لقد مر التاريخ بنا وتشكلت هويتنا اليمنية الجامعة, وصرنا يمنيين، تلك الهوية التي تميزنا عن جيراننا في الجزيرة العربية أو غيرهم في أماكن كثيرة.. فصار اليمني كذلك منذ البدايات الأولى أيام يعرب يمن المؤسس الأول قبل أكثر من سبعة آلاف عام! قد تستغربون من الرقم طبعًا، لكن اليمنيين تميزوا بوجودهم منذ قحطان الذي تناسلوا منه، وعُرفوا بهذا الصيغة “القحطانيين” في إشارة إلى تميزهم عن عرب الشمال “العدنايين, ولو سألنا متى عاش قحطان؟ لأجابك القاضي عبدالله الشماحي بقوله «كان قحطان من رجال الألف السابع أو الثامن قبل الميلاد».(1) ناهيك عن قول ابن خلدون في تاريخه عن العرب العاربة «هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح وأعظمهم قدرة وأشدهم قوة وآثارًا في الأرض وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه».(2) لكن كتب التاريخ التي كتبت عن تلك الحقبة كانت تهمل مثل هذه الأحداث وتضعها في خانة الأساطير، وقد ذكر د.جواد علي في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» ضمن مبحث بعنوان (القحطانية والعدنانية في الإسلام) “فقد لّون اليمانيون تأريخهم القديم بألوان زاهية جميلة من القصص والحكايات والأخبار، فهم الذين زعموا أن قحطان هو ابن هود النبي، فأوصلوا نسبهم بالأنبياء، وهم الذين أوصلوا نسب قحطان إلى إسماعيل، فنفوا بذلك أي فضل كان للعدنانيين على القحطانيين في الآباء والأجداد، وهم المسئولون عن هذا التقسيم المشهور المعروف للعرب وجعل القحطانيين في الطبقة الأولى من العربية بالنسبة إلى العدنانيين، وهم الذين نظموا في الإسلام تلك الأشعار والقصائد التي ذكرها الرواة على أنها من نظم التبابعة وملوك القحطانيين، وهم الذين ساقوا تلك الحكايات عن الفتوحات العظيمة لملوك اليمن وعن حكم القحطانيين للعدنانيين واستذلالهم إياهم.. وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وقد أجابهم اليمانيون على ذلك بأنهم هم الذين كان لهم شرف نصرة الرسول وإعلاء كلمة الله، وهم الذين كونوا مادة الجيش الإسلامي، وهم الذين آووا الرسول وفتحوا مكة، وتمسك العدنانيون بأذيال إبراهيم وعدوه جدهم الخاص بهم، مع أنه جد العرب عامة كما في القرآن الكريم، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب الشريف، وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم”.(3) ويفيض د. جواد في هذه الأخبار التي يراها من “القصص والحكايات التي وضعها الرواة في صدر الإسلام حين احتدم الخلاف بين الأنصار وقريش, سجلت في الكتب، ورُويت للناس، وانتشرت بينهم على أنها أمور واقعية، وأن العرب كانوا من أصلين: قحطان وعدنان. وقد كان لكل فريق رواة وأهل أخبار يقصون على الناس قصصًا وأخبارًا في أخبار النزاع القحطاني العدناني”.(4) لتكن أساطيراً أو حقائق، المهم أنها صارت في الوجدان الجمعي العربي، وقد تقاتلوا من أجلها أيام بني أمية فيما عرف بالقيسية اليمانية. لذا قد نسأل هل انتقل هذا الصراع القحطاني العدناني إلى اليمن؟ معالم الهوية اليمنية قبل الإجابة يجب أن نعرف أن اليمن جمعت الديانات السماوية الثلاث كلها على أرضها من يهودية ونصرانية - مسيحية والإسلام، وهذا الأخير كان له مذهب متميز في اليمن على أغلب مواطن الإسلام الأخرى؛ إنه المذهب الزيدي الذي دخل اليمن مع الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي في عام 893م وتعايش مع المذهب السني فيها، بل إن المذهب الزيدي حمل الصبغة اليمنية في التوسط بين غلو الشيعة وغلو السنة معًا، وصار اعتدالاً ونموذجًا يحتذى به.. ولا ننسى المذهب الإسماعيلي الذي دخل اليمن على يد ابن حوشب واستقر هذا المذهب في أماكن معينة من اليمن ، رغم أنه كان مذهب الحاكم الفعلي لليمن في زمن الدولة الصليحية! ولا غرابة، فأهم معالم الهوية اليمنية ذوبان الأفكار القادمة والأعراق في نهر الهوية العظمى، ومن ذلك أعراق فارسية وتركية وحبشية وعدنانية انصهرت وصارت يمنية لا يفرقها شيء، لذا فجوابنا على السؤال المطروح سابقًا هو: إن المغالين وحدهم هم الذين ينادون بتلك الهويات الجزئية ، سواء أثنية أو دينية أو حتى مناطقية، وأحيانًا يتم الخلط هويتين جزئيتين معا أو أكثر،ولعل أسوأها هو توظيف الدين في السياسة لمصلحة طائفة دون غيرها، وقد يكون عذرهم في ذلك هو التهميش السياسي أو التعبير عن موقف سياسي، كما يعلل ذلك د. محمد عابد الجابري بقوله: “فالذي يحدث هو أن توظيف الدين في السياسة إنما يلجأ إليه العقل السياسي للجماعة عندما لا يكون من مصلحتها التعبير عن قضيتها/ الاقتصادية تعبيرًا سياسيًا صريحًا ومطابقًا؛ لأن ذلك يفضح الطابع المادي الاستغلالي لتلك القضية، أو عندما لا تستطيع تلك الجماعة ذلك، بسبب ضعف وعيها، نتيجة عدم بلوغها مستوى من التطور يجعلها قادرة على طرح قضيتها الاجتماعية/ الاقتصادية طرحًا مكشوفًا، وفي كلتا الحالتين يكتسي توظيف الدين في السياسة طابعًا طائفيًا أو مذهبيًا قوامه استعادة نزاع قديم وبعث الحياة في رموزه ومضامينه الإيديولوجية.”(5) لذا أقول للمحافظة على هويتنا اليمنية الجامعة من التفتت إلى هويات جزئية تلتف كل طائفة حولها لابد من المناداة بالهوية الوطنية، هوية الأرض غير المتبدلة ولا المنتقلة ولا المتلونة..إنها الهوية اليمنية الخالدة.. والله أعلم. الهوامش: 1 اليمن الإنسان والحضارة، عبدالله الشماحي، منشورات المدينة، بيروت- لبنان، ط3 ،1985م،ص: 35. 2 تاريخ ابن خلدون، ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، د.ت، ج2، ص:18. 3 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د جواد علي، دار الساقي، ط 4،2001م، ج 2، ص: 152-153. 4 نفسه ص:156. 5- الدين والدولة وتطبيق الشريعة، د. محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت - لبنان، ط1 ،1996م ، ص: 118-119.