انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر. كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة. ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية. وكان طبيعياً أن يرفض الإمام المخطط المتمثل في مشروع الاتحاد، بالرغم مما فيه من بعض الايجابيات، وفي افتتاحيتها علقت صحيفة “سبأ” شبه الرسمية من تعز على الموضوع قائلة: إن هذا الاتحاد الذي يعمل له حكام عدن ليس إلا تمكيناً للاستعمار وتوطيداً لدعائمه في الجنوب، وهو يعد تأييداً وتجميعاً وقحاً ضد استقلال اليمن، فالإنجليز إنما يستهدفون مصالح انجليزية بحتة، وهو اتحاد تابع، كل السلطات في يد الحاكم الانجليزي العام، وتوقعت الصحيفة أن يرفض شيوخ وأمراء المنطقة المشروع، فإن قبلوا فإنما يكونون مرغمين لامختارين. لقد توخى البريطانيون تحقيق جملة أهداف من الاتحاد المقترح: أولاً: هم حريصون على وجودهم في المحميات، وفي عدن على وجه خاص لمواجهة أعباء والتزامات سياسية واستراتيجية على الصعيد العالمي، ولكي يحققوا هذا الهدف كان يجب عليهم أن يعدلوا من شكل وجودهم في المنطقة، بعد أن تأكد لهم فشل السياسات القديمة، وعدم ملاءمتها للظروف والمستجدات التي خلقها واقع جديد وذلك لن يتأتى لهم إلا بقيام كيان واحد في الجنوب. ثانياً: الحفاظ على ماتبقى من سلطة معنوية أو مدنية لحلفائهم في المنطقة، شيوخ وسلاطين وأمراء، وقد أدركت بريطانيا أن النظم القبلية القديمة الموجودة في المحميات قد تمثل خطراً على سياساتها ومصالحها ما لم تشرع بإجراء تحسينات عليها، مع الإبقاء على جوهرها لمواجهة الوعي الراديكالي المتزايد في المنطقة، وقد اختارت لذلك شكلاً سياسياً وأمنياً يحمي مصالحها، وعلى نحو خاص المصالح البترولية. ثالثاً: تطور الخلاف اليمني البريطاني بعد تصاعد حدة المصادمات على الحدود، وإمكانية نقل هذا الخلاف إلى الهيئات الدولية، فاليمن عضو في جامعة الدول العربية، وعضو في الأمم المتحدة، وقد قام باتصالات دبلوماسية لدى الأوساط الدولية للحصول على الدعم، وبعض هذه الأوساط قد تقف إلى جانب اليمن، كبلدان العالم الثالث والمعسكر الاشتراكي، وهو الأمر الذي يثير قلق الحكومة البريطانية، ويدفعها نحو الإسراع بإقامة كيان يوحد الإمارات المتناثرة ويمحو المظهر الاستعماري الصارخ للمنطقة، دون أن يشكل خطراً على مصالحها الاستراتيجية. رابعاً: كانت الحركة الوطنية في تصاعد مستمر، بحكم الظروف المتمثلة في حرب السويس ومشاركة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر عبدالناصر سنة 6591، وهو العدوان الذي ساعد على تشكيل إرهاصات قومية ناهضة على امتداد الساحة العربية. وقيام اتحاد يضم ولايات الجنوب يؤدي إلى الحد من الروح الوطنية المتنامية، وإقناع المطالبين بالاستقلال وتحذيرهم بأن المشروع المقترح يعتبر خطوة في سبيل جمع شمل هذه النواحي، تمهيداً لقيام دولة مستقلة في الشكل تابعة في الجوهر، والاتحاد صيغة ملائمة لتقييد حركة التحرير الوطني، وخاصة عند انضمام عدن إلى هذا الاتحاد. خامساً: مجابهة النفوذ الأمريكي المتزايد، وما يرمي إليه من توسع في شبه الجزيرة العربية، بالإضافة إلى أن قيام الاتحاد ينفي التهم الموجهة إلى السياسات الاستعمارية بالحرص على بقاء المناطق المستعمرة على ماهي عليه دون تنمية، بعيداً عن ركب الحضارة العالمية. ويبدو أن البريطانيين قد وجدوا في انضمام اليمن إلى اتحاد الدول العربية في مارس 8591 فرصة مواتية للضغط على شيوخ القبائل، للقبول جدياً بالمشروع في صيغته التي عرضها عليهم “هيكنيوتام” في عام 4591، متجاهلة ازدياد حدة المعارضة الوطنية للمشروع، وأعلن رسمياً عن قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي في 11فبراير 9591م. وفي البدء تشكل الاتحاد من ست إمارات هي إمارة الضالع وسلطنة الفضلي، وسلطنة العواذل، وإمارة بيحان، ومشيخة العوالق العليا، وسلطنة يافع السفلى، وأنشئ للاتحاد مجلس وزراء باسم المجلس الأعلى من ممثل واحد عن كل ولاية من الولايات الست، ومجلس تشريعي باسم المجلس الاتحادي من ستة ممثلين عن كل ولاية، وخلال العام نفسه أبرم الاتحاد الجديد معاهدة دفاع مشابهة للمعاهدات السابقة في مضمونها مع الحكومة البريطانية. وواجه الاتحاد رفضاً من معظم ولايات الجنوب، فعارضته سلطنة لحج أكبر سلطنات المحمية الغربية، وما كان للبريطانيين أن يسامحوا سلطانهم علي عبدالكريم على هذا الموقف فهاجمت قواتهم السلطنة، لإعادة ترتيب وضعها بما يحقق أهداف السياسة البريطانية، وقد تحقق لها ذلك، فأبعدت علي عبدالكريم، الذي كانت قد جاءت به خلفاً لأخيه فضل عبدالكريم في عام2591. وأرغمت السلطنة على الدخول في الاتحاد لاحقاً، وقد أثار ذلك الأوساط اليمنية لاعتقادها أن كلاً من علي عبدالكريم والجفري يستطيعان منع السلطنة من الانضمام إلى الاتحاد. وأحجمت حضرموت «المحميات الشرقية» عن الدخول في الاتحاد ويبدو أن ممانعة سلطنات حضرموت على القيام بخطوة كهذه كان يلقى موافقة الإنجليز، بالرغم من أن دخولها إلى الاتحاد كان من الممكن أن يدعم مشروع الاتحاد، ويخلق حالة من التوازن السياسي والاقتصادي للدولة القادمة، وكان ذلك الموقف البريطاني خطأ فادحاً وعارض الاتحاد شيوخ آخرون يختلفون في الأهمية والمكانة وبعضهم عارض، لأنه لم يجد له مكاناً يناسبه في قيادة الاتحاد. وعارضته رابطة أبناء الجنوب؛ لأنها رأت فيه عاملاً للتجزئة، لا للوحدة، وأن وجوده إنما يخدم مصالح الحكام، والإنجليز معاً، وقدمت رؤيتها لدولة مستقلة، تشمل الجنوب كله بما في ذلك حضرموت، وعدن، ووقفت الحركة العمالية النشطة حيناً موقفاً معارضاً للاتحاد واعتبرت القيادات العمالية الاتحاد الفيدرالي عملاً تآمرياً من جانب بريطانيا لمنع تحقيق وحدة اليمن، في نفس الوقت الذي هاجمت فكرة إبعاد عدن عن الاتحاد، وشنعت الحركة العمالية بموقف السلطان علي عبدالكريم ورابطة أبناء الجنوب من الاتحاد، على أساس ضلوع السلطان في التآمر مع البريطانيين واتهمت الرابطة بممالئته، كما رفض الاتحاد حركة القوميين العرب، واعتبرت قيامه محاولة بريطانية لمواجهة المد القومي التحرري في الوطن العربي، وخطوة من شأنها منع اتحاد الجنوب بالشمال مستقبلاً. وساندت جامعة الدول العربية موقف اليمن المعارض للاتحاد، ووصفته بأنه تعبير عن الاستعمار الجديد ومحاولة للالتفاف على قضية الجنوب، ودعا مجلس الجامعة سلاطين وأمراء ومشايخ المنطقة بأن لا يتورطوا فيما يخطط لهم من الارتباط بأية اتفاقية أو نظام يتنافى مع روحهم القومية، ويبعدهم عن الارتباط بإخوانهم العرب، وعارضت مصر والسعودية قيام الاتحاد، وأكدتا التزامهما بدعم القوى الوطنية في