في عام 1825م اعتلى عرش روسيا القيصر (نيقولا الأول) وبعد فترة وجيزة قامت انتفاضة عسكرية ضده، قادها مجموعة من الأحرار، مطالبين بتحديث البلد، وأن المصانع وبنية الحكومة يجب أن تغير، فيحدث فيها ما يماثلها من تحسينات تشبه تلك التي تمت في أوروبا الغربية. سحق القيصر الانتفاضة بدون رحمة، وحكم على خمسة من قادة التمرد بالإعدام. وكان من بينهم رجل اسمه (كوندراتيج ريلييف) ثقيل البنية لم يحمله حبل المشنقة بل انقطع فهوى الرجل إلى الأرض حياً كمن بُعث من القبر. قام الرجل من سقطته وصاح بأعلى صوته: أي بلد هذا الذي نعيش فيه؟ الذي لا يتقن فيه صناعة أي شيء حتى حبال المشانق؟ وكانت التقاليد في تلك الأيام تقضي أن من يُشنق؛ فينجو بانقطاع الحبل، يعتبر نوعاً من رحمة الله الخفية عليه، فينجو من الموت، ولا يعاد شنقه، بل يصدر في حقه قرار العفو. وعندما وصل إلى القيصر هذا الخبر العجيب النادر، كان في طريقه لإمضاء خطاب العفو عنه، إلا أن طرافة الخبر دفعته لطرح سؤال، فقال: ماذا فعل صاحبنا عندما نجا من الموت؟ فنُقل له ما قاله ريلييف! قال القيصر للرسول: اجدلوا له حبلاً لا ينقطع قط ؟! وفي اليوم التالي اقتيد (ريلييف) مرة ثانية إلى حبل المشنقة، الذي لم يخيّب ظن الجلادين هذه المرة فتدلى جثة هامدة بدون حراك. والعبرة من القصة أن جملة واحدة من فم رجل لم يضبط نفسه كلفته حياته. وفي الحديث« إن أحدكم ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في جهنم» فيقول الصحابي وهل نحن مؤاخذون بما نقول؟ فيكون الجواب: « وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» . وصاحبنا الروسي لو أمسك لسانه لنجا، ولكن الطلقة القاتلة خرجت من فمه فأوردته ريب المنون. إن هذه القصة تقول لنا إن الكلمات كطلقات المسدس، إذا خرجت لا تعود إلى حجرة النار. والمثل الصيني يقول: (الكلمة ملك لك قبل أن تنطقها فإذا خرجت ملكتك هي). ويقودنا (روبرت جرين) صاحب كتاب (القوة) إلى صياغة (فلسفة الكلام) على هذا الشكل: “ يجب أن يقول أحدنا قولاً دوماً أقل من اللازم” وأن: (على المرء ألا يكثر كلامه، من أجل التأثير في الناس، فكلما كثرت كلماته هبط مستواه، وضعفت الثقة فيه، والرجال المقلِّون في كلامهم يؤثرون أفضل، ويبدون أكثر سيطرة على الأوضاع). وفي المثل «خير الكلام ما قلّ ودلّ». وجاء في قصص الرومان عن القائد الروماني (جنيوس مارسيوس) الذي عاش عام 454 قبل الميلاد والمشهور باسم (كوريولان) أنه كان قائدا حربياً لامعاً، تكونت حوله هالة ضخمة من الأساطير، وكيف قهر أعداء روما. وفي يوم رشح نفسه سيناتور في مجلس روما الأعلى، وعندما ظهر أمام الناس وقد علت وجهه ندبات المعارك تأثر الناس من كلماته إلى درجة البكاء. ولكن مشكلته كانت في لسانه الذي لم يكن مثل سيفه، وعندما وقف أمام الناس يتحدث ثانية، أمسكوا عن الخوض فيه لتاريخه المجيد في حماية روما، فلما كثر كلامه كثر سقطه، وانكشفت عوراته الشخصية أكثر فثار عليه الناس، وفي النهاية أخطأ الخطأ الذي لا يغتفر، عندما أهان من حوله؛ فحُوكم ثم حكم عليه بالإعدام لولا تدخل بعض المتنفذين الذين حولوا الحكم الى النفي المؤبد من روما. فترك روما بعد جنات وعيون ونفوذ ومقام كريم ونعمة كان فيها من الفاكهين فما بكى عليه أحد من أهل روما إلا نفر من أهله لا يعتد بهم ولا أثر لهم ولا يذكرون. إن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً، وإن بعض الكلمات أشد أثراً من طعنات الخنجر. ومن كثر كلامه كثر سقطه. وخير الكلام ما قل ودل. والمرء مختبىء تحت لسانه. والكلمة ملك لك قبل أن تنطقها فإذا نطقتها أصبحت أنت ملكا لها، والله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل. وقولوا للناس حسنا. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.