصُّحف، وفي مآقي العُيون، وعلى أغلفة دفاتر الأطفال، صنعاء بحاجةٍ إلى انتشار الفنَّانين التشكيليين في شوارعها يرسمون ويلفتون النظر إليها، وفي الخارج أين سفاراتنا؟ ماذا تفعل؟ وفي نهاية كُلّ أُسبوعٍ لا بُدَّ لطلبة المدارس من الدخول إلى شوارعها وأزقَّتها يُنظِّفون ويرسمون ويفهمون وينصتون، وفي كُلِّ مُحافظة تُدعى كُلّ الفعاليات لوضع مُدنها التاريخية في صدارة الاهتمام، وباللَّه عليكم، لا تحصروها في دعوة الحُضور إلى ندوةٍ ثُمَّ نعود إلى السُّبات العميق. من هُنا لكُلّ الناس : صنعاء القديمة تدعوكم، فلا تبخلوا، لا نقصد المال، بل الاهتمام، وكُلٌّ في مجاله يُقدِّم ما يستطيع، ويا صنعاء، لكِ كُلّ عشقنا.