الجنوب، وهاجم راديو القاهرة الحكام المحليين في المحمية الذين وقعوا على اتفاقية قيام الاتحاد، واعتبرهم خائنين لبلادهم ووطنهم. وخلال الأربع سنوات التالية انضمت إلى الاتحاد كل من سلطنة لحج، ومشيخة العقارب، وسلطنة العوالق السفلى وولاية دثينة، كمل انضمت إلى الاتحاد سلطنة الواحدي الشرقية، بسبب شعور حكامها بوجود مطامع قعيطية في أراضيها، تتجاوز حدود الاتحاد، ففضلوا الانضمام إلى الاتحاد الفيدرالي للحصول على شيء من الحماية وفي 81ابريل 2691 أعلن رسمياً عن تغيير اسم الاتحاد، ليصبح اسمه ”اتحاد الجنوب العربي” تمهيداً لضم عدن إليه، والتي انضمت إليه في يناير من العام التالي. وفي البدء تشكل الاتحاد من ست إمارات هي إمارة الضالع وسلطنة الفضلي، وسلطنة العواذل، وإمارة بيحان، ومشيخة العوالق العليا، وسلطنة يافع السفلى، وأنشئ للاتحاد مجلس وزراء باسم المجلس الأعلى من ممثل واحد عن كل ولاية من الولايات الست، ومجلس تشريعي باسم المجلس الاتحادي من ستة ممثلين عن كل ولاية، وخلال العام نفسه أبرم الاتحاد الجديد معاهدة دفاع مشابهة للمعاهدات السابقة في مضمونها مع الحكومة البريطانية. وواجه الاتحاد رفضاً من معظم ولايات الجنوب، فعارضته سلطنة لحج أكبر سلطنات المحمية الغربية، وما كان للبريطانيين أن يسامحوا سلطانهم علي عبدالكريم على هذا الموقف فهاجمت قواتهم السلطنة، لإعادة ترتيب وضعها بما يحقق أهداف السياسة البريطانية، وقد تحقق لها ذلك، فأبعدت علي عبدالكريم، الذي كانت قد جاءت به خلفاً لأخيه فضل عبدالكريم في عام2591. وأرغمت السلطنة على الدخول في الاتحاد لاحقاً، وقد أثار ذلك الأوساط اليمنية لاعتقادها أن كلاً من علي عبدالكريم والجفري يستطيعان منع السلطنة من الانضمام إلى الاتحاد. وأحجمت حضرموت «المحميات الشرقية» عن الدخول في الاتحاد ويبدو أن ممانعة سلطنات حضرموت على القيام بخطوة كهذه كان يلقى موافقة الإنجليز، بالرغم من أن دخولها إلى الاتحاد كان من الممكن أن يدعم مشروع الاتحاد، ويخلق حالة من التوازن السياسي والاقتصادي للدولة القادمة، وكان ذلك الموقف البريطاني خطأ فادحاً وعارض الاتحاد شيوخ آخرون يختلفون في الأهمية والمكانة وبعضهم عارض، لأنه لم يجد له مكاناً يناسبه في قيادة الاتحاد. وعارضته رابطة أبناء الجنوب؛ لأنها رأت فيه عاملاً للتجزئة، لا للوحدة، وأن وجوده إنما يخدم مصالح الحكام، والإنجليز معاً، وقدمت رؤيتها لدولة مستقلة، تشمل الجنوب كله بما في ذلك حضرموت، وعدن، ووقفت الحركة العمالية النشطة حيناً موقفاً معارضاً للاتحاد واعتبرت القيادات العمالية الاتحاد الفيدرالي عملاً تآمرياً من جانب بريطانيا لمنع تحقيق وحدة اليمن، في نفس الوقت الذي هاجمت فكرة إبعاد عدن عن الاتحاد، وشنعت الحركة العمالية بموقف السلطان علي عبدالكريم ورابطة أبناء الجنوب من الاتحاد، على أساس ضلوع السلطان في التآمر مع البريطانيين واتهمت الرابطة بممالئته، كما رفض الاتحاد حركة القوميين العرب، واعتبرت قيامه محاولة بريطانية لمواجهة المد القومي التحرري في الوطن العربي، وخطوة من شأنها منع اتحاد الجنوب بالشمال مستقبلاً. وساندت جامعة الدول العربية موقف اليمن المعارض للاتحاد، ووصفته بأنه تعبير عن الاستعمار الجديد ومحاولة للالتفاف على قضية الجنوب، ودعا مجلس الجامعة سلاطين وأمراء ومشايخ المنطقة بأن لا يتورطوا فيما يخطط لهم من الارتباط بأية اتفاقية أو نظام يتنافى مع روحهم القومية، ويبعدهم عن الارتباط بإخوانهم العرب، وعارضت مصر والسعودية قيام الاتحاد، وأكدتا التزامهما بدعم القوى الوطنية في الجنوب، وهاجم راديو القاهرة الحكام المحليين في المحمية الذين وقعوا على اتفاقية قيام الاتحاد، واعتبرهم خائنين لبلادهم ووطنهم. وخلال الأربع سنوات التالية انضمت إلى الاتحاد كل من سلطنة لحج، ومشيخة العقارب، وسلطنة العوالق السفلى وولاية دثينة، كمل انضمت إلى الاتحاد سلطنة الواحدي الشرقية، بسبب شعور حكامها بوجود مطامع قعيطية في أراضيها، تتجاوز حدود الاتحاد، ففضلوا الانضمام إلى الاتحاد الفيدرالي للحصول على شيء من الحماية وفي 81ابريل 2691 أعلن رسمياً عن تغيير اسم الاتحاد، ليصبح اسمه ”اتحاد الجنوب العربي” تمهيداً لضم عدن إليه، والتي انضمت إليه في يناير من العام التالي. وكانت اليمن قد حذرت قبل ذلك من استمرار المخططات البريطانية لتغيير واقع الجنوب، وأدانت على وجه الخصوص المؤتمرات الدستورية، واعتبرت هذه المؤتمرات تجرى بين أشخاص ليس لهم الصفة القانونية، أو الحق الشرعي الذي يخول لهم البت في مصير المنطقة، ورأت أن إصرار بريطانيا على تدعيم خطواتها الرامية إلى تحقيق التقسيم لجزئي اليمن شماله وجنوبه يتنافى وتعهدات الحكومة البريطانية في معاهدة 4391م، وأن الوضع الطبيعي لهذه المنطقة هو أنها تشكل جزءاً لا يتجزأ من اليمن، وأن حكومة صاحب الجلالة الإمام أحمد تؤكد ما أعلنته في بدء هذه المؤتمرات من أنها متماسكة بكامل حقوقها في المنطقة المسماة عدن والمحميات، وأنها لاتستطيع أمام التزاماتها الوطنية والحقوقية أن تتخلى عن هذه المنطقة بأي حال من الأحوال. لقد كان أسوأ في مافي الاتحاد اتفاقية الصداقة التي وقعها قادة الاتحاد مع السلطات البريطانية، ففي هذه المعاهدة أعطى الدفاع والتمثيل الخارجي للسلطات البريطانية، واعتبرت نصائح الحكومة البريطانية ملزمة للاتحاد. وهذه نصوص ليست شبيهة بما كانت عليه اتفاقيات الحماية ولكنها أكثر سوءاً.. ووضع الجيش وقوات الشرطة تحت مسئولية الحاكم العام البريطاني، الذي أصبح اسمه من الآن فصاعداً “المندوب السامي” كما منع الاتحاد من الاتصال بالخارج دون موافقة الحكومة البريطانية، كما أباحت الاتفاقية أراضي الاتحاد لقواتها، ومنحها حق الحركة فيها بحرية تامة، في المقابل نصت المعاهدة على أن الاتحاد يمكنه ممارسة الحكم في مجالات التعليم والصحة والمواصلات والجمارك والبريد. لقد كان التركيز في هذه المعاهدة على المسائل الأمنية واضحاً، وهو الأمر الذي أحرج قادة الاتحاد، وكشف عمق ارتباطهم بالبريطانيين، وانصياعهم لرغبات الحكومة البريطانية، وظهر الاتحاد وكأنه مخلوق ناقص مشوه، فهو ليس بدولة مستقلة ذات سيادة ولا بمحمية تقليدية. وكان محتوماً على هذه الصيغة أن تنهار أمام مطالب الحركة الوطنية في الاستقلال الناجز. وكرد فعل على السياسات البريطانية، شهدت المنطقة وعدن على وجه الخصوص نشاطاً ملحوظاً للحركة العمالية والشعبية بصفة عامة، واشتركت في المقاومة، والاضطرابات والمظاهرات مختلف الفئات الاجتماعية، وفي هذه المرحلة اقتربت الحركة العمالية في مواقفها من الفكر القومي، وبدا واضحاً تأثير ثورة يوليو وزعامة عبدالناصر على سلوك