جاء في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو بن العاص في غزوة باتجاه البحر, وقال له: أنت أمير القوم, وبعد حين أرسل خلفهم بعثاً أمرّ عليهم أبا عبيدة بن الجراح, وقال: أنت أمير القوم. وعند وصول ابن الجراح رضي الله عنه حدثت مشكلة.. فأبو عبيدة لم يكن من النوع الحريص على الزعامة لولا أنه كُلف بها, ولكن عمرو بن العاص تشدد في موقفه وقال: أنا أمير القوم وإنما أنت ردف لي, فشرح له ابن الجراح المسألة أن الأمر اللاحق يلغي الأول وهكذا يحدث نسخ الأشياء؛ فالأخير يمسح ما قبله وهو أمر معروف في التشريعات, ولكن ابن العاص أصر على موقفه. وفي مثل هذه المواقف ربما يحدث نزاع مسلح كما نسمع بين الكثيرين في الصراع على القمة والزعامة. ولكن أبا عبيدة رضي الله عنه كان قد تربى في مدرسة النبوة ومن الصحابة المبشرين فاتخذ موقفاً سجله له التاريخ لفك النزاع, فقال له: حرصاً مني على وحدة الصف وأن لا نتنازع فسوف أطيعك ولو عصيتني, مع قناعته أنه يخالف التعاليم التي كُلف بها, ولكنه كان في موقف جديد يجب أن يفكر فيه وهو يتعدى شخصه. فإن أصر قاد هذا إلى النزاع وربما نزاع مسلح وأكثر من هذا تفكك الصف وفشل المهمة, فكان بين أمرين اختار فيهما أن ينسى نفسه وموضوع القيادة وفي قرارة نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يتفهم موقفه ويغفر له هذه المخالفة في ضوء مصلحة أكبر. وشخصية الصحابي هذا الذي مات في وقت مبكر في طاعون عمواس عام 17 هجرية جعلت المجتمع الإسلامي الوليد يخسر بموته خسارة فادحة يدلل عليها أن عمر رضي الله عنه كان يفكر أن يكون مرشحاً للخلافة من بعده كما جاء في رواية. ومعنى هذا الكلام نموذج الشخصيات التي تربت في عهد النبوة وكيف أنها صُقلت فأخرجت أفضل ما عندها. والواقع أن كل إنسان منجم من الإمكانيات, ولكن المهم أن يأتي من يصقل هذه الإمكانيات وهو الذي حصل بأناس كانوا من المجتمع المكي فجعل منهم الإسلام قادة مميزين وعلماء وعباقرة كتبوا اسمهم في التاريخ, وهم اليوم مفخرة لنا في تاريخ حديث نئن تحت وطأته, ولكنه يمثل خزاناً للطاقة عند الأزمات, وهذا هو السبب في تعلق الأمة بتاريخها. فهم كما قال أديب الأندلس ابن الخطيب: كانوا عُظاماً وكنا عِظاما الأوائل كانوا عظاماً من العظمة ونحن عظام بدون لحم, وهي دورة التاريخ وعلينا أن لانحزن ولانبتئس, بل نفعل كما فعلوا رضوان الله عليهم أجمعين.