مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    مبابي يعلن رسميا رحيله عن باريس سان جيرمان    تأملات مدهشة ولفتات عجيبة من قصص سورة الكهف (1)    الجمعية العامة تصوّت بغالبية كبرى تأييدا لعضوية فلسطين في الأمم المتحدة    هناك في العرب هشام بن عمرو !    الريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى له أمام العملات الأجنبية (أسعار الصرف)    وفاة طفلين إثر سقوطهما في حفرة للصرف الصحي بمارب (أسماء)    مقتل وإصابة 5 حوثيين في كمين محكم شمال شرقي اليمن    تفاعل وحضور جماهيري في أول بطولة ل "المقاتلين المحترفين" بالرياض    الحوثيون يطيحون بعدد من كوادر جامعة الضالع بعد مطالبتهم بصرف المرتبات    الحوثيون يفتحون طريق البيضاء - مأرب للتنصل عن فتح طريق مأرب - صنعاء    د. صدام: المجلس الانتقالي ساهم في تعزيز مكانة الجنوب على الساحة الدولية    سياسي جنوبي: أنهم ضد الاستقلال وليس ضد الانتقالي    قوات دفاع شبوة تضبط مُرّوج لمادة الشبو المخدر في إحدى النقاط مدخل مدينة عتق    ضربة موجعة وقاتلة يوجهها أمير الكويت لتنظيم الإخوان في بلاده    لحوم العلماء ودماء المسلمين.. قراءة في وداع عالم دين وشيخ إسلام سياسي    الشرعية على رف الخيبة مقارنة بنشاط الحوثي    أنشيلوتي: فينيسيوس قريب من الكرة الذهبية    صباح (غداً ) السبت اختتام دورة المدربين وافتتاح البطولة بعد الظهر بالصالة الرياضية    الليغا .. سقوط جيرونا في فخ التعادل امام الافيس    "صحتي تزداد سوءا".. البرلماني أحمد سيف حاشد يناشد بالسماح له للسفر للعلاج ودعوات لإنقاذ حياته وجماعة الحوثي تتجاهل    الحوثيون يتحركون بخطى ثابتة نحو حرب جديدة: تحشيد وتجنيد وتحصينات مكثفة تكشف نواياهم الخبيث    "حرمة الموتى خط أحمر: أهالي المخا يقفون بوجه محاولة سطو على مقبرة القديمي"    أبرز المواد الدستورية التي أعلن أمير ⁧‫الكويت‬⁩ تعطيل العمل بها مع حل مجلس الأمة    تعرف على نقاط القوة لدى مليشيا الحوثي أمام الشرعية ولمن تميل الكفة الآن؟    هل الموت في شهر ذي القعدة من حسن الخاتمة؟.. أسراره وفضله    البدر يلتقي الأمير فيصل بن الحسين وشقيق سلطان بروناي    25 ألف ريال ثمن حياة: مأساة المنصورة في عدن تهز المجتمع!    وثيقة" مجلس القضاء الاعلى يرفع الحصانة عن القاضي قطران بعد 40 يوما من اعتقاله.. فإلى ماذا استند معتقليه..؟    اكلة يمنية تحقق ربح 18 ألف ريال سعودي في اليوم الواحد    مبابي يودع PSG الفرنسي    محاولة اختطاف فاشلة لسفينة شرقي مدينة عدن مميز    وفاة وإصابة أكثر من 70 مواطنا جراء الحوادث خلال الأسبوع الأول من مايو    السلطات المحلية بالحديدة تطالب بتشكيل بعثة أممية للإطلاع على انتهاكات الحوثيين مميز    في رثاء الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني    الذهب يتجه لتحقيق أفضل أداء أسبوعي منذ 5 أبريل    بسمة ربانية تغادرنا    جماعة الحوثي تعلن ايقاف التعامل مع ثاني شركة للصرافة بصنعاء    بسبب والده.. محمد عادل إمام يوجه رسالة للسعودية    عندما يغدر الملوك    قارورة البيرة اولاً    رئيس انتقالي شبوة: المحطة الشمسية الإماراتية بشبوة مشروع استراتيجي سيرى النور قريبا    الدوري الاوروبي ... نهائي مرتقب بين ليفركوزن وأتالانتا    ولد عام 1949    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962 الحلق16
نشر في الجمهورية يوم 16 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
لكن الصحيفة مالبثت أن عادت إلى الصدور بعد لجوء الزبيري إلى القاهرة، وتحديداً في أغسطس 5591م، فقد سمحت القاهرة حينها إيماناً بدورها القومي التحرري للمعارضة اليمنية بالنشاط ضد نظام الإمامة، أكثر أنظمة الوطن العربي تخلفاً، فكان ذلك بمثابة عودة الروح إلى الحركة الوطنية وإلى الصحافة المعارضة في زمان ومكان جديدين.
على أنه تجب الإشارة إلى أن المعارضة لنظام الحكم الإمامي لم تختف يوماً بعد فشل الانقلاب الدستوري في 8491م، لكن صوتها كان قد خفت، حتى ظهور صحيفة «السلام» التي حملت مشعل المعارضة، وحاول شيخها المعروف عبدالله الحكيمي الذي برز كزعيم وطني معارض القيام بدور ملحوظ على الساحة الوطنية، صدرت الصحيفة في لندن في 6ديسمبر 8491م واستمرت في الصدور حتى 52مايو 2591م، وكانت تقرأ في عدن باهتمام، وعلى نطاق ضيق في تعز وصنعاء بسبب جو الإرهاب الذي أشاعه الإمام أحمد حينها.
