نجاح موهبته كان سبباً لكبح جماح انطلاقته من كلمتين هجرتني بساعة.. عشر سنين بظرف يوم ضاعه” هذا هجر المعاتب فكم كان هجر الفنان لم يصادفه الحظ في بوابة ضيقة ليجد نفسه وجهاً لوجه هو والفن ليكون مجبراً بعد ذلك أن يسايره حسب طبيعته وأن يضع صورته الشمسية فخراً واعتزازاً بجانب صورة الفن وبلوحة موحدة حتى يعرفه الآخرون أنه القرين المرتبط بالفن.. وحتى لا يقال عنه أنه دخيل وغاز ليس له بالفن لا ناقة ولا جمل، ولم يتأبط عوده ويهرول مباشرة نحو التلفزيون لكي يضع لنفسه بروفة أولية يقيس بها مدى قدرته للعزف والصوت ويقيس تقبل الشارع الفني لصوته من عدمه كون الثقة لم تخلق بعد في فكره.. ولم يلج في مقابلة صحفية ليتطاول على من سبقوه بالفن كل هذه الأولويات لم تكن فيه ولكنه خلق في بيئة فنية محافظة على تراثها الشعبي تتسابق منذ الصباح الباكر هي والطيور المغردة عند الشروق على ضفاف الجبال الشاهقة.. ومع خرير المياه بين الآكام والقمم ومع النسيم الفواح من زهور الشجر وثمرها المتنوع حيث تعيش هذه الأسرة التي وهبها الله الكثير من الذكاء والفن الحرفي المتعدد.. نعم لقد كان الفنان “عبدالباسط القرشي” كثير الهواجس والتغني بين الشجر على قمم جبال القاهرة.. وفي خضبان الذي كان شلالاً من الماء مستمراً طوال السنة لم ينضب وعبد الباسط القرشي ما يزال صغيراً يركض بعد غنمه صعوداً وهبوطاً فوق الجبال والآكام مردداً ما يحلو له من الأغاني أما باللهجة الشعبية الخاصة بمنطقته وأما مردداً بعض أغاني الفنانين الكبار وبكل اقتدار وحافظيه.. ومع أن الفن قد تغلغل في عروقه لم يجد إمامه أي صعوبة بأن يصنع لنفسه عوداً من جالون الزيت وقلنا إنه يمتلك الكثير من فنون الحرف اليدوية وكان يحمله حيث ما حل وارتحل فوق الجبال يتغنى ويعزف نغمات قد لا ترتقي إلى ما يصبُ إليه إلا أن الجلن الوتري قدم لعبدالباسط القرشي خدمة مجانية كونه تعلم عليه أبجديات العزف وسرعة مداعبة الأوتار وحركة اليد مع إظهار شيء من النغمات حتى وصل به الحال لشراء عود حقيقي وكان يومها في بداية السبعينيات وعندما يكون المرء له ميول خاص لأي هواية فإن مصيره النجاح، وهذا ما وجدنا عليه الفنان عبدالباسط القرشي كعضو أساسياً فاعلاً ضمن الفرقة الفنية بوزارة الإعلام والثقافة بصنعاء يومها.. واستطاع أن يفرض نفسه بموهبته ليصير أحد العازفين على أكثر من آلة وترية وبشهادة الكثير من الفنانين عندما كان يرافقهم كواحد من العازفين مع الفرقة ليجد نفسه بعد ذلك قد شق له طريقاً مستقلاً مستفيداً من إمكانياته بالتلحين الغنائي لينفرد عن السرب ويظهر كفنان له خصوصيته بالغناء عندما تعرف ببعض الشعراء الكبار الذين كان لهم الفضل ببروزه من خلال قصائدهم الغنائية أمثال الشاعر عقيل الصريمي.. الذي يعتبر واحداً من ألمع الكوادر الإذاعية ويمثل حالياً نائب مدير إذاعة تعز حيث أعطاه الكثير من القصائد الغنائية أتذكر منها أغنية “زفة العرائس التراثية.. وأغنية يا سالبة عقلي حرام محجور عليك.. ردي لي عقلي وأطلقيه من بين يديك.. هذا بعد أن كان قد بداء انطلاقته مع الشاعر المرحوم القرشي عبدالحبيب