السكان، كما عمت مناطق المحميتين الغربية والشرقية انتفاضات قبلية متواصلة، وساهمت المدن الأخرى في حركة المقاومة وكذلك الحركة الطلابية، وعادت الطائرات البريطانية تصب جام غضبها على المقاومين في عدن والمحميات، حيث تطور الموقف إلى مايشبه الثورة، وفي المكلا أغلقت المدارس والأندية. وندد اليمن مجدداً بالممارسات القمعية للسلطات البريطانية، وأشاد بحالة النهوض الوطني في الجنوب، وللتقليل من أهمية ما يحدث نشرت بريطانيا أقاويل عن الوضع في عدن وبقية المحميات الشرقية، واتهمت جهات أجنبية بتسريب أسلحة إلى ابناء الجنوب لإقلاق الأمن، وزعزعة الاستقرار الداخلي للمحمية. لقد دفعت حالة العصيان في المناطق الجنوبية السلطات البريطانية إلى زيادة وجودها العسكري في عدن، وقام قائد العام لسلاح البحرية الملكية البريطانية بزيارة المنطقة للاطلاع على مايجرى. كما قام الحاكم العام في عدن السير ”وليم لوس” بزيارة صنعاء في محاولة لتهدئة الموقف، ولكن محادثاته لم تحقق نتائج تذكر. كما أنه لم يعد بالإمكان تهدئة الأمور في صنعاء أو تعز، فظهور الحركة القومية، والأحزاب متعددة الانتماء نقل مراكز القيادة تدريجياً إلى عدن. 2 العلاقات اليمنية الأمريكية: يمكن العودة بالعلاقات اليمنية الأمريكية إلى عام 6971 عندما رست السفينة «ريكافاري» في ميناء المخا بحثاً عن البن اليمني المشهور والمطلوب في الأسواق الأوروبية والأمريكية، بعد ذلك أصبح ميناء المخا مركزاً لتجارة أمريكية رائجة مع اليمن حصل خلالها الأمريكيون على إذن برفع العلم الأمريكي على المنزل الذي استأجروه لكن التجار الأمريكيين لم يكونوا محبوبين من التجار الانجليز في الميناء، لأن الأمريكان كانوا يدفعون أسعاراً أعلى للبن فيفسدون على الانجليز تجارتهم، وإن كان الأمر مختلفاً بالنسبة لسكان المدينة، وتجار البن المحليين وعلى أي حال فإن المركز التجاري الأمريكي كان الأول من نوعه في اليمن والجزيرة العربية وقد كان سبباً في تنامي العلاقات الاقتصادية بين اليمن والولايات المتحدة الأمريكية، والتجارية على وجه التحديد، إذ اتسعت دائرة التبادل لتشمل إلى جانب البن الجلود والصمغ وبعض منتجات زراعية أخرى، وبعد ذلك أصبحت ظاهرة السفن التجارية الأمريكية في اليمن في مطلع القرن التاسع عشر من الظواهر الاعتيادية، حينها كانت المخا تعيش فترة من فترات ازدهارها الاقتصادي كميناء هام على ساحل البحر الأحمر الشرقي. وبعد الحرب العالمية الأولى كان من الطبيعي أن تهتم دولة عظمى كالولايات المتحدة ببلد صغير كاليمن، بسبب موقعه الاستراتيجي الهام، وأسواقه التجارية، إلا أن ذلك لم يحصل وقد بدأت الاتصالات بين حكومة اليمن المستقلة وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عام 9191عندما أرسل الإمام يحيى كتاباً إلى رئيس الولايات المتحدة «توماس ودرو ولسون» يطلب منه الاعتراف بحقوق الإمامة في اليمن وباستقلال العرب فرد الرئيس الأمريكي بأن الولايات المتحدة لاتقيم علاقات ولاتعترف بدول قامت في أراضي الدولة العثمانية، وذلك مراعاة لحليفتها بريطانيا التي كانت تعتقد أنه يمكنها بسط نفوذها على هذه المناطق، والحلول محل العثمانيين. لقد أعقب ذلك قيام الثري الأمريكي «تشارلز كراين» بزيارة اليمن، وأقام مع الإمام يحيى علاقات صداقة متينة، أطلع «كراين» الإمام على الإمكانات المعدنية الكبيرة في اليمن، وعلى وجوب تحسين الزراعة والمواصلات في البلاد، وتبرع كراين بإرسال الخبير الأمريكي «كارل توتشل» للقيام بالبحوث اللازمة فزار الأخير اليمن ست مرات في الفترة من 7291 2391 بصحبة معاونيه، وأهدى للإمام جسراً حديدياً فوق وادي «لعا» كهدية من «كراين» لمنع السيول من قطع الطريق بين صنعاء والحديدة وكذلك بعض الآلات، وكان من بين اقتراحات الخبير الأمريكي استثمار ملح الصليب الصخري، لكن حذر الإمام وخوفه من الأجانب عطل مسيرة العلاقات الأمريكية اليمنية من النمو. وعندما اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية تراجعت الاتصالات الرسمية بين اليمن والولايات المتحدة الأمريكية ربما بسبب انشغال الأخيرة بأحداث ومجريات الحرب، أو لأن الإمام الذي التزم الحياد في الحرب أراد تأكيد حياديته بأن خفف من اتصالاته بالأمريكان وقد أصبحوا طرفاً مهماً في هذه الحرب، لكنه في عام 4491 عام نهاية الحرب اعترض على قيام الولايات المتحدة بتقديم الدعم للعصابات الصهيونية في فلسطين. وفي نفس الوقت قدم طلب المساعدة فيما يتعلق بالخلاف مع بريطانيا حول عدن والمحميات فتشاورت واشنطن مع لندن، فوجدت أن الحكومة البريطانية ليس لديها مايمنع من قيام علاقات بين أمريكا واليمن، وذلك ماكانت تسعى إليه أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية حيث تغيرت موازين القوى، وظهرت لأمريكا مصالح مهمة في الجزيرة العربية. وفي ابريل 5491رحب الأمير أحمد ولي العهد، بطلب القنصل الأمريكي لزيارة اليمن وإجراء محادثات حول العلاقات المستقبلية بين البلدين وفي مارس من العام التالي كان الكولونيل «وليم أدي» في صنعاء حاملاً معه اعتراف الولايات المتحدة بنظام حكم الإمام يحيى وباستقلال اليمن، وجرت بين الطرفين محادثات صعبة ترأسها عن اليمن محمد راغب بك، ثم استبدل بالأمير الحسن، ثم الأمير المطهر، ومن الجانب الأمريكي الكولونيل وليم أدي، ثم وقع الطرفان اليمني والأمريكي في 11 مايو 6491 على معاهدة صداقة وتجارة، كانت الأساس الذي بنيت عليه العلاقات اليمنية الأمريكية فيما بعد.. وعلى إثر توقيع الاتفاقية وفي 42 منه، منحت الولايات المتحدة الأمريكية الإمام يحيى قرضاً بمليون دولار لشراء معدات حربية. لقد جاءت زيارة الأمير عبدالله بن يحيى في يوليو من العام 7491 إلى الولايات المتحدة الأمريكية كرد على زيارة الوفد الأمريكي إلى اليمن، حيث قابل الأمير خلالها الرئيس الأمريكي «ترومان» وأجرى محادثات مع عدد من رجال الصناعة الأمريكية هناك، وكان من بين أهداف الزيارة جس نبض الولايات المتحدة في إمكانية الحصول على السلاح وعلى قرض جديد آخر. لقد استقبل الأمير عبدالله عند عودته إلى اليمن استقبالاً كبيراً، واحتفت به المعارضة لأنها اعتبرت زيارته بادرة أمل جديدة في خروج اليمن من عزلتها وأشاد الخطباء والشعراء بشخصية الأمير عبدالله وذلك خلافاً لما ذكره «الوزير» الذي روى أن المعارضة قد عارضت الزيارة واستنكرت إقامة صلات مع أمريكا الملحدة. والواقع أن ماتحدث عنه الوزير كان بأم عينه الموقف المعلن للمعارضة المحافظة التي تقع على يمين الإمام يحيى في محافظته وعزلته. وكان الولايات المتحدة قد راقبت أحداث اليمن في 8491 وحاول قنصلها في عدن الاطلاع على مايجرى في صنعاء، بعد انقلاب الوزير، بالاتصال بالأمير ابراهيم بن يحيى زعيم حركة الأحرار حينها، وذلك قبل أن يغادر هذا الأخير عدن إلى صنعاء ليلقى حتفه هناك، على يد أخيه الإمام أحمد الذي تغلب على الحركة، وكان الأمير قد سأل القنصل عن إمكانية اعتراف الولايات المتحدة بالحكومة الدستورية الجديدة، فأجاب القنصل: بأنه لايعرف شيئاً عن ذلك، ولكنه أضاف بأن الحكومة الأمريكية سوف تكون على استعداد للتعاون إلى الحد الممكن مع أية حكومة معترف بها، وأكد الأمير للقنصل في هذا اللقاء، أن من الطبيعي أن توجد مشاكل جديدة في اليمن، لكنه يشعر أن البلاد مستعدة لأن تتقدم، وستحتاج إلى المساعدة من الخارج، وخاصة في مجال التعليم والمواصلات.