وكان رواد البعثات الدراسية إلى البلدان العربية قد جلبوا ما أمكنهم نقله إلى اليمن من كتب الحداثة والتي حملت فكراً جديداً ومغايراً للفكر السائد والثقافة السائدة في المجتمع وقتئذ، مثل «العقد الاجتماعي» للكاتب الفرنسي الشهير «جان جاك روسو» و«الانقلاب العثماني» رواية تاريخية لجورجي زيدان و«طبائع الاستبداد» للكاتب الإسلامي العربي الترعة عبدالرحمن الكواكبي، و«النواة في حقول الحياة» تأليف الحبيب العبيدي، وكان حال اليمن في بداية الأربعينات وهي مرحلة بلورة الوعي الوطني ككهف تحرسه أشباح التخلف وتتنفس في جنباته بقايا تقليدية لا تغني ولا تسمن، ولا تمت إلى ماضي الإسلام أو حاضره بصلة، لذلك فإن قراءة كتاب مثل «العقد الاجتماعي» كان لابد أن يحدث تأثيراً على مثقفي العصر، ورجال السياسة في المعارضة الذين لقبوا فيما بعد ب«العصريين» نسبة إلى ثقافتهم وطريقة تفكيرهم، وقد انعكس هذا الأثر في مطالب الحركة الوطنية المعارضة في نهاية الأربعينات، كالدستور، وفصل السلطات، وصياغة الميثاق، وإقامة مجلس الشورى، وإشاعة الحقوق السياسية لكل اليمنيين، ولم تكن البيئة اليمنية بتناقضاتها المذهلة لتمنع اليمنين الأحرار، وهم طلائع الشعب المثقف من أن يحلموا بالجمهورية.
وجاءت كتب الخمسينات بمضامين أكثر حداثة وأكثر ثورة، فقد تعددت مواضيعها، كما تعددت اتجاهات مؤلفيها، واختلفت مشاربهم ومنازعهم، فهي شديدة التباين، شديدة التقارب، كلها ثورية، وكلها مختلفة النظر إلى الثورة، وكان الذي يهم اليمني الثائر حينها على واقعه المتردي، والذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، من كتب تلك الفترة كتاب«اللامنتمي» لكولن ولسون، وكتاب«تاريخ الثورات» لجواهر لال نهرو زعيم الهند، وكتاب «فلسفة الثورة» لجمال عبدالناصر، وكتاب«في سبيل البعث» لميشيل عفلق وكتاب«معالم الحياة العربية» لمنيف الرزاز وكتاب«النكبة والبناء» لوليد قمحاوي وكتب ساطع الحصري وغيرهم، وكذلك أدبيات المنظمات القومية والاشتراكية وهذه الكتب كانت تنتقل من بيروت والقاهرة إلى تعز وصنعاء خلال أسابيع وهي لاتستورد على نحو تجاري، لكن الأحزاب والمنظمات والقادة الوطنيون كانوا حريصين على بلوغها إلى أكبر عدد ممكن من القراء المتعطشين للقراءة الثورية وكان أغلبية قرائها من الطلاب من المراحل الثانوية، والكليات العسكرية، وكانت مساهمة الكتاب نوعية في تشكيل وعي وثقافة الخمسينات وبداية الستينات لانعدام مصادر أكثر أهمية.
وكانت صحف ومجلات عربية توزع في اليمن، معظمها مصرية وقد حاول الإمام أحمد منعها، لكنه فشل في ذلك كانت هذه العملية تجرى في اطار الصراع القائم بين السلطة والمعارضة، معارضة تريد نشر الوعي الوطني القومي، وسلطة تحاول تسويق ثقافتها القديمة، وكان السباق على أشده.
وعندما انتشر جهاز الراديو في عدن والبلدان المجاورة، تسرب هذا الجهاز الصغير إلى أيدي المواطنين، فقبل ذلك كان القلة من رجال الحكومة يسمح لهم بشراء هذا الجهاز وقد كان علي الوزير أول من أقدم على شراء هذا الجهاز في عام 4391م واهتم المواطن بهذا الجهاز العجيب الذي ينقل أخبار العالم، ويبث برامج ماكان بامكان أي يمني سماعها من أي وسيلة اعلامية محلية، وكان دخول الجهاز إلى اليمن تأكيداً آخر على تآكل سياسة العزلة التي طوق بها الإمام شعبه وعندما أدرك الإمام أحمد أن هذا الجهاز قد ساهم في تثقيف المواطنين، وحرضهم على التفكير في الوضع القائم بل والمقاومة حاول منعه لكن هذا الاجراء فشل حيث امكانية تهريبه عبر الحدود متاحة، خصوصاً مع رخص قيمته التي هي في مقدور المواطن العادي، وهكذا وجدت نافذة نور جديدة أسهمت في توسيع دائرة الضوء، وبددت شيئاً من ظلام العهد الإمامي وثقافته.
لقد ترك الأتراك بعد رحيلهم محطة ارسال صغيرة، كانوا قد أقاموها في عام 2191م في الحديدة قد استولى الإمام يحيى عليها عند دخوله المدينة عام5291م واستخدم فنيين فرنسيين لتشغيلها هؤلاء قدموا للإمام اقتراحاً يقضي باقامة محطة مركزية في صنعاء، وقد وافق الإمام في بداية الأمر، لكنه مالبث أن غير رأيه، وأهمل المشروع بعد أن وصلت معداته إلى صنعاء ويبدو أنها كانت هدية فرنسية.
وفي عهد خلفه الإمام أحمد، افتتحت في عام 3591م محطة عدن الاذاعية، واستقبلها المواطنون في صنعاء وتعز، فأرغم الإمام على التفكير في فتح اذاعة في الشمال، لم يتمكن من افتتاحها إلا في مارس 6591م، وقد اقتصرت برامجها على الأخبار والتعليق عليها وبعض الارشادات الدينية والقليل من الأغاني وقد حاول الإمام استخدامها في مواجهة الثقافة الجديدة المعاصرة التي كانت الاذاعات المصرية تبثها، وكان المواطنون مشدودين إليها، ففي هذا الوقت كان المد الناصري قد تجاوز تخوم مصر وبالأخص بعد العدوان الثلاثي عام6591م، وسقوط عرش بغداد عام 8591م، وازدادت شعبية عبدالناصر في معظم الأقطار العربية، وقد أدرك الإمام مغزى هذه الأحداث، فراح يبحث عن طريقة يحمي بها هذا النظام فلم يجد أمامه من وسيلة، غير الانضمام إلى مشروع الوحدة العربية في الوقت الذي عمل على تشجيع حركة التأليف المحلي، وكان الهدف هو تعميق الثقافة التقليدية، ثقافة السلطة التي ظلت حصناً منيعاً استعصى على الأحرار تحقيق اختراقات كثيرة في بنيانه، خصوصاً وقد لاحظ الإمام مدى التناغم بين اطروحات المعارضة السياسية والفكرية، وبين تنامي الوعي القومي في الوطن العربي بعد عام 2591م.
