رمضان كله بركة ونعمة.. فلياليه عبادة وابتهال وقيام.. ونهاره سعيٌّ وصيام.. وهو شهرٌ عظيم في كل دقائقه وساعاته، التي أعطاها الله لعباده كي يتاجروا فيها مع خالقهم وولي النعم ظاهرةً وباطنةً عليهم.. وحقهم سبحانه وتعالى على استثمار هذا الشهر في ممارسة شعائر العبادات، للارتقاء بأرواحهم، والتوحد مع شريحة الفقراء والمساكين ممن يلازمهم الجوع ويلتصق بهم الحرمان، والعمل على التخفيف من معاناتهم التي ابتلاهم الله الحكيم بها.. ففي ذلك مرضاة لله سبحانه، وبه يفوزون بنعيم الجنة ويتقون الهلاك في نار جهنم. ولأن هذا الشهر الفضيل مكرمةٌ من الله تعالى لعباده ليستوجبوا رحمته ويحصدوا مغفرته ويتنافسوا للعتق من النار، فإن الأيام العشرة الأوائل منه كانت أفضل مفتتح كي يتراحم العباد، وتتآلف أرواحهم فتتقارب وتنصهر في بوتقة التآخي.. وهو مايؤهلها لمرحلة العشر الأواسط من رمضان، التي قطعنا منها النصف.. ويتبقى النصف الثاني من رمضان.. مايعني أنه يتطلب على كل مسلم أن يجتهد ما استطاع في العبادة والصلاة النافلة وتلاوة القرآن، والدعاء، والعمل بإخلاص في وظيفته، ويحسن أيضاً في التعامل مع عباد الله، حتى يتسنى له الحصول على أفضل الأجواء التي تتيح له التخلص من أثقال ذنوبه.. ولكي يقف بين يدي الله تعالى، طالباً منه المغفرة من المعاصي والآثام وأن يمحو كتاب سيئاته ويبدل صفحاته السوداء حسنات بيضاء. المحطة الرمضانية أغلى منحة من رب العالمين لخلقه ليعودوا إليه، فقد حببهم إلى ذلك، وحفزهم للإياب إلى معيته سبحانه.. ومن يستعرض آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والقدسية سيجد ذلك جلياً.. حيث دعا الله تعالى عباده المذنبين والخاطئين والمسرفين على أنفسهم إلى التوبة والإقلاع عن المعاصي، فباب التوبة مفتوح لايغلقه من له الأسماء الحسنى والصفات العلى.. فهو القائل سبحانه وتعالى في سورة الزمر: «قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً.. إنه هو الغفور الرحيم» وهو سبحانه الحليم بعباده، قد قال في سورة النساء وتكرر ذلك في آيتين «إن الله لايغفر أن يُشرك به، ويغفر مادون ذلك لمن يشاء». لكن السؤال المهم هو.. كيف يصل العباد إلى الفوز وقبوله التوبة والصيام والقيام والأعمال العبادية الأخرى منهم؟ والإجابة عن ذلك تتلخص في أن على المسلم أن يؤدي أولاً ماعليه من الواجبات والفرائض، ثم يجتهد في الاستزادة من أعمال البر والإحسان وسائر الطاعات وصولاً إلى مرضاة الله تعالى.. ولقد ارتبطت أيام شهر رمضان الكريم بالإنفاق وآداء الزكوات الواجبة.. حيث تتنافس المؤسسات الخيرية المتعددة في تقديم الأموال للفقراء والمحتاجين، وكل مايخفف عنهم من وطأة الاحتياج طيلة هذا الشهر.. وذلك طلباً لرضوان الله ومغفرته من خلال الإنفاق والصدقات الزكوات وسائر الأعمال الخيرية. ولكن ارتكاز تلك المؤسسات الخيرية والميسورين على موائد الإفطار، والصدقات العينية قد طغى وتضاعف، وهذه وإن كانت أعمالاً محمودة وإنسانية، وتنضوي تحت البر والإحسان، غير أن الخطأ الفقهي الذي يقع فيه بعض الناس - بحسن قصد ورغبة في الأجر الكبير- يتمثل في اعتبارهم أن مايقدمونه من موائد إفطارٍ أو يسهمون في تزويدها ببعض المأكولات والمشروبات هو زكاة أموالهم وتجارتهم أو مايمتلكون من عقارات وزروع وأنعام وذهب وأجناسه من الحلي والمجوهرات....