وفي ابريل 8491أرسل الرئيس الأمريكي «ترومان» رسالة إلى الإمام أحمد مطالباً إياه بالتقيد بالالتزامات الدولية، التي كان والده قد ارتبط بها إلا أن الإمام أحمد رفض ذلك، واعتبره شرطاً سابقاً للاعتراف به ملكاً وحاكماً لليمن، لكن الصلات بين اليمن وامريكا مالبثت أن تجددت، وقام ممثل اليمن لدى الأمم المتحدة حسن ابراهيم في يونيو 9491بإجراء مباحثات مع مسئولين في الخارجية الأمريكية، موضحاً الظروف التي اعتلى فيها الإمام أحمد العرش، فوعد هؤلاء بالاعتراف قريباً بالنظام الجديد، وفي 41 فبراير 0591 اعترفت الولايات المتحدة بالإمام أحمد. ومنذ ذلك الحين أظهرت الولايات المتحدة اهتماماً متزايداً باليمن، وكانت شركة النفط الأمريكية «ارامكو» قد حصلت عام 0591 على عقد لإجراء دراسات استكشافية على النفط وغيره من المعادن الأخرى في اليمن، ويبدو أن ذلك كان جزءاً من صفقة تمت بين الإمام أحمد وبين الأمريكيين فالإمام كان يرغب في الحصول على اعتراف امريكي به حاكماً لليمن لمعرفته بأهمية هذا الاعتراف من دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، في المقابل كانت الولايات تبحث عن طريقة تدخل بواسطتها إلى اليمن، ونسارع بالقول بأن تلك مجرد افتراضات سوف نرى إن كان في الإمكان إثباتها أو نفيها في سياق البحث. وبقيت العلاقات ودية وعادية بين البلدين، حتى ظهرت مشكلة البعثة الأمريكية للبحث عن الآثار والنفط، والتي بدأت أعمالها الاستكشافية في بيحان من المحمية الغربية التابعة لعدن، وكانت البعثة قد سلكت طريقاً خلفياً عبر حضرموت، لقد استعان رئيس البعثة «ونيدل فليبس» بالأموال والإمكانات اللازمة التي تشير إلى مهمته المزدوجة الآثارية النفطية، كانت لديه طائرة خاصة وسيارات لنقل المعدات، وآلات التصوير، والمؤن والثلاجات ووحدات الإنارة الكهربائية، وأجهزة الراديو، والأدوية، والوقود والآلات الكاتبة، بالإضافة إلى البنادق والذخائر وضمت البعثة خمسة عشر عالماً وفنياً وعشرة مساعدين جميعهم من الأمريكان، ومن عدن وحضرموت أخذت البعثة تستقطب أعداداً جديدة من العاملين في المنطقة. وخلافاً لما ذكره بعض المؤرخين حول عدم ارتياح الانجليز من وجود بعثة أمريكية في منطقة نفوذ بريطانية وكان ذلك محتملاً بسبب صراع المصالح بين الدول الكبرى إلا أن الواقع كان خلاف ذلك، فقد اعترف «فليبس» بالقدر الكبير من المساعدة التي لقيها من الانجليز منذ أن وصل عدن فالمكلا، وحتى بدأ أولى حفرياته في محمية بيحان الغربية التابعة لمستعمرة عدن، وذكر أن هذه المساعدة كانت مهمة وحاسمة في نجاح مهمته في بيحان، وفي مأرب لاحقاً وهو مايوحي بوجود اتفاق ضمني كان قد تم إبرامه بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا نظراً لحساسية المنطقة التي من المفترض القيام بالأعمال الاستكشافية فيها، وهي منطقة نزاع يمني بريطاني حينها فالأمريكيون طرفً ثالث، ووجودهم في المنطقة ربما لايثير حساسية الإمام أو يثير لديه حساسية أقل. لقد صمت الإمام على نشاط البعثة حتى أشيع في عدن أن البعثة قد اكتشفت المعبد المخصص لإله القمر «معبد الملكة بلقيس» فقامت قوات الإمام بمهاجمة البعثة، ولكن أفرادها نجوا وفروا إلى عدن، فاضطر رئيس البعثة إلى التفاوض مع الإمام وسافر إلى تعز وهناك التقى بالمسئولين اليمنيين وكذلك بالإمام أحمد وصاغ معهم اتفاقية كلف الإمام ابنه محمد البدر بالتوقيع عليها، وكانت أول اتفاقية يمنية تمنح في مجال الآثار في منطقة تعتبر من أهم المناطق الأثرية في العالم، وهذه الاتفاقية حلت الإشكالات التي كانت قائمة آنذاك بين الحكومة اليمنية والبعثة، كمسألة تبادل النقد، وإدخال المعدات والتموينات وحرية الحركة والضرائب واستخدام مطار مأرب، وأخيراً مسائل تقاسم المستكشفات الأثرية التي يعثر عليها، وهذا البند الأخير هو أكثر بنود الاتفاقية سوءاً. وكانت اليمن قد طلبت من الولايات المتحدة الأمريكية إجراء دراسات لتطوير الميناء، وسدين للري في منطقة تهامة، وتصميماً لمصنع لحفظ الأسماك، بالإضافة إلى ذلك عرضت اليمن على الولايات المتحدة تطوير «ملاحة الصليف» التي تبعد 06 كيلو متراً شمال الحديدة عجزت الشركة المحلية عن إدارته. وقد أقيمت العلاقات اليمنية الأمريكية الدبلوماسية وأصبح هناك تمثيل للطرفين في عاصمتي البلدين في عام 1591 أي نفس الفترة التي أقيمت فيها العلاقات اليمنية البريطانية وكان أول قنصل امريكي يعين في البعثة هو القنصل «سير خيز» ومقر قنصليته تعز واعتمد سفير أمريكا في جدة سفيراً غير مقيم للولايات المتحدة لدى اليمن، فيما عينت اليمن القاضي محمد العمري قنصلاً في العاصمة الأمريكية. وحاولت اليمن الاستفادة من مشروع المعونات الاقتصادية المعروف «بالنقطة الرابعة» وكانت الحكومة الأمريكية «حكومة ترومان» قد ابتدعت المشروع كوسيلة من وسائل التغلغل في الشرق الأوسط وبالتحديد مناطق البترول وقد عد هذا المشروع عنصراً هاماً من عناصر السياسية الأمريكية، إن لم يكن أهمها، وقد أنيطت مهمة الإشراف عليه إلى «إدارة التعاقد الفني» بوزارة الخارجية الأمريكية حيث تتركز في هذه الإدارة كل المعونات الخاصة بالمشروع «البرنامج» وعادة فإن مشروع النقطة الرابعة يتضمن استقدام خبراء تطلبهم الحكومة المعنية، ومعظم هؤلاء الخبراء إن لم يكن كلهم من تم تأهيلهم للقيام بمهمات مختلفة، كما يقوم المشروع بإرسال البعوث إلى الخارج للدراسة والتدريب الفني، وقد عرضت الحكومة الأمريكية على اليمن المساعدة عبر هذا البرنامج. وكان السيف عبدالله، وزير خارجية اليمن، قد عبر عن رفضه للعرض الأمريكي، والشروط المصاحبة للعرض، وكان مندهشاً من حجم المساعدة المالية الإجمالية المعروضة على الدول العربية التي يبلغ عدد سكانها 05 مليون نسمة وقتئذ «2591» فيما تعرض على إسرائيل وسكانها لايتجاوزون الثلاثة ملايين نسمة المبلغ ذاته، ورأى أن ماخصص لليمن كان مبلغاً تافهاً جداً بحسب تعبير الأمير وهو على