قبل أيام احتفلت البشرية بأصحاب البزات الصفراء وعرباتهم الحمراء وخراطيمهم البيضاء .. برجال «المطافئ» سابقاً و«الدفاع المدني والإنقاذ» حالياً فابتهجت في يومهم العالمي ، بما بلغوه من مهارة وكفاءة إنقاذ ، واحتفت بأبطاله تكريماً وتقديراً لبطولاتهم الحقيقية الخالدة في تاريخ الكوارث الإنسانية ، وعندنا أيضاً شهد هذا اليوم احتفالاً ، لكنه كان مختلفاً ، إذ احتفل الدفاع المدني بنفسه من ناحية ، وبعث الاحتفال الأسى لحاله من ناحية ثانية. لا أقصد هنا التقليل من شأن الدفاع المدني في بلادنا ، ولا إنكار تضحيات عناصره ، ولا الانتقاص من جهود إدارته العامة الساعية لاستحقاق حمل اسم «الدفاع المدني» بما يعنيه اليوم من اتساع وشمولية للوظيفة ، لكني أضم صوتي إلى همس القائمين على هذه الإدارة بمختلف فروعها ، بشأن الضعف الكبير الذي مازالت تعانيه في مهماتها ، واختصاصاتها ، وفي أدائها، وبالطبع القصور الفادح في امكاناتها المادية والتقنية ، والبشرية ، تعداداً وتأهيلاً لم يعد مفهوم الدفاع المدني اليوم ولا وظيفته محصورة في إطفاء الحرائق ومتابعة جديد أدواته ومواده وتقنياته الأكثر فاعلية والأسرع إخماداً للنيران ، صار الدفاع المدني اليوم في كافة بلدان المعمورة يشمل مختلف أوجه ومجالات الانقاذ والإغاثة ، في مختلف أنواع الكوارث ، بدءاً من الحرائق ، والفيضانات، والزلازل ، والأعاصير ، والانهيارات الصخرية والجليدية، وانهيارات الجسور والمباني ، والأوبئة الصحية ، والصناعية والكيميائية ، والحروب ...الخ. وفي بلادنا مازال نشاط الدفاع المدني محصوراً في كوارث الحرائق ، ليس لأنها الكوارث الوحيدة التي تقع ، بل لأن الله يلطف بنا و«ينزل البرد على قدر اللحاف» كما يقال في المثل ، وإلا فإن العجز عن التعاطي مع أية كوارث طبيعية ووبائية وصناعية أخرى قد تحدث ، سيكون كارثة بحد ذاته ، إذ تنعدم الآهلية لدى الدفاع المدني الوطني لمواجهتها ، إن على صعيد الجاهزية المنعدمة ، أو التأهيل لمنتسبيه والخبرة المفقودة ، أو على صعيد الامكانات اللازمة غير المتوفرة !!. لست أفترض هذه النتيجة المأساوية لأداء الدفاع المدني الوطني حيال أي نوع من الكوارث عدا الحرائق ، فهناك أمثلة تعزز ما نقول ، وجميعنا يذكر حوادث الانهيارات الصخرية وفيضانات سيول الأمطار ، وانهيارات المنازل بفعل الأمطار ، ويتذكر أداء فرق الدفاع المدني والانقاذ في التعاطي معها ، وكم أنه رغم إخلاص نية أفرادها كان أداء قاصراً ودون المستوى المفترض ، عاجزاً عن تحقيق النتائج المأمولة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، حتى في حوادث الحرائق !!. يفيد التقرير السنوي للدفاع المدني ، أن (25) مواطناً ماتوا و(31) أصيبوا في البلاد العام الماضي في (627) حادث حريق ، منها (248) منزلاً و(112) وسيلة نقل و(50) متجراً و(40) ورشة و(41) مطعماً و(38) مكتباً وشركة و(18) محولاً كهربائياً و(16) مزرعة و(43) تجمع قمامة و(8) مرافق عامة و(7) فنادق و(3) مصانع و(3) محطات وقود يضاف إليها (8) حالات غرق و(6) حالات تصادم سيارات ، وحالتان تهدم منازل وحالة سقوط في بئر. وبقدر ما نحيي إدارة الدفاع المدني على عملها هذا ، ونشاطها في معالجة ومكافحة أسباب الحرائق التي كان وراء (177) منها إهمال المتضررين بها و (103) عبث الأطفال و(6) تسرب غاز ، بنشرها ثلاثة أدلة إرشادية وحملة توعية اشتملت محاضرات ودورات تدريب ل (103.640) من طلبة المدارس والمعلمين والموظفين من الجنسين وإشرافها الوقائي على (5386) منشأة ما بين محطات وقود ووكالات بيع غاز ومنشآت صناعية ، ومرافق ومؤسسات عامة ، وأسواق. أقول كل هذا يستحق التحية والإشادة بلا شك .. لكن في المقابل ، ماذا فعلت الإدارة العامة للدفاع المدني حيال باقي مسببات حوادث الحرائق في البلاد ، فإحصائيات الإدارة نفسها لحوادث العام 2006م تظهر أيضاً : أن «الماس الكهربائي تسبب في وقوع (142) حادثة حريق، يضاف إليها (35) حادثة حريق وقعت بسبب الشمعة وأدوات الإضاءة التي تستخدم عند انقطاع التيار الكهربائي» ؟ .. الجواب : لا شيء!!. وعلاوة على قصور كفاءة التحريات في كشف أسباب (134) حادثة حريق ، يتفق القائمون على إدارة الدفاع المدني وفروعه في 18 محافظة على جملة معوقات تعترض أداء مهامهم وتحد من كفاءته في الانقاذ ، يوجزونها في : «البناء العشوائي وضيق الشوارع يصعب الاهتداء للعنوان وبلوغه ، إزدحام حركة السير في الطرقات ، وقطعها بخيام الأعراس يؤخر ويعيق وصول النجدة إلى جانب أن هناك حفريات في الشوارع لا ينتبه لها سائقو سيارات الإطفاء ليلاً. كما يضيف المعنيون إلى هذه المعوقات «الخارجة عن يد الدفاع المدني» : انخفاض أسلاك الكهرباء في الشوارع يشكل خطراً على العاملين في فرق الانقاذ ، وجدولة ضخ المياه على الاحياء .. يصيب فرق الاطفاء بخيبة أمل وإعاقة كبرى حين يحتاجون الاستعانة بمحابس مياه الشوارع (حنفيات الإطفاء) ويتفاجؤون بأن لا مياه فيها ، إضافة إلى استهتار هواة البلاغات الكاذبة ، واهدارهم جهد ووقت فرق الإطفاء فيما لا ينفع على حساب حرائق فعلية تقع في الوقت نفسه. ثم نأتي إلى نواحي الضعف في إدارة الدفاع المدني ، يذكر منها مديرا أهم فرعين للإدارة (عدن والحديدة) بعد فرع العاصمة صنعاء : «نقص القوة البشرية ، نقص آليات ومركبات الدفاع المدني وقطع الغيار الخاصة بها ، قلة مراكز الدفاع المدني في المحافظة ، نقص معدات الانقاذ والاسعاف والمتخصصين ، عدم توفير علاوات بدل مخاطر لأفراد فرق الانقاذ ، عدم الأخذ برأي الدفاع المدني قبل وأثناء وبعد إنشاء أية منشأة جديدة أو عمل مخططات الشوارع. تبدو هذه المعوقات مقنعة في تبرير المستوى الراهن لأداء الدفاع المدني في بلادنا ، الذي تشعر أنه بهدا الاسم يحمل مسئولية أكبر منه وامكاناته وقدراته البشرية والفنية والتقنية ، وأن الاحرى والأقرب للصواب هو أن يحتفظ باسمه السابق سواء في شمال البلاد (1976م) أو جنوبه (1956م) وأعني «الإدارة العامة للإطفاء والإنقاذ» فهو على الأقل اسم على مسمى ، ولا يجافي حقيقة واقع اختصاص ونشاط هذه الإدارة حالياً. وفقاً للمعنيين فإن امكانات الإدارة العامة للدفاع المدني والإطفاء في الجمهورية مازالت محدودة وعدد آلياتها «بالكاد 74 عربة مختلفة الأغراض» ، وهذا العدد هو دون الحد الأدنى من الاحتياج ، بينما طبيعة واقع التركيبة الجيولوجية (البركانية) للبلاد والسكانية والبيئية تنذر بكوارث طبيعية وغير طبيعية محتملة ، وتلزم بضرورة إيلاء الدفاع المدني جل الاهتمام والرعاية والدعم المادي والتقني والتعبئة البشرية للمتطوعين المدربين المؤهلين. وأتذكر هنا أني قرأت في ابريل 2004م خبراً يقول : إن «وزير الدولة أمين العاصمة وجه بتوفير سيارات صغيرة لغرض اسعاف المرضى وإطفاء الحرائق في المدينة القديمة في كل الأماكن بما فيها المناطق المغلقة» وفي مارس 2006م قرأت خبراً يقول : إن وزارة الداخلية وقعت مع الشركة الصينية للتقنيات الجوية مذكرة تفاهم على شراء مروحيات (هيلو كبتر) مع معدات التدريب والصيانة ، لاستخدامها في مجالات : مكافحة الإرهاب ، خفر السواحل ، الدفاع المدني ».. وكلاهما ظل خبراَ !!. على كل حال، يبقى الأمل معلقاً بخطة وزارة الداخلية لهذا العام ، التي أعلن نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية د.رشاد العليمي في مؤتمر قادة وزارة الداخلية مطلع العام أنها : «ستركز على أربعة محاور: المرور ، والبحث الجنائي، والدفاع المدني ، والأدلة الجنائية» .. مطالباً السلطة المحلية : «الاهتمام بمؤسسات خدمات الشرطة وتطويرها ودعمها ، خاصة قطاع المرور والدفاع المدني والانقاذ» .. ومذكراً أن :«الأجهزة الأمنية أسهمت في رفد المجالس المحلية بما يقارب مليار ريال خلال 2006م. والأهم من هذا إعلان العام 2007م عام الدفاع المدني والمرور .. أمنياً هو أن لا يظل حلماً عصياً ، أو كما يقال «مجرد شعار». وألا يثني تعاظم احتياجات بناء الدفاع المدني ، عزيمة القائمين على الحكومة والداخلية ، ويجري «إقرار مشروع تحويل إدارة الدفاع المدني إلى مصلحة مستقلة للدفاع المدني تضم إدارات متخصصة ، ولها ميزانيتها وامكاناتها الخاصة واعتمادها المالي المستقل اعتباراً من هذا العام»، كما كان قد صرح د.العليمي في سابق الأيام.