إلخ .. مع أن الزكاة بحسب آراء العلماء تحصَّل إلى ولي الأمر وبيت مال المسلمين. وأما القول: إن الزكاة إذا دفعت للجهات الحكومية فإنها لن تصل إلى المخصوصين بالإنفاق بحسب التشريع، فهو ادعاء وشبهة.. والذين يستبقون فيشككون بنوايا الحكومة ويتهمونها بعدم تصريفها الزكاة على الوجه الشرعي هم مخطئون ومخالفون لأمر الشريعة الاسلامية.. ذلك أن على كل مسلم أن يدرك أن عليه دفع الزكاة إلى بيت مال المسلمين التي هي هنا مصلحة الواجبات أو الجهات التي تحددها الدولة طاعةً لأمر الله، وامتثالاً لأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي يوحي إليه من ربه ولاينطق عن الهوى. أما الذريعة بالقول إنها - أي الزكاة - لاتصل إلى أصحابها فهي تهمة بغير برهان.. وحجة واهية مردودة على أدعيائها.. وإذا أراد الإنسان أن يستزيد الأجر، ويضاعف حسناته فلا ضير أن ينفق من فضل ماله على الفقراء والمساكين ويخرج صدقاته للمحتاجين الذين يرى أنهم مستحقون للإحسان والمعونة.. فكل هذه الأعمال يحبها الله ويضاعف لصاحبها الأجر والثواب.. غير أنها لاتعد زكاةً عن ماله أو تجارته أو عقاراته.. إذ أن الزكاة يتم تحصيلها فقط إلى الدولة وهي المحاسبة أمام رب العالمين عن تصريفها.. ولايحق لأحدٍ أن ينشر الدعاوى والشبهات ويروج أحاديث التثبيطات للتشكيك في ولاة الأمر ما لم يكن هناك بوادر خروج جلي عن الشريعة الاسلامية.. وهذه والحمدلله ليست موجودة وإن شاء الله لن تكون.. فدولتنا مسلمة ودستورها يحتكم للنظام الاسلامي الذي يوجب عليها أن تحصل الزكاة من الميسورين والأغنياء ومن يتوجب عليه دفع الزكاة ليتم تصريفها على الذين ذكرتهم الآية في قوله تعالى: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةٌ من الله، والله عليم حكيم» «سورة التوبة الآية 60».üإن الناس يحبون أن يخرجوا الزكاة في شهر رمضان حتى وإن لم تكتمل أيام «الحول» أو السنة على أموالهم المكنوزة، ليتضاعف لهم الأجر، لأنه من أدى فريضةً في رمضان كان كمن أدى «70» فريضة فيما سواه.. فأية خصلة من خصال الخير في هذا الشهر الفضيل كأنها فريضة تامة في الثواب.. وأعمال الخير لاحصر لها، فمنها الإحسان إلى المسكين، ومواساة الأرملة ومؤازرتها والرحمة بالمصابين والمسح على رؤوس اليتامى والعطف عليهم وتحسين أحوالهم بكل الميسور من الدعم والنفقة.. وكل هذا يحصل المرء منها على مايوازي ثواب فريضة كالصلاة والزكاة في غير رمضان. وأداء فريضة الزكاة في رمضان الحد الأدنى لها من الثواب يوازي «70» فريضة في غير رمضان.. ومعنى هذا أن هذا الشهر فرصة نفيسة وماسية ومن الظلم أن يفرط بها الإنسان.. خصوصاً أن الله وضع في أيامه ولياليه روحانية وانشراحاً، وتكفل بتصفيد الشياطين، كي يسهل على العبد أن يهذب نفسه ويتخرج من جامعة رمضان بنجاح وتفوق بدرجة امتياز فينال سعادة في دنياه، ويدخر له في الآخرة نعيماً مقيماً ورضوان مالك الملك الحي القيوم.