وجه التحديد 52 ألف دولار.. مع العلم أن الأمريكان يدركون حجم سكان اليمن البالغ وقتئذ نحو خمسة ملايين نسمة، وأنها بلاد بكر، وأوجه الإنفاق عليها من أجل التقدم والإصلاح كثيرة ومتعددة لذلك دعا إلى الاعتماد على المعونات التي تقدمها الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة فهي في رأيه أجدى وأنفع وكان أكثر مايزعج اليمن أن الأمريكان يشترطون للحصول على هذه المساعدة الضئيلة الانقياد لهم في السياسة الخارجية. ومع ذلك فإن العلاقات اليمنية الأمريكية استمرت طبيعية، ولكنها بقيت على المستوى الذي هي عليه، وكانت اليمن تعتقد أن عزوف الأمريكان يشترطون للحصول على هذه المساعدة الضئيلة الانقياد لهم في السياسة الخارجية. ومع ذلك فإن العلاقات اليمنية الأمريكية استمرت طبيعية، ولكنها بقيت على المستوى الذي هي عليه، وكانت اليمن تعتقد أن عزوف الأمريكان عن إقامة علاقات أكثر تطوراً معها يعود إلى حلفائهم البريطانيين والذين أرادوا استخدام كل الوسائل للضغط على اليمن.. وإجبارها على تقديم تنازلات تتعلق بعدن والمحميات. ولم تشهد السنوات اللاحقة 3591 5591سوى بعض الزيارات التي كان يقوم بها بعض المسئولين الأمريكيين إلى اليمن وفي مارس 5591وعند حدوث الانقلاب العسكري ضد الإمام أحمد شعر الإمام بأن الأمريكان كانوا على علاقة بما حدث وربما كانوا وراء موقف الأمير عبدالله الذي انضم إلى صفوف الانقلابيين وفي هذا الانقلاب خسرت أمريكا صديقين لها من أفراد الأسرة المالكة هما عبدالله والعباس حيث أطاح الإمام برأسيهما، ولم تشفع لهما الأخوة. وفي أكتوبر 5591 قام سفير الولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية، السفير غير المقيم في اليمن بزيارة اليمن التقى خلالها بالإمام وولي عهده الأمير البدر، وبعد محادثات صريحة حول السياسة الخارجية لليمن والمشكلات الاقتصادية قرر الإمام منح امتياز كلي لشركة امريكية «نفط ومعادن» وفي اللقاء مع البدر اقترح أن يقوم الأمريكان بتنفيذ مشروع ميناء الحديدة، وكهرباء صنعاء، والطريق الثلاثي «صنعاء الحديدة تعز» لكن الأمريكيين تجاهلوا المطالب اليمنية واعترف السفير الأمريكي بأن الطريقة التي يتعامل بها البريطانيون مع القبائل المتمردة في الجنوب، والتي عادة ماتلجأ للإمام أحمد لطلب المساعدة، هذه الطريقة كانت وحشية وهمجية. ويشمل الاتفاق النفطي الجديد مع الشركة الأمريكية مساحة قدرها 000،04 ميل مربع أي مايعادل ثلثي مساحة اليمن، وقد نص العقد على تقسيم صافي الأرباح مناصفة بين الشركة والحكومة اليمنية، على أن تتحمل الشركة الأعباء الناتجة عن عمليات البحث والاستكشاف والتنقيب ونص العقد على أن اليمن لاتتحمل تبعات أي شكل من أشكال الفشل.. ومدة العقد ثلاثون عاماً ولكنه يصبح لاغياً إذا لم تسفر الأبحاث وعمليات الاستكشاف في ظروف ستة أعوام عن وجود كميات تجارية من البترول والمعادن. لقد أهملت الشركة الأمريكية تنفيذ عقد الاستكشاف بقصد وأدركت اليمن أن الشركة تقوم بالمماطلة فتقدمت بشكوى إلى الحكومة الأمريكية، التي أجابت بأنها قد أبلغت الشركة ضرورة الإسراع بتنفيذ ماتم الاتفاق عليه من مشروعات بحثية واستكشافية، وأن الشهور القليلة القادمة ستدون فصلاً آخر في تاريخ العلاقات الودية بين الحكومتين، ولم تكن الإدارة الأمريكية صادقة في وعدها حيث أعلنت في نفس الوقت عن استعدادها لتعاون الطيران الأمريكي مع الطيران السعودي لتقديم المساعدة لليمن، وأيضاً لم تكن صادقة حتى لو كانت هذه المساعدة لأغراض مدنية وأخيراً نبهت الحكومة الأمريكية الحكومة اليمنية إلى المخاطر المحتملة من التغلغل الشيوعي في المنطقة العربية وفي اليمن وكان ذلك مربط الفرس في هذه المراسلات. ومع نهاية عام 6591 كانت اليمن قد استقبلت الشحنات الأولى من الأسلحة السوفيتية وكان يرافق هذه الأسلحة بعض الخبراء للتدريب على استخدامها وراقب الأمريكيون الموقف باهتمام كبير وفي تقديرهم أن سعي اليمن للحصول على السلاح السوفيتي كان مبعثه أنها تحاول تطوير قدراتها الهجومية، إلا أنهم شككوا في الفوائد النهائية لهذه العملية بسبب غياب الطيران في هذه الصفقة اليمنية السوفيتية وربما رأت اليمن في حصول مصر على السلاح السوفيتي مثالاً يحتذى به، وليس مستبعداً أنها تصورت أن مصر بعد صفقة الأسلحة التشيكية قد غدت دولة عربية كبرى، إلا أنه من المؤكد أن اليمن تحاول الاستفادة من الصراع الشرقي الغربي في المنطقة، كما أنهم اعتبروا هذا التطور في اليمن دليلاً على نجاح السياسات السوفيتية وأن هذه السياسة تحقق مكاسب في المنطقة وأن كل ذلك يتم على حساب الغرب. والواقع أنه وحتى قبل دخول الاتحاد السوفيتي إلى المنطقة بهذه القوة، فإن الأمريكيين قد تعاملوا بحذر شديد مع نظام الإمام أحمد، واعتقد البعض أن الإمام أحمد بما يمثله من قيم قروسطية وكحاكم مطلق، كان عقبة في طريق العلاقات اليمنية الأمريكية، وتأجلت المساعدات الأمريكية لليمن أكثر من مرة لهذا السبب، أما اليمن من ناحيتها فقد رأت أن الأمريكيين واقعون تحت تأثير حلفائهم البريطانيين، وأن دعوتهم لليمن وبريطانيا بتسوية نزاع الحدود لاتتسم بالجدية، إضافة إلى مافيها من غموض. وأعلن في يناير 7591 عن مبدأ جديد في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، عرف بمبدأ «ايزنهاور» كان الهدف منه ملء الفراغ الذي خلفته بريطانيا في الشرق الأوسط، حيث طلب الرئيس الأمريكي من الكونجرس منحه من السلطات مايخول له التدخل في أية دولة، واستخدام القوة طالما كانت في حدود ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات والمواثيق الدولية، ووافق الكونجرس على منحه الحق في تقديم مائتي مليون دولار للدول التي تتعاون مع الإدارة الأمريكية. وكان رد الاتحاد السوفيتي والصين والهند، ودول أخرى هو الرفض وأعلنت هذه الدول أن دول الشرق الأوسط كفيلة بملء الفراغ فيه، وهاجمت السياسة الأمريكية الجديدة لأنها كما رأت هذه الدول تؤدي إلى زيادة حدة التوتر في المنطقة بدلاً من خفضها، وقد لوحظ أن القيادة المصرية قد تروت في اتخاذ موقف علني من هذا المشروع وإن كان عبدالناصر قد أعلن أكثر من مرة أن الخطر على الاستقرار والأمن في المنطقة إنما مصدره إسرائيل وليس الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية كما يعتقد الأمريكيون. وفي ضوء مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، وصل إلى اليمن في 11 ابريل 7591السفير «جيمس رتشارد» المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي على رأس وفد رفيع المستوى التقى بالبدر في 51 ابريل وبحضور وزراء الداخلية والمالية والعدل وفي اللقاء كرر