لقد عُرف أن الحضارة في جنوب الجزيرة العربية قد أنتجت ثقافتها وآدابها وفنونها والبعثات الأثرية الاستكشافية دلت على وجود آثار استخراج بعضها من تحت الرمال، وأزيل عن بعضها الآخر الغبار ومدينتا صنعاء وشبام، وسد مأرب، وآثار أخرى تدل على أن الانسان هنا أبدع حضارياً مايمكن أن يضاهي به ابداعات شعوب عظيمة أخرى، وقد تسربت إلى اليمن الكثير من البعثات الاستكشافية، التي نقلت معها كنوزاً أثرية مُهمة، عبر الانسان من خلالها عن ولعه بأشكال متعددة من الفن.
وحاربت طبقة رجال الدين وعلى مدى زمن طويل كل نزوع لدى الانسان اليمني نحو اكتشاف ذاته والتعبير عنها، والفن كان أحد أهم هذه الأشكال إن لم يكن أهمها وفي عهود الظلام تكرست نظرة تحريمية لمعظم الفنون، فالموسيقى والرسم والنحت والغناء والرقص وغيرها من المحرمات المغلظة، وكانت السلطة تحارب كل هذه المظاهر أينما وجدت، لكن ذلك لم يمنع اليمن رجلاً كان أوامرأة من أن يخترق هذه القيود، ويتجاوز كل ماهو محرم في نظر ممثلي الثقافة القديمة، وقد لاحظ أحد المستشرقين أنه بالرغم من حالة المنع والحظر على الغناء وأشكال الفنون الأخرى، فإن اليمن كان متذوقاً لفنون الآخرين الحديثة، يحب الأعمال الزاخرة بالتفاصيل الدقيقة التصويرية، المعبرة جداً، ولاسيما فنون النهضة الايطالية، والمدرسة الرومانتيكية الفرنسية.
وفي عرض أولي رائع، وصف أحد المستشرقين واحداً من الاحتفالات الوطنية في صنعاء فقال: «لقد اكتظت الشوارع بالمحتفلين، كان بوسعي أن أسمع من نافذتي هدير المدافع ودوي الرصاص، لقد مضى الجنود في جماعات صغيرة يرقصون رقصاتهم التقليدية، وينشدون أغانيهم القديمة، وقد أنشد الجميع نشيد اليمن القومي، ويعتقد أهل اليمن أن مجرد انشاد هذا النشيد الذي يسمى«الزامل» يبعث الفزع في قلوب الأعداء.
أما الموسيقى التي كنت أسمعها فيمكن اعتبارها مظهراً من المظاهر الحضارية للشعوب الشرقية وهي تعتمد على التقاليد القديمة التي تختفي آثارها في ضباب التاريخ وتختلف موسيقى الجنود واليمانيين عن الموسيقى العربية المألوفة، وعن أغاني البدو العذبة فلموسيقاهم التي اجتذبت وأفرحت الكثيرين، بعض الميزات الخاصة، ففيها تنوع في اللحن، وانتقال في الدرجات الموسيقية وهذا التنوع ينشأ من تعدد القبائل، ومن تنوع الطبيعة الجغرافية للبلاد، كما أن موسيقى المدن هنا تختلف بعض الاختلاف عن موسيقى مدن الشرق العربي.
وكان الشائع عن اليمن حينها أنها قد منعت كل أنواع الموسيقى لكن المؤكد أن الإمام أحمد كان لديه فرقة نحاسية تعزف الألحان الدينية والوطنية في المناسبات، وكذلك والده الإمام يحيى وفيما بعد، أي في الخمسينات، كان عشاق الموسيقى والغناء قد تزايدوا مع وجود المنع الرسمي، حتى أن أكثر المطربين كانوا يتسللون إلى مجالس الأنس كاللصوص، وكانت هذه المجالس إما أقبية وإما في أعالي غرف الدور خيفة من وشايات الصوت، وكانت قيود المنع والتحريم أقل في لواء تعز وكان هناك قدر من التساهل من قبل السلطة، التي كانت هي الأخرى تتقبل بعض أشكال التغيير على مضض، ويظهر ذلك في طريقة احتفالها بالمناسبات كمناسبة عيد الفطر على سبيل المثال.
وفي الاربعينات كانت الألعاب الرياضية خروجاً صارخاً على الدين، وشراً مستطيراً وكان دعاة الجمود يصفونها بأنها حركات شيطانية، وصلاة على مسرح الأبالسة، وقد ثبتت الأيام أن الوقوف خارج الزمن مستحيل، واستحالته تأتي من حيث أنه مخالف لطبيعة الحياة ولقانون التطور وتدريجياً قبل المحافظون في المجتمع أنشطة من هذا القبيل، وإن ظلت حتى وقت قريب حكراً على الذكور دون الاناث.
وكانت السينما والمسرح من المحرمات، وكان اليمني الذي ينتقل إلى عدن ينبهر بمشاهدة حياة أخرى تبدو له مغايرة تماماً لما اعتاد عليه في مدن الشمال وريفه، ففي هذه المدينة وحدها في الجنوب كان هناك عدد من دور السينما، وكان بعضها على مستوى راقٍ وكان هناك متحف واحد هو المتحف الموجود بصنعاء، ويضم عدة تماثيل وقطع فنية ترجع إلى العهدين السبئي والحميري.