الهيس عندما غنى له أغاني كثيرة مثل أغنية ضمان أنا ضمان محروم يا ربي.. وأغنية رسالة حب لمحبوبي، وأغنية أكتب جواب يا عم لابنك نساني.. وهي أغنية عاطفية حزينة جعل الشاعر المرحوم من كلماتها مناشدة من امرأة ريفية تناشد عمها أبو الزوج بأن يكتب رسالة لابنه الذي أطال غيابه وتقول بعض أبياتها “اكتب جواب يا عم لابنك نساني.. ثلاث سنين من يوم هجر مكاني.. أكتب جواب وأشرح له عن عذابي. من يوم سرح وأنا أسير ثيابي.. ليته يعود شودعه بنظره.. واشكي سبب هجره الذي براني..” وهناك أغان كثيرة من كلمات عبدالحبيب الهيس. كما كان أيضاً للشاعر عبدالله علي حزام دور بتموين الفنان عبدالباسط القرشي ببعض الأغاني مثل أغنية قمري منيف.. ومنيف هذا هو جبل شامخ كبير يطل على منطقة القريشة والزريقة والمقاطرة وهي تقول في بعض أبياتها”قمري منيف يا نجم كل الأرياف.. فيك الحلا وفيك حيات الأرواح.. فيك الأماني ياحبيب جراح.. يشفي العليل من نظرتك ويرتاح” ومن ثم يقول في مقطع آخر”ياذا الجميل رفقاً دلا بي واعطف.. أنت بحالي في الغرام تعرف.. يوم الهواء غنى وأنت تعزف.. محلى نغم وخاطري يؤلف”. وأغنية بربك أيش حصل مني بربك، تجازيني وأنا هالك بحبك، ولا ننسى الأغنية العتابية التي تشابه إلى حدٍ قريب بالمعاناة أغنية الفنان الكبير عبدالباسط العبسي والذي كتب كلماتها الدكتور الشاعر/سلطان الصريمي بعنوان”واعمتي من منوشقول لمسعود” وأغنية القرشي الذي صاغ كلماتها الشاعر علي محمد الشيباني تقول بعض أبياتها “حرام عليك يابا حرام عذبتني.. زوجتني بالله عليك أو بعتني.. للما مع شيبه هرم دهرتني”. وفي مقطع آخر تقول “قد كنت أحلم بالسعادة والهناء.. وكل شباب الحي يحلم بي أنا.. واليوم شبابي ضاع وقلبي اعتمى.. لا عاد سلمت الهم ولا نلت المنى” وبهذه الأغاني وغيرها استطاع الفنان عبدالباسط القرشي أن يضع لنفسه مكاناً بين الفنانين الكبار. ليستحسن بنفس الوقت الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان الحان وأداء الفنان القرشي ليمده بأغنية عاطفية كانت غاية بالروعة والجمال وأتذكر أن مؤلف كتاب الفضول وهو الأديب محيي الدين علي سعيد ذات مرة في صحيفة الجمهورية يبحث عن تلك القصيدة ويقول أين أنت ياقرشي أو من يعرف عنك شيويقصد ذلك الفنان عبدالباسط القرشي الذي غنى للفضول تلك الأغنية التي تقول بعض أبياتها “كتبت لك والحبر من دموعي.. وقلت لك لابد من رجوعي..وأقسمت لك أنك أمل حياتي.. مادمت حبي بل وذكرياتي” ليقول أيضاً ببعض من أبيات الشطر الثاني”قد كنت داري بك وكنت أعلم.. أنك بظلم المنصفين مغرم.. ظنيتني شبكي واحمل هم.. وتذرفك عيني دموع مأتم” كما نختار أيضاً جزءاً من الشطر الثالث الذي يقول فيه الفضول”ماكنش ذنبك أنت كان ذنبي.. أني وهبتك كل صدق حبي.. وأركنت نفسي أنني أخبي.. صدقك عندي فكنت كذبي” ونظراً كون هذه القصيدة الغنائية طويلة ربما تصل إلى عشرين بيت تقريباً إلا أن الفنان عبدالباسط القرشي تفنن بلحنها العاطفي وأعطى كل مقطع منها لحناً مغايراً عن سابقه وكأن أحاسيسه الفنية قد تمازجت بعذوبة الكلمة الفضولية ليشكلا معاً