البدر الحديث عن الموقف من الجنوب، والاعتداءات البريطانية على الحدود اليمنية، ثم تحدث بعد ذلك عن سعي اليمن إلى الدعم مهما كان مصدره لصد هذه الاعتداءات في إشارة إلى الاتحاد السوفيتي وابلغ البدر البعثة الأمريكية شكره للرئيس الأمريكي، لكنه قال إن أمريكا تقف بعيداً عن اليمن في الوقت الذي تقدم فيه المساعدة للآخرين، وأبلغ البدر الأمريكان أيضاً بأن العلاقات اليمنية السوفيتية لن تتجاوز حدود العلاقات الاعتيادية، وأنه ذهب إلى هناك لتجديد صداقة قديمة كانت قائمة بين اليمن والاتحاد السوفيتي، وأن اليمن لاتقف إلى جانب السوفييت فيما يتعلق برؤيتهم الشيوعية، فاليمن دولة مسلمة، ولايمكنها القبول بالمبادئ الشيوعية، وأن ماجرى بيننا وبين السوفييت كما قال البدر لايتجاوز حدود العلاقات الطبيعية بين بلدين صديقين، لان اليمن تريد كسب السوفييت إلى صفها في صراعها الطويل مع البريطانيين، أو على الأقل تحييدهم، وكذا محاولة بناء قواتنا العسكرية لأغراض الدفاع والحماية. كانت توضيحات البدر إلى الوفد الأمريكي واحدة من أهداف الزيارة، فالأمريكان كانوا يريدون أن يعرفوا إلى أي مدى ستذهب اليمن في علاقاتها مع السوفييت، بعد أن حصلت منهم على الأسلحة، وهاهو البدر يحاول أن يرسم لهم حدود هذه العلاقة ويبلغهم بوضوح الهدف منها، والمدى الذي من المفترض أن تذهب إليه، وكان ذلك يوحي للأمريكان بشيء من التأمل المشوب بالقلق، إلا أن البدر أثار قضايا أخرى من هذا اللقاء، وسأل عن أسباب تأخير عمل الشركة الأمريكية للتنقيب عن النفط والمعادن، وهي شكوى كان اليمن قد أثارها في العالم الماضي، وهل لهذا التأخير علاقة بزيارته الأخيرة إلى الاتحاد السوفيتي، ورد الأمريكان أن ذلك لم يكن السبب، والمشكلة فقط أن هذه الشركة خاصة، وهي تعمل كما تقتضيه مصلحتها المادية. وبعد يومين من المفاوضات وصلت المحادثات بين الطرفين إلى طريق مسدود، فالعرض الأمريكي بتقديم مليونين وخمسين ألف دولار أمريكي ضمن برنامج المساعدات الاقتصادية الأمريكية كان مرفوضاً من اليمن، فقد عقدت الحكومة اليمنية آمالاً على أن يتكفل الجانب الأمريكي بتكاليف إنشاء وشق طريق الحديدة تعز صنعاء، والقيام بتمويل تحديث مطار صنعاء إلا أن الجانب الأمريكي كان حذراً، وكانت صلاحياته في الموافقة على أية التزامات اقترحها اليمنيون محدودة أيضاً، وكان يمكن الاتفاق على صيغ معينة تبقي الباب مفتوحاً لمفاوضات أخرى تجرى في وقت لاحق، إلا أن لقاء الإمام في اليوم التالي قد حسم هذا النقاش. لقد كانت مقابلة الإمام للوفد كما وصفت «مؤثرة» فالإمام أعلن عن إعجابه بالرئيس ايزنهاور، واستحسن المنهج الأمريكي، وقال: إن الشعوب العربية تكره الشيوعية، وإن البعض لم يقم بتجربتها إلا في غياب غيرها، وإنه يأمل أن لاتجبر اليمن على فعل الشيء ذاته، ثم أبلغ الوفد الأمريكي أن المساعدة الاقتصادية غير كافية، إلا إذا كانت لأغراض البحث، وليس للقيام بتنفيذ مشروعات في بلد كاليمن يحتاج إلى كل شيء وبعد أن عرض عليه الوفد المبادئ السياسية للولايات المتحدة، طلب الإمام من الوفد مهلة ليتشاور مع حلفائه في مصر وسوريا وعما إذا كان من المناسب اتخاذ موقف جديد، ثم قام الملك فجأة من مقعده قائلاً: واحد في المائة فقط من 002 مليون دولار قدمت إلى اليمن، كيف يمكنني إعلان ذلك، هذا يضر بمكانتي، إذ يجب علي أن أخجل من شعب اليمن، ولذا فمن الأفضل ترك كل شيء مكانه، كما لو أن شيئاً لم يحدث، لندفن هذا الأمر ونغطيه بالرمال، وعندما انتهى من تصريحه غادر الديوان سريعاً، دون أن يودع الوفد، وأصيب الوفد بالدهشة، وحاول المفاوضون اليمنيون تقديم صيغة أخرى للبيان الختامي تتضمن وعوداً بالقيام بمشاريع محددة، دون الحاجة إلى ذكر حجم المساعدات الاقتصادية، إلا أن الوفد الأمريكي رفض الاقتراحات؛ لأنها توحي بتعهدات قد لاتتحقق، والحقيقة في هذه المباحثات أن اليمن رفض التوقيع على مشروع ايزنهاور، لكنه رفضه لأسبابه الخاصة، وكان رفض الإمام للتوجهات السياسية الأمريكية الجديدة محل ترحيب عربي، حتى وإن لم يفصح عن نفسه مباشرة. وفي الوثائق الأمريكية التي نشرت هناك تقدير للحالة في اليمن، فقد تكونت لدى الوفد الأمريكي قناعة بأن اليمن دولة بدائية مدهشة، ويبدو وكأن الناس يعيشون العصور «التوراتية» كما أن الطبقة الحاكمة لها عقلية العصور الوسطى، مع وجود رجال ذوي خبرة «كالعمري» ولكنها حالات استثنائية، والإمام ليس حاكماً مطلقاً، ولكنه أيضاً لايمنح أحداً سلطة، وأن اليمنيين يشعرون بالقلق بسبب «مايطلقون عليه» بالعدوان البريطاني، وهم يجدون هذا الخطر أشد من الخطر الشيوعي، وتشير الوثائق إلى أن لهم رجلاً في البلاط الملكي قريب على جميع المسئولين، وعلى الملك ذاته، كان يمدهم بالمعلومات، ولم يذكروا اسمه، إلا أن بعض الوثائق تشير إلى اسم عدنان ترسيسي اللبناني الأصل، والقائم بأعمال المفوضية اليمنية في لبنان، وهذه مجرد افتراضات ليس هناك مايدعم صحتها. ومن الغريب أن اليمن كانت قد سمحت في هذه الفترة لصحفي أمريكي يدعى «بروس ذي بوريون كونديه» بحرية الحركة في اليمن، يقول هذا الصحفي الأمريكي عن نفسه إنه من أصل اسباني مكسيكي، وإنه لذلك يعتبر نفسه شرقياً أكثر منه أمريكياً، وهو يتحدث العربية بصعوبة، وقد أبدى نشاطاً كبيراً للتقرب من الإمام والمسئولين اليمنيين، وفي نفس الوقت كان على اتصال بالمفوضية الأمريكية والبريطانية، وكان حلقة الوصل بين السفير «ريتشارد» وبعض المسئولين اليمنيين، وفي فترة من الفترات وبهدف إخراج برامج إذاعية لإذاعة صنعاء، وربما نشرات مكتوبة باللغتين العربية والانجليزية وضعت اليمن تحت تصرفه طائرة وسيارات لاستخدامها في إنجاز عمله، وكانت علاقته بعدنان ترسيسي وطيدة، وحتى عندما طردته اليمن فيما بعد توسط له ترسيسي عند الإمام، مستغلاً ثقة الإمام به، فوافق الإمام على عودته إلى اليمن. كانت محاولة السفير «جيمس ريتشارد» هي المحاولة الأكثر جدية في مجال تعزيز جهود الإدارة الأمريكية لإقامة علاقات وطيدة مع اليمن، بالرغم من فشلها، فالسفير الأمريكي لم يحاول الكذب كعادة البعثات الأخرى، وهو لم يقدم وعوداً لايعرف إن كانت الحكومة الأمريكية سوف تقبل بها أم لا، لقد تركت هذه الزيارة انطباعاً سيئاً لدى الإمام عن الأمريكيين، ولكنها تركت في الوقت نفسه الباب مفتوحاً لاحتمالات المستقبل. وكان رفض الإمام على مايبدو قد قام على تقدير دقيق للوضع، إذا صرفنا النظر عن حجم المعونة الاقتصادية، إذ إن قبول مشروع ايزنهاور كان يعني في النهاية خسارة الاتحاد السوفيتي الذي أعلن قادته أكثر من مرة وقوفهم إلى جانب اليمن ضد الاعتداءات البريطانية، وأعلنوا مساندتهم لليمن