الاستقلال الضائع
1 استقلال اليمن
بويع الإمام يحيى بالإمامة في عام 4091م خلفاً لوالده الإمام محمد بن يحيى حميدالدين، حيث كانت ظروف هذه البيعة مشحونة بالعداء للوجود التركي في اليمن وكان اختياره قد تم بدعم واضح من قبيلة حاشد، ومن شيخها ناصر بن مبخوت الأحمر، وكان واضحاً أن اليمن ممثلة حينها في أهل الحل والعقد تبحث عن زعيم يوحد صفوفها، ويقودها في صراعها ضد العثمانيين، وأن يواصل الزعيم الجديد ما كان قد بدأه الزعيم السابق من حرب ضد الأتراك وأن يقوم باشهار دعوته في اليمن كما جرت العادة في المذهب الزيدي.
وباشر الإمام يحيى القيام بالدعوة ملقباً نفسه«بالمتوكل على الله» وفي المنشور الذي وزعه على الناس اتهم الأتراك بأنهم«سعوا في الأرض فساداً، وتركوا الشرع، وظلموا العباد ولم يكن في منشور الإمام مايجافي الحقيقة إذ إن سلوك الولاة العثمانيين وحكامهم بفرض الضرائب والغرامات الحربية وجبايتها بالقوة، وملاحقة رجال الدين وفتح السجون للأئمة ومخالفيهم، بالاضافة إلى اتهامهم بترك العبادات هذا السلوك كان وحده كافياً لتأجيج المشاعر الوطنية ضدهم.
قاد الإمام يحيى الحرب على حامياتهم العسكرية وهوجمت المدن التي كانت تسيطر عليها كمدينة عمران، وثلا، وشبام، وكوكبان، وحجه وتقدم الإمام بقواته نحو صنعاء عاصمة الولاية التركية، وحاصرها، وتحت ضغط الحصار قبل الأتراك بالتفاوض، ثم بالانسحاب من المدينة تاركين الشمال الزيدي للإمام لاجئين إلى الجنوب الشافعي الأقل رفضاً لوجودهم ودخل الإمام صنعاء في 12ابريل 5091م، وبقي فيها لبضعة أشهر.
كان الانسحاب التركي من صنعاء عملاً تكتيكياً، فقد باغتوا الإمام بجيش كبير فضل الإمام عدم الدخول في مواجهة معه، فانسحب من المدينة لكن الأتراك لاحقوه، وجرت بينهم وبينه معارك عديدة كان أشهرها معركة«شهارة» والتي منيت فيها القوات التركية بهزيمة كبيرة أجبرتها على الانكفاء ثانية إلى صنعاء وقد فرضت هذه الأحداث على الأتراك التفكير في التفاوض مع الإمام يحيى ليصل الطرفان إلى ماعرف باتفاقية صلح «دعان» عام 1191م التي رفعت من مكانة الإمام وأضفت عليه صفة الزعامة الوطنية.
لقد نص الاتفاق على: وقف العمليات العسكرية بين الطرفين، واطلاق سراح الأسرى من الطرفين واعطاء الإمام حق تعيين القضاة في المناطق التي يسود فيها المذهب الزيدي، وأن تكون مسائل الأوقاف والوصايا منوطة بالإمام ونصت المواد الأخرى في الاتفاق على الطرق الاجرائية في تنصيب الحكام والقضاة وجباية الضرائب، وتأمين خطوط التجارة فيما أطلق الاتفاق يد العثمانيين في المناطق الشافعية وقد اعتبر أنصار الإمام هذا الاتفاق نصراً كبيراً للإمام فيما نظر إليه خصومه باعتباره تنازلاً من قبل الإمام للغزاة العثمانيين واطلاقاً ليدهم في اليمن.
والواقع كان الاتفاق تعبيراً عن توازن القوى، وتحقيقاً لمصالح أراد الطرفان تحقيقها فالإمام أراد أن يعطي نفسه فسحة من الوقت يواجه بها خصومه المحليين، وأكثرهم خطورة الادريسي صاحب«صبيا وأبي عريش» من أعمال عسير وكان الادريسي قد فرض زعامته هناك، وحارب القوات التركية في تهامة، واستولى على بعض المناطق الشافعية والزيدية مما اعتبره الإمام تهديداً لزعامته الروحية والسياسية، هذا أولاً: أما ثانياً: فإن الإمام أدرك بخبرته وفراسته، أن الأتراك مازالوا يتمتعون بقدرات عسكرية كبيرة، لايمكن التقليل من شأنها صحيح أنه في معاركه معهم قد حقق هو الآخر نجاحات وانتصارات أوصلته إلى أبواب صنعاء مرتين في عام 5091م وعام 1191م لكنه مع ذلك كان يدرك أن تحقيق نصر حاسم في هذه الظروف ربما كان مستحيلاً.
كما أنه أدرك أن سكان الجنوب وتهامة الشوافع لايرفضون الوجود العثماني كما يرفضه الزيديون.
وثالثاً: كان الوضع القبلي يقلقه، فالقبائل التي ناصرته وساندته، ستعود لتنقلب عليه إذا عجز عن توفير مايلزم المال لكسب ولائها وقد وعد الأتراك الإمام بأنهم سيدفعون له وللقبائل التي حاربت معه رواتب شهرية، قدرت بألفين وخمسمائة ليرة ذهباً.
وفي المقابل فإن العثمانيين قد أدركوا أن قدراتهم المسلحة لم يكن بامكانها أن تحصد من النجاحات أكثر مما حصدت بالنظر إلى بسالة اليمنيين في القتال.. كما أنها فوجئت بهجوم ايطاليا على طرابلس الغرب، فكانت الحكومة العثمانية التي وافقت على الصلح تهدف إلى تسكين الثورة اليمنية من ناحية، وتسكين غضب المعارضة من ناحية أخرى.. التي انتقدت بعنف سلوك الحكومة.
