ستحل الذكرى العاشرة لزواجي، ديسمبر القادم، وستكون أجمل هدية يمكنني تقديمها لزوجتي نسخة مطبوعة من روايتي “حشرات الذاكرة”، وبالطبع لا يعني ذلك، أنها متشوقة لإصدارها، وتنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، فللأمر علاقة برغبة أن ترى هذا الشيء الذي طالما وفرت لها ضجيجاً من أجله. فبعد عشر سنوات من الزواج، كانت أحداث حياتنا في كفة، وكتابتي رواية في كفة أخرى. وعندما كنا نلتقي كعاشقين، أخبرتها عن عزمي كتابة رواية، وكانت ولدت فكرة عنها. صورة فانتازية لامرأة بدلاً أن تموت تتحول خيوط عنكبوتية تلتقط حشرات ذاكرتها. وعندما أكملت روايتي لم تكن تلك مركز الرواية، بل صورة. لطالما عشت في كثير من لحظاتي وأنا أفكر كيف سأقتحم هذا المجال الذي مازلت شغوفاً به. وأتذكر أنني في فترة من حياتي، اثناء مراهقتي كنت أعاني فتوراً في الاهتمام بأمر مهم. ولديّ اهتمامات ساذجة، مازلت حتى اليوم احتفظ ببعض منها، بدأ ابي يعطيني روايات حتى يوقعني في حب القراءة، لكن مغزاه كان أن انتقل منها للاهتمام بالسياسة، غير اني وقعت في شغف الرواية ولم اخرج منه. وفي الحقيقة، انا أدين للرواية، في كثير من الأمراض المجتمعية التي اشعر الى حد كبير، أني تجاوزتها. واتذكر مقالة لكاتب تركي، يتحدث عن الاتراك ذوي الشوارب الكبيرة، انهم كانوا بحاجة لقراءة عمل عظيم مثل البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست، لانه كان سيحدث فيهم تغييراً عميقاً. المهم منذ تزوجت وخلال سنوات حياتنا الأولى كانت تتحمس لحديثي عن الرواية، ثم بدأت تصاب بالاحباط من لعنة الرواية التي لا يبدو اني سأشفى منها، وهنا لا أقصد روايتي الأولى، التي انتهيت منها منذ أكثر من عامين، ومنذ اشهر قليلة انتظر موافقة إحدى دور النشر. فلعنة كتلك على الصعيد العائلي ومسئولياته اليومية، لا يبدو الانشغال بالكتابة وبعائد مجحف شيئاً سترحب به الزوجات، خصوصاً حين يكون هناك اولاد يحتاجون لكل شيء. وسأعترف اني، طالما حدثتها عن مرسيديس زوجة الكولمبي صاحب نوبل جابرييل جارسيا ماركيز، وقد فرغ نفسه لكتابة رواية، وضع لميزانية البيت ما يكفي ستة اشهر، لكن زمن كتابته تضاعف ثلاث مرات، وحين انتهى، كانت تدبرت الأمر، فالمؤجر تخبره أن الكاتب ينجز عملاً والجزار وآخرين. وبالطبع المؤجر هنا، سيغلق البيت ويرمي بكل شيء، فالرواية ليست فقه السنة، على الأقل هذا ما كان يخبرني به أحدهم وانا احمل رواية ما. المهم أن عشر سنوات مرت، ولم تخرج روايتي الأولى الى النور، وهذا شيء لا يثير ضجري، فأنا منذ فترة طويلة أصدقاء وآخرون يسألونني أين روايتك؟ وهو سؤال يكرره البعض حين يراني، من فترة إلى أخرى، وتكون اجابتي (لقد اكملتها) لكن ليس بنفس النشوة قبل أعوام، حين شعرت أني انجزتها. وعندما كنت اعيش فورة كتابة غير منقطعة عام 2006 كان صديقي مطيع دماج في إب وكنت احدثه ساعات عن روايتي عبر التلفون. واتذكر انني كنت اقطع احياناً كيلومترات لاذهب لصديقي خالد طربوش واقرأ له مقاطع كنت كتبتها، كمسودات، ثم اعود واقرأها لزوجتي. ياله من جنون. وحين اعتمدت عليه بطباعة احد الدفاتر اصابني بحالة احباط، لانه نسيه لدى سائق تاكسي، ومن حسن حظي ان سائق التاكسي اتصل بصديقي وأعاد له الدفتر، ويضحك ضحكته المزلزلة لأنه يطالب دائماً بأن تكون روايتي إحدى أيام جمع الساحات. وسبق لي أن اضعت دفتراً كتبت فيه عدة فصول. ثم اعدت كتابتها مجدداً. وصارت هذه الحادثة مرجعاً تهكمياً لصديقي صقر الصنيدي، يخبرهم ان روايتي جاهزة لكني أضعت الفصل التاسع والعاشر. يقول طربوش ان هناك رواية وراء كتابتي الرواية، ستكون اكثر امتاعاً، وبالطبع هناك صديق آخر نصر نور الدين، اعتقد انه لن يقرأها اطلاقاً، حتى في حال صدورها. فبينما كان يحدثني عن التقائه بفتاة كان يعشقها بجنون، ويهتز لرؤيتها، ثم بعد فترة يراها مصادفة، ولا يتذكر انه رآها إلا بعد أيام. تسرب لي احساس عميق بتجربته، وانبعث جزئياً الدرب الأول لروايتي. ثم إني التقي بأشخاص يخبرونني انهم سيصدرون رواياتهم قبلي، وأحدهم حاول السخرية مني، بأني سأصدرها في العام 2020، وبجدية سأخبر البعض، إن كثيراً من الكتب المهمة لا تذهب إلى النشر بسهولة، فالكاتب البولندي غومبروفتش لم تر روايته النور إلا بعد خمسة عشر عاماً من كتابتها، ومارسيل بروست ايضاً طبع اول اجزاء البحث عن الزمن المفقود على نفقته ثم ان الاربعة الأجزاء الاخيرة لروايته نشرت بعد موته، كما ان الناشر الايرلندي رفض رواية جيمس جويس “اهالي دبلن”. وكنت اتساءل دائماً كما سيتساءل اي كاتب رواية يشعر بأنه يقوم بمغامرة ليست عادية، هل ما أكتبه يستحق هذا العناء، بمعنى أن كتابة رواية لا تفترض منا، اي شيء نكتبه. وبالطبع سأعترف أن صاحبة العناء الأكبر من روايتي زوجتي. بعد عامين من الزواج، كان ما كتبته فصولاً صغيرة، قدرت أنني على هذه الوتيرة، سأحتاج ثلاثين عاماً إضافية لأنهي عملاً روائياً متوسطاً الحجم. وشعرت بإحباط مريع، ومع انها شجعتني حينها، إلا انها اليوم تقول بنفاد صبر “أريد أن أرى روايتك” لكن لتسدل الستارة على فصل طويل من حياتنا، كتابة رواية. وحين أخبرها بأنني سأكتب عملاً آخر، تمتعض مني. قبل فترة نصحني صديقي مطيع ان اتورط في عمل آخر. وبالطبع تلك احدى اجمل الورطات التي نعيشها؛ كتابة رواية، اختلاق واقع لا وجود له. لكن زوجتي ستكون المتضررة الأكبر اذا تورطت، مع ذلك لن اخفي انني اورط نفسي في عدد من الأعمال وما أحتاجه هو الجدية. أما صديقي خالد فمن وقت وآخر، وبحضرة اصدقائنا المشتركين، وربما آخرين، يطالب ان تكون الجمعة القادمة: جمعة المطالبة بطباعة رواية جمال. لكن بما انني لا يبدو اني سأهدي زوجتي نسخة روايتي، هدية في الذكرى العاشرة لزواجنا، ماذا لو اجلتها للذكرى الحادية عشرة وربما العشرون، وما كتبته ليس إلياذة جديدة، أو كوميديا إلهية.