إذا ما تعرض لعدوان جديد، وكذلك خسارة الدول الحليفة للاتحاد السوفيتي، والتي تقوم معه بعدد من المشاريع في اليمن، ولها معاهدات صداقة وتجارة مع الحكومة اليمنية، وكذلك سيكون للقبول بالمشروع الأمريكي رد فعل سلبي لدى الدولتين الشقيقتين مصر وسوريا، بعد أن رحبا بموقف الإمام، كما أن المشروع منذ إعلانه وسم بأنه مشروع استعماري وغالبية الشعوب العربية قد رفضته. وتناقلت الأوساط المحلية والشعبية موقف الإمام من مشروع ايزنهاور لسد الفراغ في الشرق الأوسط، وانتشر خبر رفض الإمام للمشروع في العاصمة والمدن اليمنية انتشار النار في الهشيم، وقد استخدم هذا الموقف في الواقع لتحسين صورة الإمام لدى المواطنين، بعد أن فقدت هذه الصورة الكثير من بريقها التي كانت عليه، وبعد أن تزاحم حولها الكره والبغضاء. وقد أبلغ الأمريكيون الملك سعود بحقيقة ماجرى بينهم وبين الإمام أحمد، وكان الملك يميل إلى السياسة الجديدة للولايات المتحدة، وإن لم يعلن ذلك صراحة، وقد طلب الأمريكيون من الملك إسداء النصح للإمام أحمد بالتقرب من الولايات المتحدة، ووفقاً للوثائق الأمريكية فإن الملك سعود نصح الإمام بعقد اتفاق ودي مع أمريكا، وعدم السماح لأية قوة بالتواجد في اليمن، وإن الملك أخبر الأمريكان بأن موقف الإمام لم يكن سيئاً، وإن كان غاضباً من بعثة «ريتشارد» وفي نفس الوقت أكد الملك للأمريكان أن المملكة منحت الإمام قرضاً بمبلغ ثلاثة ملايين ودلار، بعد الاتفاق الثلاثي المصري السعودي. ويبدو أن الأمريكيين كانوا يلحون على أن يتخذ اليمن موقفاً مؤيداً لرؤيتهم في المنطقة، فلم تمض سوى شهور حتى بعثوا سفيرهم في جدة في أغسطس من العام نفسه لمقابلة الإمام، وكذلك البدر، وقد فشلت هذه البعثة في تغيير موقف اليمن، واستمرت الاتجاهات ذاتها في السياسة الخارجية لليمن، علاقات طيبة مع عبدالناصر، وعلاقات فعالة مع المعسكر الاشتراكي، وكانت أسباب الفشل تتكرر ذاتها في السابق وفي الحاضر، فالأمريكيون كانوا يشترطون لتطوير علاقتهم باليمن أن تقبل اليمن بمشروعهم في المنطقة، وأن تمنحهم بعض الامتيازات العسكرية، وكانت زيارة السفير الأمريكي إلى اليمن قد صادفت وجود الوفد السوري برئاسة صلاح الدين البيطار، ولم تكن هذه مصادفة إذ إن سوريا ومصر كانتا تدركان أن الأمريكان يعملون كل مابوسعهم لجر اليمن إلى مواقف لن تخدم اليمن ولن تخدم القضية العربية، وقد لاحظ الوفد السوري أن الإمام قد أهمل البعثة الأمريكية، أو على الأقل لم تحظ هذه البعثة بما حظيت به البعثة السابقة. وكان البيطار قد صرح حينها لأكثر من مرة أن السياسات الأمريكية في المنطقة، إنما تهدف إلى تحطيم مشروع القومية العربية. وللأسف فإن الموقف الأمريكي ظل مخادعاً فيما يتعلق ببرنامج المساعدات الاقتصادية، وخاصة ما يتعلق منه بعمليات البحث والاستكشاف، وقد أدرك الإمام أحمد هذا الموقف بفطرته وذكائه السياسي، لقد اعترفت الشركة الأمريكية المعنية بالبحوث النفطية، أنها إنما تقوم بما تقوم به لأغراض سياسية، وليس تجارية، وكان الأمر سيختلف لو نظرت الشركة إلى الأمور على نحو اقتصادي، فمناطق البحث كانت في الواقع مناطق نفطية، وإن كانت أقل أهمية من مناطق الإنتاج في الكويت والسعودية. وهكذا تكشف للإمام أن وجودهم كان دعائياً، ولمنع الغير من الحصول على الامتياز ذاته لو أعلنوا انسحابهم قبل انتهاء المدة التي تنص عليها الاتفاقية. وكانت الأوضاع قد تغيرت في بداية العام الجديد 8591م، ونشأت ظروف جديدة، وتغيرت مواقف، فمصر وسوريا اتحدتا، وانضمت اليمن إلى هذا الاتحاد، وهذه تطورات ليست مؤاتية للأمريكان، وكذلك لحلفائهم البريطانيين، وقد لوحظ أن الأمريكان قد أخذوا هذه المتغيرات على محمل الجد، فازداد نشاطهم ازدياداً واضحاً، وكثرت بعثاتهم التي كانت تفد تباعاً إلى اليمن، وكثفوا نشاطهم الإعلامي، وحاولوا الوصول إلى المؤسسة العسكرية، التي بدت لهم كاختصاص مصري سوفيتي. في العام التالي 9591م ظلت المواقف على ماهي عليه، فالاتحاد العربي بين اليمن والجمهورية العربية المتحدة بقي ثابتاً، وإن بدا منهكاً، وظلت الوحدة المصرية السورية صامدة، واستمرت العلاقات العربية السوفيتية الصينية في التقدم، ولم تحرز العلاقات الأمريكية تقدماً يذكر بعد أن خسر الغرب وأمريكا معركتهم في حلف بغداد، وترنح مشروع ايزنهاور تحت ضربات القومية العربية وموقف مصر القوي والثابت من المشروع،المدعوم من المعسكر الاشتراكي وحركة عدم الانحياز. إلا أن خلافات بدأت تظهر في مواقف القوى الداخلية المكونة للوحدة المصرية السورية فالشيوعيون في مصر وسوريا اختلفوا مع عبدالناصر، كانوا يريدون مزيداً كم الإجراءات الجذرية الاقتصادية والاجتماعية لمحاكاة التجربة الروسية والتجربة الروسية والتجربة الصينية، ولم يكن بإمكان عبدالناصر أن يقبل إلا بما كان يعتقده ملائماً لظروف المجتمع العربي الشرقي المسلم، وكان عبدالناصر على حق، لكن خلافه مع الشيوعيين جره إلى خلاف مع السوفييت، إلا أن طرفي الخلاف تمكنا من جعل هذا الخلاف ثانوياً في إطار العلاقات الاستراتيجية القائمة بينهما. وربما شعر عبدالناصر أن الوقت مناسب لإحداث شيء من التوازن في علاقاته مع الشرق ومع الغرب، وربما وجد في اليمن الأرضية التي يمكن أن يبني عليها هذا التوازن الجديد، فاقترح على الولايات المتحدة القيام بعمل مشترك في اليمن، اقترح عليهم شق طريق أطلقت عليه الوثائق الأمريكية اسم Chi Com والأغلب أنه الطريق الثلاثي «الحديدة، تعز، صنعاء» حيث كان الإمام يلح على تنفيذه، وقد فُسر الاقتراح المصري هذا في الولايات المتحدة على أنه محاولة من عبدالناصر لتقليل النفوذ السوفيتي المتعاظم في اليمن، وهو مايتفق مع أهداف الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه تطور جديد في العلاقات بين البلدين، ويقدم فرصة للولايات المتحدة لتوحيد جهودها مع الدول العربية للنهوض باليمن، إلا أن الأمريكيين لم يتخذوا موقفاً من الاقتراح المصري، وذهبت مبادرة عبدالناصر دون أن تحدث النتيجة المرجوة. والوثائق الأمريكية تسجل بعض الظواهر ربما تستحق التنويه، وهي أن خلاف عبدالناصر مع السوفيت قد انعكس على الحالة الأمنية في اليمن فيما يخص البعثات السوفييتية، كان المسئولون السوفيت يواجهون الاهانات في الشوارع بالرغم من مجهوداتهم الكبيرة في اليمن، فقد كان الناس أو لنقل بعض الناس يعتبرون أن أي خلاف مع عبدالناصر حينها يعد خلافاً معهم، وأن معاملة السوفييت على هذا النحو كانت تلقى قبولاً من الإمام، وقد تصدق هذه المعلومات، لكن الجانب الأمريكي كان حتماً يغالي في حجمها وفي أثرها، من منطلق لايمكن أن يغيب عن مراقب للصراع الأمريكي السوفيتي