وبعد عقد الاتفاق عاد الإمام يحيى إلى«شهارة» وعاشت اليمن فترة استقرار امتدت حتى الحرب العالمية الأولى وظل الأتراك على ولاء، ماداموا يدفعون الرواتب ويجمعون له الزكاة إلاأنهم لم يتمكنوا من القيام بما تعهدوا به، بعد دخولهم الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك فلم ينقلب عليهم، ولاساعدهم على الادريسي في تهامة، ولا على الانجليز في عدن فقد كان في قرارة نفسه يرى من غيرالحكمة أن يقف ضد الأتراك، لأنهم مسلمون، ولأنهم يحاربون عدواً كافراً وقد ظهر بموقف المحايد، بالرغم من أنه تجاوز خفية هذا الحياد، فأمدهم بالمال، ولم يعارض من رغب في التطوع من اليمنيين للقتال معهم ضد البريطانيين ودعا بعض شيوخ المحميات الذين كانوا على صلة طيبة معه لاعلان الولاء للأتراك، وإن لم يفعلوا وكان موقفه المحايد ظاهرياً محل تقدير من الطرف الآخر في الحرب وكذا تقدير بعض القوى المحلية التي حاربت إلى جانب الأتراك، ومعظمها شافعية المذهب.
ومن الواضح أن الإمام بموقفه هذا قد راعى أموراً عدة فربما اعتقد أن معاداة الأتراك والانقلاب عليهم سوف يؤثر على شعبيته أمام أنصاره المتعاطفين مع العثمانيين المسلمين ضد البريطانيين وحلفائهم أو ربما ظن أن الانقلاب على الأتراك في ظل ظروفهم الصعبة يعد نوعاً من الخيانة التي لاتتناسب مع مركزه الديني والسياسي وأخيراً ربما احتاط لنفسه فالحرب لم تنته بعد، ولم تكن نتائجها معروفة تماماً والجميع كان يشعر بقدر من الاضطراب، وهو مايفسر تقديمه بعض التسهيلات للأتراك في خفية واستحياء.
وتنتهي الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا وحلفائها الأتراك، وسلم الحرب كل من وقع أسيراً لديهم من الأتراك إلى الحلفاء.. أما الإمام يحيى فقد رفض القيام بمثل هذا الصنيع وبالرغم مما جره الأتراك على اليمن من ويلات، فقد منح بعض الأتراك حق اللجوء إلى المنطقة التي كان يسيطر عليها وترك لهم حق البقاء في اليمن والعودة إلى بلادهم.
إلا أن موقفه من المناطق الجنوبية التي كان العثمانيون قد استولوا عليها أثناء الحرب وقد توغلوا جنوباً حتى مشارف عدن ورفض عرض القائد العسكري العثماني علي سعد باشا باستلامها، كان من بين أشياء كثيرة أخذت على الإمام يحيى من قبل خصومه.
ويبدو أن الإمام قد فكر ملياً في الأمر، كان العرض مغرياً، ولكنه وجده صعباً، بعيد المنال، بمنظور المستقبل، فهو مازال معسكراً في جبال اليمن العليا في شهارة ولم يتسلم بعد من الأتراك صنعاء ولم تكن الأوضاع قد استقرت له تماماً في المناطق الشمالية، كان هناك مناوئون مناهضون لإمامته بالاضافة أنه لم يرغب في اثارة البريطانيين ضده في الوقت الذي أوشكت بلاده أن تحصل على استقلالها.
وقع العثمانيون اتفاقية الهدنة مع الحلفاء في 03اكتوبر 8191م، وأملى الحلفاء شروطهم على الأتراك، مثل فتح «الدردنيل والبسفور» ونزع سلاح الجيش التركي، وتسليم البوارج الحربية واستسلام الحاميات التركية في الحجاز، وعسير، واليمن، وسوريا والعراق وشمال أفريقيا.
وتسربت أنباء الهدنة إلى القادة الأتراك في اليمن بالهدنة، فعرضوا على الإمام يحيى أن يدخل صنعاء، ويتسلم جميع ماهو موجود في قصر السلاح الذي كان يعرف آنذاك بقصر غمدان من أسلحة وذخائر، وذلك مقابل ما للإمام من ديون والتزامات مالية عليهم ودخل الإمام صنعاء في نوفمبر 8191م وكان دخول صنعاء إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر وفي عام 6291م أعلن تنصيب نفسه ملكاً.
وبصورة نهائية فقد رحلت القوات العثمانية عن اليمن في بداية العام 9191م وبذلك حصل اليمن على استقلاله، الذي صودق عليه دولياً في 42يوليو 3291م في أثناء الدورة الثانية لمؤتمر الصلح الذي عقد بمدينة«لوزان» لتسوية المسائل التي لم تسو بين الحلفاء والأتراك، وبموجب هذه الاتفاقية آلت ممتلكات الدولة العثمانية في اليمن كاملة إلى الإمام يحيى.
في هذه الأثناء هاجمت الطائرات والموانئ اليمنية الأخرى«المخا، والصليف، واللحية» ثم اعقبوا ذلك باحتلالها بحجة تباطؤ انسحاب القوات التركية منها لقد أرادت بريطانيا معاقبة الإمام على احترامه المعاهدة مع تركيا واحراج موقفه الذي ظهر به كزعيم وطني وتشكيل ضغط عليه لانتزاع بعض التنازلات فيما يتعلق بالمحميات ومع ذلك الموقف البريطاني لم يغير من حقيقة أن اليمن، وبحكم الأمر الواقع قد أصبح دولة مستقلة.