أغنية عاطفية استطاع من خلالها عبدالباسط القرشي أن لا يترك الفن ولم ينسحب من الساحة الفنية إلا بعد أن يصنع بصمة ثنائية تربط أحاسيس وعاطفة منطقة ذبحان مسقط رأس شاعر الأغنية الأديب الراحل عبدالله عبدالوهاب نعمان، بتغريد الحمائم وهديل العيل التي تعيش على ضفاف وجبال القريشة موطن الفنان عبدالباسط قرشي.. نعم، لقد برز صوت هذا الفنان الذي بدأ يصدح بأغانيه العاطفية في بداية سبعينيات القرن الماضي وكانت له البعض من تلك الأغاني موثقة في إذاعة صنعاءوتعز وعندما عمل أيضاًَ ضمن فرقة الإعلام والثقافة التي كانت وزارة واحدة وكان واحداً من أعضاء الفرقة.. ومن ثم كانت له بعد تقريباً ثلاث أغان موثقة ومسجلة في تلفزيون صنعاء “قناة اليمن حالياً” وكانت إلى وقت قريب تعرض هذه الأغاني ومنها أغنية مصاحبة للرقصة الزبيرية، وبعد أن عاش الفنان عبدالباسط فترة طويلة بالعاصمة صنعاء ظل مرتبطاً بالفن وإنتاجه الفني كان في تزايد مستمر، لكن قد يأتي النجاح أحياناً وبالاً على صاحبه إذا اصطدم بمن في يده صلاحية الخرش والربط الذي قد يضع أمام صاحب الاسم الناجح خط أحمر كونه سحب البساط من تحت قدميه، ولهذا السبب بداء الحنين يراوده بعد ذلك نحو ريف القرية حيث يغرد اللحن وترقص الكلمة مع الطبيعة، وفعلاً تأبط عوده وعاد إلى بين الجبال حيث تعيش الطيور وتغرد البلابل ليستقي من تغريدها عذوبة الألحان الغنائية، ومن حفيف الشجر يستوحي نغمات الوتر. إلا أن شظف العيش وتواضع الحركة العمرانية بالقرية جعلته بالأخير أكثر شروداً بالبحث عن لقمة العيش بعد أن ذهبت عنه درجته الوظيفية مما جعله يفقد شهية الانجرار خلف الفن ويميل نحو المطاردة المستمرة والتنقل اليومي داخل منطقته المتناثرة الأطراف هنا وهناك ترافقه مهنته المعمارية كونه فناناً آخر في مجال البناء لكن حمية ودغدغة الأحاسيس الفنية لم تترك له حرية الابتعاد عن الدندنة ولم ترض أنامله بالتوقف عن مداعبة الأوتار وأن كان لسانه الأكثر ارتباطاً بالدندنة حتى وهو يقف على جسور وأعمدة البنيان التي تشيدها يداه الخشنتان كون اليدين تعملان واللسان يردد ما يحلو للعقل من نفض غبار الهواجس ليبقى يعمل ويتفنن بالبناء ويدندن بالفن.. عبدالباسط بجاش محمد القرشي الفنان الذي بدأ عمره الفني متزامناً مع بداية العمر الفني للفنان الكبير عبدالباسط عبسي مما جعل تلفزيون وإذاعة صنعاء يومها من أكثر من أغنية وأكثر من أغنية وأكثر من حدث ينسبون أغنية العبسي للقرشي والعكس أيضاً نظراً لظهورهما في زمن متقارب وباسم واحد.. إلا أن عبدالباسط العبسي مايزال عطاه غزيراً وصداه الفني في تجدد، بينما القرشي ربما هو من كان أخيراً عاملاً مساعداً للجهات الإعلامية لتهميش ونسيان هذا الاسم وحجب صوته وصورته من الظهور عبر هذه الوسائل بعد أن عزل نفسه عن الآخرين متقوقعاً داخل قريته الصغيرة المتواضعة بعد أن كان عطائه غزيراً في السبعينيات والثمانينيات فإذا كان العمر والوضع الاجتماعي لم يعد يسمح لهذا الفنان بالعودة فلماذا حجب الإعلام المرئي والمسموع اسم هذا الفنان خاصة وأن له إنتاج فني موثق بكل الوسائل الإعلامية.