مأساة الحديث النبوي لزاماً علينا اليوم وبعد مرور قرون من الزمن على موته أن نرسل أعذب الشكر وأخلص الدعاء إلى الإمام البخاري الذي بذل جهداً عظيماً وقضى شطراً كبيراً من عمره في انتقاء الأحاديث الصحيحة وسط ركام هائل من الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، ولكن علينا في المقابل أن نعزي أنفسنا كثيراً بما فعله عامة أهل الحديث بعده من نكوص عن نهجه ، والابتعاد عن طريقه ، والتساهل في قبول أحاديث أعرض عنها الإمام البخاري حفظاً لمكانة النبوة أن تُنسب إليها أقوال يتبرأ منها أرباب العقول. • لقد بين الإمام البخاري أنه استخلص أحاديث كتابه البالغ عددها ما يقارب (2602) حديث من زهاء ستمائة ألف حديث اختلقتها الصراعات السياسية والمذهبية ، كما أشار إلى أنه جعله جامعاً للصحيح حيث سماه (الجامع الصحيح ..) ، ووضع لنفسه منهجا لا بأس به في تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها ، وكان أهمها اشتراطه لقبول الرواية ثبوت اللقاء بين الراوي ومن روى عنه وسماعه منه ، وهو شرط يفرضه العقل ويقتضيه الواقع ، إذ لا يمكن الإدعاء بصحة رواية ونسبتها إلى الصادق المصدوق ( عليه الصلاة والسلام) دون أن نجزم يقيناً بأن كل راو رواه عمن فوقه عن لقاء وسماع كان بينهما . نصره الدارقطني ،، وخذله عامة المحدثين . كم كان الإمام الدار قطني وفياً للبخاري حين ألف كتابه (الإلزامات والتتبع)وانتقد فيه أحاديث وردت في الصحاح وعلى رأسها ( الجامع الصحيح ) للبخاري ، لقد أدرك أن مشروع البخاري في انتقاء الأحاديث الصحيحة وفق معايير صارمة قطع الطريق على الأفاقين الذين يبحثون عن مشروعية لأفعالهم الخسيسة وأقوالهم الفاسدة بالافتراء على رسول الله (ص) ، كما أن مشروعه حكم بالإعدام على آلالاف الأحاديث التي مرت في غفلة وسذاجة من المخلصين فشوهت صفاء الدين ، وقلبت موازينه ، وحولته من رحمة للعالمين إلى معترك للصراع ، ورأى الدار قطني أن الانتصار للبخاري يكون باقتفاء أثره ، والبناء على قواعده ، واستيفاء منهجه في اختيار الصحيح ، واستدراك الخلل الذي وقع فيه عند تطبيقه لقواعده. -لكن أهل الحديث لم يُرضهم ما فعله الدار قطني فتواطأوا عليه ، وتكلفوا الرد على كثيرٍ من مآخذه على الجامع الصحيح ، بل لم تكن حجتهم في كثير من الأحيان إلا المفاضلة بين أقدار الرجلين دون النظر إلى قوة الدليل ، فرأي البخاري عندهم أولى بالصواب وإن كانت حجته أضعف لأنه المقدم في علم الحديث ، وكأن مكانة الرجل وسبقه في علم من العلوم تجعل رأيه برهاناً وإن خالف البرهان ، وتُصير رأيه دليلاً وإن عارض الدليل ، وهكذا يأتي الخذلان من فئة قدست الرجال وجعلتهم عنوان الحق . - كان الأولى بأهل الحديث أن يتوافروا على (الجامع الصحيح) ليحولوه من جهد فردي قاصر إلى جهد جماعي أقرب إلى الكمال يستبعدون فيه الأخطاء التي لحقت البخاري في كتابه ، غير أن أهل الحديث هالهم ما تركه البخاري من أحاديث بلغت مئات الآلاف واقتصاره على بضع مئات ، فانشغلوا بما أعرض عنه أكثر من انشغالهم بما دونه واستبقاه ، ولما رأوا أن شروط البخاري لن تساعدهم على إدخال هذه الأحاديث إلى مدونة الصحيح لجاءوا إلى التساهل في معايير التصحيح ، ولم يكتفوا بذلك بل اخترعوا درجات للحديث جعلوا فيها ما هو أدنى من الصحيح في رتبة الصحيح إثباتاً ونفياً للأحكام . عُشاق الرواية يحرفون مسار التصحيح . • كانت البداية عندما رضي الإمام مسلم - تلميذ البخاري - أن يورد في كتابه أحاديث اكتفى فيها بالمعاصرة بين الراوي والمروي عنه ولو كان أحدهما يقطن أقصى الشرق والآخر يقطن أقصى الغرب ولم يثبت بينهما لقاء ولا سماع ، فجعل الاحتمال البعيد مستنده في نسبة القول إلى الوحي وإضفاء القداسة على المنقول ، وإلزام عامة الناس به ديناً إلى قيام الساعة، وبهذا استطاع مسلم أن يُضيف إلى