كان رد الإمام على الاعتداء البريطاني على الحديدة أن اتجه إلى مهاجمتها في المحميات، معلناً أنها جزء من ممتلكات أجداده، ينبغي له أن يستردها وكان يهدف من ذلك بطبيعة الحال إلى اتخاذ تلك المناطق التي احتلها رهينة مقابل ميناء الحديدة، كما أعلن عدم اعترافه بأية اتفاقيات وقعها العثمانيون مع الانجليز بشأن عدن والمحميات، ورفض المساومة على الحديدة مقابل الاتفاق على الحدود، وجدير بالذكر أن الانجليز اضطروا فيما بعد لتسليم الحديدة لحليفهم محمد علي الادريسي في 13يناير 1291م بعد أن فشت كل محاولاتهم في الوصول إلى اتفاق مع الإمام.
2 حروب التوحيد
منذ توقيع اتفاقية «دعان» عام 1191م وحتى اعلان قيام الدولة بدخول الإمام صنعاء في نهاية العام 8191م كانت قد دخلت تحت سلطة الإمام منطقة الجبال العليا بسكانها الزيود«صنعاء، عمران، حجة، كوكبان، آنس، يريم، ومناطق الخليط السكاني الزيدي الشافعي والزيدي الاسماعيلي» وهذه المناطق شكلت نواة الدولة اليمنية الحديثة التي عرفت فيما بعد بالمملكة المتوكلية اليمنية.
وكان الإمام من الخبرة والحنكة فلم يضيع وقتاً طويلاً في الزحف نحو الجنوب الشافعي الأكثر خصوبة، مستغلاً سمعته ومكانته التي صنعها بحروبه ضد الأتراك، ونجاحاته في مواجهة الخصوم المحليين كانت هذه المناطق أكثر ارتباطاً بالعثمانيين، وقد قاتل أهلها إلى جانب العثمانيين ضد الانجليز، لذلك فإن انتماءهم المذهبي المغاير، وتاريخهم السياسي المستقل عن سلطة الإمام في الفترة الأخيرة، كان لابد أن يترك أثراً معاكساً ازاء الإمام.
وهذا ماحدث فعلاً فعندما أرسل الإمام يحيى أول مبعوثيه للمنطقة أحمد بن قاسم حميدالدين فبمجرد حضوره اضطربت الأوضاع في تعز وظهرت بوادر انفصالية عن الشمال الزيدي وفي هذه الفترة كانت القوات العثمانية تجمع شتاتها للرحيل، واستسلم قائدها علي سعد باشا إلى البريطانيين في عدن، وعاد أغلبية جنده وكانوا من هذه المناطق الجنوبية والوسطى إلى مدنهم وقراهم في الوقت الذي بدأ الإمام اتصالاته مع زعماء المنطقة يدعوهم للولاء، ويحاول كسب ودهم، وقد كان له ماأراد، إلا أن نوازع الانفصال سرعان ماتجددت بصورة أكبر وأوسع مدى.
حينها لم يكن أمام الإمام سوى القيام بجملة عسكرية لاخضاع هذه المناطق عنوة وكلف السيد علي بن عبدالله الوزير بالقيام على رأس حملة سرعان ما اصطدمت بمقاومة عنيفة، وكانت مفاجئة للوزير والإمام، وهو مايفسر استمرار المعارك لمدة شهرين، دخل بعدها الوزير إلى تعز بجنوده وأتباعه مستبيحاً المدينة وبعد تعز أصبح في متناول القوات الإمامية أن تتقدم نحو العدين والحجرية والمقاطرة وقد جرت في المقاطرة واحدة من أكبر معارك الإمام مع القبائل المتمردة في الجنوب.
هذه المعركة استمرت زهاء عامين تقريباً، قاوم فيها أهالي المقاطرة مقاومة باسلة لكن الغلبة كانت لقوات الإمام التي تفوق المدافعين عن المنطقة عدداً وعدة لقد ارتكبت قوات الإمام مجازر وانتهكت حرمات، واستباحت حقوقاً، لكن حسنتها الكبرى أنها أدت إلى بسط نفوذ الدولة المركزية في هذه المنطقة النائية، وكان ذلك انجازاً بالمفهوم الوطني لا بالمفهوم المصلحي للإمام.
ومن الحقائق التاريخية في اليمن أن ظاهرة التمرد القبلي والنزوع نحو الاستقلالية أشد وأقوى لدى القبائل الزيدية منها لدى القبائل الشافعية لكن مرحلة الكفاح ضد الأتراك كانت قد وحدت المواقف والأهداف بين الإمام في جهة ورجال الدين وشيوخ القبائل في جهة أخرى فانشغل الجميع«الإمام والقبائل» بقضية الوجود العثماني على الأرض، وظهر واضحاً أثر المذهب الزيدي بطبيعته الأولى الثائرة في التحريض ضد هذا الوجود.
لقد وقفت هذه الزعامات، بما لها من تأثير إلى جانب الإمام يحيى وآزرته وكانت عاملاً مهماً في صناعة شخصيته وما تكون حولها من هالة وطنية ومع توقيع اتفاقية «دعان» كانت بعض هذه الزعامات قد رأت فيها مايخالف المبادئ التي استند عليها النضال الوطني ضد الاحتلال التركي، فعارضته، ومن هؤلاء الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر، شيخ مشايخ حاشد، والرجل الذي كانت له اليد الطولى في اختيار يحيى للإمامة، مع وجود منافسين آخرين لايقلون عنه مكانة ثم تعمق هذا الخلاف عندما دخل الإمام صنعاء، وأصبح حاكماً وزعيماً لدولة وأخذ يتصرف من وحي موقعه الجديد، لايهمه غير الحفاظ على الملك وفرض الهيمنة واضعاف الخصوم فعين أبناءه والمقربين في المناصب العليا للدولة، واستعان بجيش كبير كان قد بدأ على التو في إنشائه، معتمداً على كفاءات غير قبلية، وغير طامعة في الحكم فتوجست هذه الزعامات خيفة من موقف الإمام، وبدأت تشق عليه عصا الطاعة، مطالبة إياه بالاعتزال إن لم يعتدل وبتطهير جهاز حكمه، وأن يعيد إلى الجهاز أولي الإخلاص والسبق، وقد بيتت النية على إعلان التمرد والاستيلاء على حجه والزحف نحو صنعاء.