في اليمن. وبعد أيام عادت القيادة المركزية ممثلة هذه المرة في قيادة المخابرات المركزية الأمريكية لمناقشة الوضع في اليمن «يوم 31 ابريل 9591م» إثر مغادرة الإمام أحمد إلى روما للعلاج، حيث آلت الأمور إلى ولي العهد البدر، صديق عبدالناصر والسوفييت، وتوقعت المخابرات الأمريكية أن يواجه البدر مشكلات سياسية وعسكرية، قبلية على وجه الخصوص، وهو ماحدث فعلاً، وأوصت مسئوليها بأن يمنحوا الحالة في اليمن اهتماماً أكبر، وأوعزت إلى الأمير سيف الإسلام الحسن، رئيس الوزراء السابق والأخ الأصغر للإمام، أن يغادر إلى روما للقاء أخيه الإمام، ربما في محاولة للتأثير على موقفه، وتحريضه ضد مايرونه خطراً شيوعياً، وكان من بين من اهتموا بالحالة في اليمن من المسئولين الأمريكيين الرئيس الأمريكي ايزنهاور،الذي أبدى ملاحظاته للمخابرات المركزية، فيما يجب فعله تجاه اليمن. وكان هذا العام عام قحط ومجاعة في اليمن، شحت الأمطار، فمات الزرع، وجف الضرع، فتقدمت الحكومة اليمنية بطلب المساعدة من الحكومة الأمريكية، فسارعت الأخيرة إلى إرسال كميات من القمح في محاولة منها لتحسين وضعها في اليمن. وتولت الحكومة توزيع الخمسة عشر ألف طن التي كانت قد أرسلتها الحكومة الأمريكية ولكن عملية التوزيع كانت سيئة مما أثار استياء السكان على الحكومة اليمنية، وذهبت المساعدة الأمريكية دون أن تحقق الهدف الأمريكي منها، وفي نوفمبر من العام نفسه 9591م وافق الإمام على إبرام اتفاقية مع أمريكا لتلقي مساعدة النقطة الرابعة، مفوضاً البدر بالتوقيع على الاتفاقية، كما منحت اليمن مبلغاً صغيراً قدر بأربعة ملايين «شلن» كمعونة، ووعدوا ببناء 051 منزلاً في تعز، و002 منزل في الحديدة. وفي ابريل 0691م قدم الوزير المفوض الأمريكي الجديد «فريد ريك رينهارت» أوراق اعتماده للإمام أحمد، الذي كان قد عاد من رحلته العلاجية، وأخمد حركة قبلية مناوئة كادت تطيح بعرشه، وأخبر الإمام الوزير المفوض بعدم ارتياحه لمستوى العلاقات الاقتصادية بين اليمن والولايات المتحدة، وانه يرغب إبلاغ الحكومة الأمريكية بهذا. ورفع الوزير المفوض توصيه عاجلة إلى حكومته بطلب التنفيذ السريع والحاسم لبرنامج المساعدات الحالي وقد تركز على مشروع الطريق، وباعتمادات ضئيلة ونبه إلى أنه كلما تأخرنا في تنفيذ برنامج المساعدات في اليمن، كلما كان ذلك مفيداً للمعسكر الاشتراكي، الذي يشن هجوماً متواصلاً على سياساتنا وتوجهاتنا، وأشار الوزير المفوض أنه عند المقارنة بين حجم الأعمال التي ينفذها الاتحاد السوفيتي وأصدقاؤه في اليمن، وحجم الأعمال الأمريكية كانت النتيجة دائماً في غير صالح الغرب، وفي غير صالح أمريكا. حينها كانت الإدارة الأمريكية، ترتب لإحداث تغيير جذري وهام في علاقاتها باليمن، لقد أدركت أن الطريقة التي تعاملت بها مع الأوضاع في اليمن تركت المجال للطرف الآخر أن يوطد صلاته وعلاقاته، وأن يكسب قادة النظام، والرأي العام، لذلك قررت الإدارة الأمريكية هذه المرة أن ترمي بثقلها في اليمن، وبعد شهرين على نصيحة الوزير المفوض، اتخذت الإدارة الأمريكية قراراً بتخصيص 000،605،21 دولار لليمن للفترة من 0691م 4691م وذلك بالإضافة إلى 000،593،2 دولار من الامدادات المالية لعام 1691م والتي تم تخصيصها بالفعل لطريق تعز صنعاء، وبالتالي فإن التكلفة الإجمالية لحجم الأعمال الأمريكية المخططة وفقاً للبرنامج الجديد والمتوقع تنفيذها حتى نهاية 4691م قد تصل إلى 000،000،51 دولار أمريكي، وهو مبلغ يدل فعلاً على توجه جديد،لكنه جاء متأخراً، وقد أرفق القرار بتبرير يقول: «إن التغلغل السوفيتي الصيني في اليمن أثناء الثلاث سنوات الأخيرة، كان أهم غزو شيوعي حدث في منطقة الخليج «الفارسي» ومنطقة شبه الجزيرة العربية، كما أن الأمريكيين قد علموا أن الصين تحاول إقناع اليمن بتنفيذ مشروع الطريق، وأن عرضهم كان مغرياً. وكان عليهم لكي يعيدوا التوازن إلى علاقة اليمن بالغرب، وبأمريكا على وجه التحديد، أن يسعوا إلى كسب المزيد من الأنصار من الشريحة العليا من المجتمع، ورموز النظام، فاقتحم الدولار الأمريكي فجأة الحياة في اليمن، وبجرأة بالغة وسخاء عظيم، ولقد ذهب في ذلك إلى حد تقرير مرتبات ضخمة وخيالية لبعض المسئولين اليمنيين ولحاشيتهم.. بصورة لم يحلم بها اليمنيون من قبل. في الواقع كان يمكن للمساعدات الأمريكية أن تحقق نتائج أفضل في علاقات اليمن السياسية بالولايات المتحدة الأمريكية، لولا أن هذه المساعدات جاءت متزامنة مع أمرين: الأول: أن الولايات المتحدة قد رهنت موقفها السياسي من قضية اليمن بالموقف البريطاني، ففيما كانت الاعتداءات البريطانية مستمرة على اليمن، وفيما كان الاتحاد السوفيتي يقدم أقصى ما لديه من دعم لليمن في ظروف دولية اتسمت بالخطورة والتعقيد، وكذلك الصين ودون شروط، كانت الإدارة الأمريكية ترد على اليمن بأن عليها أن تجد حلاً لأزمتها مع بريطانيا عن طريق الحوار والتفاوض السلمي. وقد ذهبت اليمن إلى المفاوضات مرات عديدة مع البريطانيين، لكن الموقف المتصلب للحكومات البريطانية المتعاقبة المحافظة والعمالية كان يفشل هذه المفاوضات، وقد ترسخ لدى اليمنيين الاعتقاد بفعل الممارسة السياسية البريطانية على أرض الواقع، أن البريطانيين يخططون للبقاء في الجنوب، حتى بعد أن قرروا تركه عندما أعلنوا أنهم سيغادرون المنطقة، وهو ماحدث فعلاً. والثاني: أن الأمريكان كانوا حذرين في تعاملهم مع الإمام، مما انعكس سلباً على حجم المساعدات التي كانوا يقدمونها للنظام الإمامي، وإذا ماقورنت هذه المساعدات بما كان يقدمه الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه، بالإضافة إلى موقفه القوي من الناحية السياسية، فإن نتيجة المقارنة تذهب لصالح المعسكر الاشتراكي، ولم يكن أمام الإمام في هذه الحالة إمكانية المخاطرة بما كان يحققه من مكاسب اقتصادية وسياسية في علاقته بالشرق «الملحد» وما كان يتوقعه من مساعدات ضئيلة، ودعم سياسي في مشكلته في الجنوب من أمريكا والغرب «العلماني» وماكان الإمام سيهتم كثيراً بحلفائه العرب المصريين والسوريين، فهو لم يكن في يوم من الأيام قومياً، ولا كانت أفكار القومية تجذبه أبداً، ولكان أقرب إلى الملك سعود جاره الغني منه إلى عبدالناصر حليفه السياسي القوي. وهكذا فإنه هو الآخر لم يكن لديه خيار ثالث وعندما اختار الوقوف إلى جانب عبد الناصر، وعندما اختار تطوير وتنمية علاقاته مع المعسكر الاشتراكي حاول فقط أن يخفف من الآثار التي كان يمكن أن يحدثها الوجود المصري والاشتراكي في اليمن، خصوصاً وأن الفكر القومي والأفكار التقدمية قد استحوذت على عقول الشباب، وراحوا ينخرطون في منظماتها وهيئاتها المختلفة.