في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يضع عقله على الرف، ويتوقف الزمن عنده على ضرب صنج الصوفية، ويشخر في أحلام وردية على قصص ألف ليلة وليلة، كانت بذور منهج الغزالي في التأسيس المعرفي من خلال مبدأ الشك يثمر ثمراته في جنوبألمانيا بطريقة مختلفة. يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عن نفسه: أن الثلج والبرد اضطره إلى قضاء الشتاء في جنوبألمانيا قريباً من مدينة أولم. يقول ديكارت: أنه التجأ إلى هذه المكان وهو فارغ البال من الهم والحزن والهوى. كان الشيء الذي يحتل كل ملكاته العقلية هو إمكانية الوصول إلى الثقة واليقين في العلوم، فديكارت كان قد ودع الفكر القديم وفقد ثقته به فكتب في المقال على المنهج يقول:العقل هو أحسن الأشياء توزعاً بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، وليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه . ويشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم التي تسمى العقل تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، لأنه لا يكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل. استولى الشك على كيان ديكارت كاملاً فبدأ يتنفس الشك ويعيش فيه، ويقول : أن تلك الليلة شعر وكأن دماغه من شدة التفكير يوشك على الانفجار، ثم انقدح أمامه فجأة المنهج الجديد الذي عرف بالمنهج التحليلي الديكارتي. قال ديكارت : إنني عندما أشك أفكر؛ حتى لو شككت في كل شيء بما فيه وجودي بالذات، حتى لو زالت الدنيا كلها، فإن شيئاً لا يزول ولا يتزحزح وهو أنني أشك؛ أي إنني أفكر وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة أنني موجود على صورة من الصور ولكنني موجود. فهذه هي الحقيقة الراسخة الوحيدة التي يمكن أن استند إليها في كل عمليات التفكير.هذه الحقيقة الراسخة مهدت الطريق لعصر التنوير في أوربا واعتبرت الفلسفة الديكارتية أحد المفاصل الجوهرية التي قامت عليها الفلسفة الأوربية الحديثة باعتبار أن ديكارت وعشرات من أمثاله كانوا البناة النظريين للعصر الحديث بكل إنجازاته، فمع حركة العقل تم تدشين حرية التفكير،ومع حرية التفكير انطلقت الأبحاث العلمية بدون حدود،ومنه نبعت التكنولوجيا الحديثة والنظم السياسية.