وبلغ إلى علم الإمام ما كان يعتزمه ابن الأحمر، وحليفه أمير لواء حجه يحيى شيبان فبادر إلى اعتقال الأخير، بدعوى ما لديه من أموال للدولة أثناء توليه إدارة حجة، ومع ذلك فإن ابن الأحمر، وشقيق المعتقل محسن شيبان ما لبثا أن تزعما التمرد، وقادا مجاميع استولت على حجه، وهددت مركز الإمام في حاشد، فوجه ابنه أحمد ولي العهد والإمام فيما بعد للقضاء على التمرد، فحاصر أحمد ابن الأحمر وشيبان في حجة وانتهى الحصار باتفاق سمح لابن الأحمر بالخروج من قاهرة حجة إلى حاشد مع رجاله وأسلحته، ودخل أحمد حجة وأصبح أميرها، وبزغ نجمه كواحد من مساعدي الإمام المخلصين والأكفاء.
ومات الشيخ ناصر بن مبخوت، وتسلم زمام المبادرة من بعده ابنه ناصر الأحمر الذي رفض القبول بتسلط أحمد وقسوته مع مواطني حجة، وانفجر الخلاف بينهما وعادت حاشد بعد سنتين فقط للتمرد ثانية، واضطربت أحوال المنطقة وكلف الإمام ابنه أحمد بتأديب القبلية معززاً إياه بمجاميع يقودها عبدالله الوزير، وقد نجح الاثنان في استعادة السيطرة على حاشد وغادر ابن الأحمر قبيلته مفضلاً اللجوء إلى الملك عبدالعزيز بن سعود.
وكانت حركة ابن الأحمر وشيبان نقطة بداية وخاتمة نهاية، لأنها شكلت الأرومة للحركات الوطنية المتسارعة مهما كانت مناطقيتها أو عشائريتها في تلك الفترة العقد الثالث من القرن العشرين فهي من هذا المنظور بداية لما ترتب عليها من تحرك وهي بنفس الوقت ومن وجهة أخرى نهاية للحركات العشائرية التي كانت تسقط إماماً بإمام، لكي تنال من غنائم الاقتتال، لأن العشائرية تظل دائماً تبحث عن تاج لتسقط به تاجاً، لذا سبب إخماد هذه الحركة إلى نشوء الحس بالدولة المركزية الواحدة في اليمن، بديلاً عن الإمام والسلطنات المتعددة.
وكانت قبائل شمال صنعاء قد ثارت هي الأخرى ضد سلوك الإمام يحيى في العام 2291م وهذه المرة بسبب رفضها القبول لفكرة التجنيد الإجباري، والتي كانت وراء فكرة تكوين الجيش القبلي «البراني» وكذلك تمردت قبائل الجوف في العام 4291م ومرة أخرى تمكن عبدالله الوزير ومحمد بن أحمد قاسم من تحقيق نصر جديد للدولة المركزية أي دولة الإمام.
لقد كانت أكثر الحروب القبلية ضراوة، وأطولها عمراً، هي حرب الإمام مع قبيلة الزرانيق في تهامة، كان الإمام قد استعاد مدينة «الحديدة» من الإدريسي في عام 5291م لكن قبائل الزرانيق التي تسكن إقليم تهامة رفضت الخضوع لسلطة الإمام، وهذه القبائل تقطن مابين الحديدة وزبيد، وأهم تجمعاتها السكنية «بيت الفقيه» ويقدر عدد أفرادها بنحو «00009» نسمة تقريباً حينذاك وهم شوافع، ويتمتعون بخصوصيات تميزهم عن القبائل اليمنية الأخرى، فهم إلى صلابتهم وشدة بأسهم «مضيافون، طيبو النوايا يحبون بلادهم، ويدافعون عنها بضراوة وعزم شديدين» ويعتقدون أن انضواءهم تحت سلطة الإمام يعد إهداراً لاستقلال بلادهم.
لقد احتفظ الزرانيق باستقلالهم طيلة فترة السيطرة العثمانية على اليمن، وكان على هؤلاء أن يبدون قدراً كبيراً من التسامح مع أفراد القبلية، وكثيراً ما قدموا الهدايا والمال لشيوخها للحافظ على أمن الطرق، واستمرار حركة النقل والتجارة، وفي مطلع هذا القرن كانت هذه القبائل جانحة ثائرة، عاثت فساداً في شواطئ اليمن، وخليج عدن وباب المندب، فلاحقتهم السفن البريطانية وتمكنت من الحد من نشاطهم. ولما استولى الإمام يحيى على تهامة والحديدة ثغرها، ترك هذه القبائل وشأنها ، وهي بدورها حافظت مؤقتاً على شيء من السكينة فلم تعتد على القوافل والمسافرين، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلاً.
ففي عيد الأضحى في عام 6291 قام بعض أفراد القبيلة بقتل أعداد من جنود الإمام، فقرر الإمام إرسال حملة قوامها ألف جندي تقريباً، ذكر أن القبيلة أبادتها عن آخرها. وقتلت قائد الحملة وأدرك الإمام خطورة الموقف، فأمر بإعداد حملة كلف بها ابنه أحمد الذي استغل الفرصة ليؤسس عليها سمعته فيما بعد، فجيش هذا الألوف من حاشد وبكيل، وحاربهم طيلة عامين تقريباً، سقط في هذه الحرب مئات القتلى من الجانبين، وكان أحمد أمهر من سابقيه الذين قادوا حملات سابقة على القبيلة وفشلوا، وكانت تجربة الحملة قد أعطته فكرة عن هذه القبيلة وخشونتها، كما أكسبته قدرة على مواجهتها وكسب الأنصار والزعامات في داخلها وفي خارجها.