مدونة الصحيح أحاديث تأباها شروط البخاري المنطقية الصارمة . ولم يتوقف الأمر على التساهل في شروط التصحيح ، بل تعداها إلى الاحتجاج بما دون الصحيح بحجة أنها أحاديث ليست ضعيفة ، فبعد أن كانت الأحاديث في زمن البخاري وما قبله إما صحيحة وإما ضعيفة ، الأول منها حُجة والثاني منها لا وزن له ، جاء بعد البخاري من صنف الأحاديث إلى مقبول ومردود ، وقصد بذلك إدخال أحاديث ليست في رتبة الصحيح إلى الأحاديث المقبولة لتكون صالحة للإحتجاج بها ، وابتدع هذا الأمر الإمام الترمذي حين أخرج من مدونة الضعيف أحاديث لم تتوفر فيها شروط الصحة ووصفها بالأحاديث الحسنة ، لأن راويها في زعمه وإن كان يُخطئ في نقل الحديث - بسبب سوء حفظه أو أخطاءه في نسخ الحديث عن شيوخه - إلا أنه في زعمه لا يتعمد الكذب ، وهكذا دخلت إلى مدونة المقبول أحاديث جديدة لا ترتضيها شروط مسلم فضلاً عن شروط البخاري . وليت الكارثة على ضخامتها توقفت عند الحديث الحسن ، لكن المفاجأة كانت في ابتداع المحدثين لمصطلحات جديدة فاقت في مخاطرها ما صنعه الإمامان مسلم والترمذي ، فقد جاء من يرفع أحاديث من درجة الحسن إلى درجة الصحيح تحت مسمى (الصحيح لغيره) ، كما جاء من يرفع الأحاديث الضعيفة لتكون مقبولة وصالحة للاحتجاج تحت مسمى (الحسن لغيره) ، ثم كانت الطامة الكبرى عندما جاء فريق أعماهم عِشق الرواية فصححوا الأحاديث الضعيفة بمجموع الطرق ، وهكذا دخلت على أيدي المتأخرين آلاف الأحاديث التي أُغلق دونها باب (الجامع الصحيح) للبخاري ، وبتساهل أهل الحديث فُتح باب القبول واسعاً ليدخل في ميدان الصحيح كل من أسعفه الحظ من الأقوال ليكون وحياً خالداً ولو كان خالياً من شروط الكفاءة ، وتحولت وظيفة المحدثين من انتقاء الأحاديث الصحيحة إلى ترقيع الأحاديث الضعيفة مهما بلغت الخروق التي أصابتها . أهل الحديث يُكرمون الأحاديث الضعيفة. على الرغم من تضخم مدونة الصحيح بعد البخاري نتيجة تساهل المحدثين إلا أن أعداد الأحاديث الضعيفة بقي وفيراً، مما دفع المحدثين وعلى غير المتوقع وبعيدا عن عن المنهج العلمي المعتبر يبحثون عن سُبل للاستفادة من هذه الأحايث ، فبعد أن كان الصحيح وحده محلاً للاعتبار والقبول ، جاء من المتأخرين من يُرغبنا في الاستدلال بالأحاديث الضعيفة بحجة أنها ليست موضوعة ، وأن الضعيف في زعمهم وإن افتقد شروط الصحة إلا أنه قد يكون في أصله صحيحاً. • وحتى يُخففوا من معارضتنا لقولهم تجدهم يسارعون بالقول أن ذلك مخصوص بفضائل الأعمال دون غيرها ، وإن اعترضنا عليهم بأن فضيلة العمل تعنى الاستحباب ، والاستحباب حُكم شرعي لا يثبت بغير دليل صحيح ، ستجد المتحدث باسمهم يدعي بأنهم إنما قصدوا ما ثبت أصل استحبابه دون مقدار فضله بدليل صحيح ، فإن اعترضنا عليه بأن ذلك يقلب ميزان الأعمال في الإسلام فيُقدم المفضول على الفاضل وهذا مما يُزري بمكانة النبوة ، ستجده يُحذرنا من الاعتقاد بأن الرسول (ص) قد قاله ، وبأن علينا أن نحكيه بصيغة المجهول فنقول (روي عن رسول الله) ولا نقول (قال رسول الله) ، وكما قيل (الحب يُعمي ويُصم). ومهما كنا موضوعيين فلن يجد اعترضنا لدى أهل الحديث قبولاً مهما كان مُعتبراً ، فإن حرصهم على اعتبار كل رواية مهما كانت متهافتة سيحملهم على اختلاق المعاذيير ، وتخفيف المعايير ، ليجعلوا الضعيف حسناً ، والحسن صحيحاً ، والمردود مقبولاً ، وما لم يكن حسناً بذاته فليكن حسناً بغيره ، وما لم يكن صحيحاً بذاته فليكن صحيحاً بغيره ، وما لا مجال لقبوله ففضائل الأعمال والشواهد والاعتبارات مجال رحب ليعمل فيها ، ولا ندري أي علة سيخترعها المحدثون مستقبلاً للأحاديث الموضوعة لتنال فسحة في ميدان القبول ، وبهذا وعلى نطع التساهل ذبح أهل الحديث منهج البخاري في انتقاء الصحيح ، وحولوا البداية المشرقة إلى مسيرة مظلمة ،، ولا حول ولا قوة إلا بالله.