وأثناء المعركة أدرك أحمد أهمية المنافذ البحرية التي تستخدمها القبيلة فسيطر عليها ليمنع عنها الإمدادات، ويسد المنافذ . وبشراء الذمم، والتفوق في عدد المقاتلين تمكن من محاصرة«بيت الفقيه» ثم اقتحامها، واسر شيوخها ورجالها، وزج بهم في سجون حجة الرهيبة، حتى قضوا نحبهم، وقد قدرت أعدادهم بنحو «007» شخص، وهناك مقبرة قرب حجة تدعى «مقبرة الزرانيق» أما زعيم القبيلة أحمد الفتينى فقد لجأ إلى البريطانيين في كمران وبسبب لجوء الفتينى إلى البريطانيين، وفي ظل إشاعات بحصول القبيلة على أسلحة بريطانية وصمت أعمال القبيلة بالخيانة.
ولم يبق أمام الإمام سوى مأرب، فهذه المنطقة لم تدخل تحت لواء أي سيطرة مركزية منذ ثلاثمائة عام، اي أنها كانت خارجة عن نطاق السيطرة العثمانية، فالعثمانيون كانوا حريصين على السيطرة على المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، الساحلية على وجه الخصوص، أو المناطق الزراعية الخصبة، وهم في هذا لا يختلفون كثيراً عن البريطانيين الموجودين في الجنوب، فالبريطانيون أيضاً تركوا مناطق الجنوب الداخلية كما هي عليه دون تغيير، واكتفوا بمناطق الساحل حتى ظهرت بوادر النفط في الصحراء، فاتجهوا بكل قوتهم إلى هناك.
وكانت مأرب تخضع لسلطة الأشراف، وقد بقيت تحت نفوذهم لفترة طويلة امتدت من 0461-1391م، وشمل نفوذهم «بيحان» وفي العام 1391 أرسل إليهم الإمام جيشه الدفاعي بقيادة عبدالله الضمين وقوة أخرى من الجيش النظامي بقيادة عبدالله الوزير لمهاجمتهم وتمكن الجيش المهاجم من دخول بلاد «خولان» ثم وصل إلى «مأرب» واشتبك فيها مع قبائل «عبيدة» واحتل المراكز الرئيسية فيها، وفي الأخير سقطت مأرب المدينة بيد جيش الإمام، وعزل آخر أشرافها «محمد عبدالرحمن».
أما بيحان فإن قيام حاكمها الشريف أحمد بن محسن القصيى بتوقيع معاهدة صداقة مع البريطانيين في 92ديسمبر 3091م وتلتها اتفاقية حماية، قد مكنته من الحفاظ على وجوده هناك، إذ وجدت قوات الإمام نفسها أمام مناطق محمية بريطانية فتوقفت هناك، وأصبحت بيحان طوال عقود قادمة منطقة فاصلة بين مشرق اليمن وغربه.
ومع أن سياسة الإمام الرامية إلى توحيد الأراضي اليمنية في دولة واحدة، يستجيب لحاجات البلد الاقتصادية والاجتماعية، وينسجم مع القسم الأعظم في تاريخها الطويل، إلا أن أسلوب تطبيق هذه السياسات وأدواتها قد اتسمت بالعنف والتنكيل دون رحمة بالقبائل العاصية المتمردة، والنهب السافر، والاستيلاء على أفضل الأراضي، وفرض اضطهاد مزدوج على البسطاء من أبناء القبائل غير الزيدية، مما أثار تذمراً متزايداً وتمرداً بين أهالي المناطق التي جرى توحيدها، وكانت الإدارة البريطانية في عدن ترحب بهذا النوع من التمرد، إذ كان من شأنه إضعاف سلطة الإمام والتأثير على توجهاته، والتقليل من أهمية مطالبه في الجنوب.
ولا تعتبر حركة الدباغ في مدينة البيضاء، التي دعا فيها بالإمامه لنفسه جزءاً من حروب التوحيد التي قادها الإمام يحيى، فلواء البيضاء خضع إلى سلطة الإمام منذ سنوات مضت، لكن المؤرخين يجعلون أحداث هذا الصراع جزءاً من هذه الرحلة.
والسيد محمد الدباغ وفي مصادر أخرى حسين الدباغ ينتمى إلى الحزب الهاشمي بالعراق، الذي كان يهدف إلى إعادة الحجاز إلى حكم الهاشميين، كان الدباغ قد وصل إلى «صبيا وأبي عريش» في عسير، واقنع الأدارسة بالتحرك ضد الملك عبدالعزيز وانتقل بعد ذلك إلى صنعاء فلم يجد لدى الإمام يحيى آذاناً صاغية، فغادرها متجهاً إلى عدن، وأقام فيها مساهماً في نشر حركة التعليم، وبعدها انتقل إلى «يافع» وفيها استطاع أن يجمع حوله الأنصار، وأن يزحف بهم إلى قرية «الجديدة» والقرى المجاورة لها في لواء البيضاء التابعة للإمام يحيى، فتصدت له قوات الإمام وطردته.
كانت طموحات الدباغ قد أقلقت الإمام يحيى، كما أقلقت البريطانيين في الجنوب، إذ ربما شعر البريطانيون أن الدباغ كان يرمي إلى إقامة سلطة خاصة في الجنوب، فعادوا حركته، وعندما انهزم أمام قوات الإمام وتقهقر إلى الجنوب قاموا باعتقاله، وسلموه إلى غريمه الأول الملك عبدالعزيز بن سعود، فيما سلموا حليفه الشيخ صالح المقالح إلى الإمام يحيى ليودعه السجن لسنوات.
انتهت حروب التوحيد التي قادها الإمام يحيى إلى إعادة تكوين نواة الدولة المركزية في اليمن، وكانت هذه الدولة قد سقطت منذ قرنين من الزمان، إلا أن هذه الدولة الحديثة لم تكن تسيطر إلا على جزء من اليمن عرف باليمن الشمالي، وكان ذلك خطوة متقدمة على طريق طويل من المفترض أن ينتهي إلى قيام دولة يمنية تضم شمال اليمن وجنوبه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.