وكان يتجاسر على التشبيب بها في مقدمة مدائحه للمهدي فقد روى الحافظ بن عبد البر في مقدمته لديوان شعر أبي العتاهية أن الشعراء حضروا يوما عند المهدي فقدم أبو العتاهية في الإنشاد فقال بشار بن برد لأشجع السلمي: “يا أخا سليم من هذا الذي قدم للإنشاد علينا؟ أهو ذلك الكوفي الملقب؟”. قال: “نعم”. فقال بشار: “لا جزى الله خيرا من جمعنا به أيستنشد قبلنا؟”. فقال له أشجع: “هو ما ترى”. . فأنشد أبو العتاهية: ألا ما لسيدتي ما لها تدل فأحمل إدلالها و إلا ففيما تجنت وما جنيت سقى الله أطلالها ألا إن جارية للإمام قد أسكن الحب سربالها مشت بين حور قصار الخطى تجاذب في المشي أكفالها و قد أتعب الله نفسي بها و أتعب باللوم عذالها فقال بشار: “أبهذا الشعر يقدم علينا؟”. فلما أتى على قوله: أتته الخلافة منقادة إليه تجرر أذيالها فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها و لو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها و لو لم تطعه بنات القلوب لما قبل الله أعمالها وإن الخليفة من قول لا إليه ليبغض من قالها فاهتز بشار طربا، وقال: “يا أخا سليم أترى الخليفة لم يطر طربا عن فراشه لما يأتي به هذا الكوفي؟”. وقضى أبو العتاهية مدة طويلة يتغزل بعتبة حتى شاع فيها شعره، فأمر المهدي بجلده وإدخاله السجن، ولم يعف عنه إلا بشفاعة خاله يزيد بن منصور الحميري . وفي أيام الرشيد عاد الشاعر يتغزل بعتبة والسعي للزواج منها. حدث أبو العباس يحيى بن ثعلب قال: “كان أبو العتاهية قد أكثر في مسألة الرشيد في عتبة فوعده بتزويجها وأنه يسألها في ذلك. ثم دعا به وقال: “ضمنت لك يا أبا العتاهية، وفي غد تقضى حاجتك إن شاء الله”. وبعث إلى عتبة: “إن لي إليك حاجة فانتظرني الليلة في منزلك”. فأكبرت ذلك وأعظمته وصارت إليه تستعفيه، فحلف أن لا يذكر لها حاجته إلا في منزلها. فلما كان الليل سار إليها ومعه جماعة من خواص خدمه فقال لها: “لست أذكر حاجتي أو تضمنين قضاءها”. قالت: “أنا أمتك وأمرك نافذ فيما خلا أمر أبي العتاهية، فإني حلفت لأبيك رضي الله عنه بكل يمين يحلف بها بر وفاجر، وبالمشي إلى بيت الله الحرام حافية، كلما انقضت عني حجة وجبت علي أخرى لا أقتصر على الكفارة، وكلما أفدت شيئا تصدقت به إلا ما أصلي فيه”. وبكت بين يديه فرق لها ورحمها وانصرف عنها. وغدا عليه أبو العتاهية فقال له الرشيد: “والله ما قصرت في أمرك ومسرور وحسين ورشيد وغيرهم شهود لي بذلك”، وشرح له الخبر. قال أبو العتاهية: “فلما أخبرني بذلك مكثت مليا لا أدري أين أنا قائم أو قاعد، وقلت: الآن يئست منها إذ ردتك وعلمت أنها لا تجيب أحدا بعدك”. فلبس أبو العتاهية الصوف وقال في ذلك من أبيات : قطعت منك حبائل الآمال و حططت عن ظهر المطي رحالي ووجدت برد اليأس بين جوانحي وأرحت من حلي وترحالي هي قصيدة طويلة تعتبر من أروع قصائده ومنها: الآن يا دنيا عرفتك فاذهبي يا دار كل تشتت وزوال والآن صار لي الزمان مؤدبا فغدا علي وراح بالأمثال والآن أبصرت السبيل إلى الهدى و تفرغت هممي عن الأشغال ولقد أقام لي المشيب نعاته يفضي إلي بمفرق وقذال ومنها: وإذا تناسبت الرجال فما أرى نسبا يقاس بصالح الأعمال وإذا بحثت عن التقي وجدته رجلاً يصدق قوله بفعال وإذا اتقى الله امرؤ وأطاعه فتراه بين مكارم ومعال وعلى التقي إذا ترسخ في التقى تاجان تاج سكينة وجلال و منها: يا أيها البطر الذي هو في غد في قبره متفرق الأوصال حذف المنى عنه المشمر في الهدى وارى مناك طويلة الاذيال ولقلما تلقى أغر بنفسه من لاعب قرح بها مختال يا تاجر الغي المضر بنفسه حتى متى بالغي انت الغالي الحمد لله الحميد بمنه خسرت ولم تربح يد البطال لله يوم تقشعر جلودهم و تشيب منه ذوائب الأطفال يوم النوازل والزلازل والحوا مل فيه إذ يقذفن بالأحمال يوم التغابن والتوازن والأمور عظيمة الأهوال يوم ينادي فيه كل مضلل بمقطعات النار والأغلال للمتقين هناك نزل كرامة علت الوجوه بنضرة وجمال زمر أضاءت للحساب وجوهها فلها بريق عنده وتلالي و سوابق غرّ محجلة جرت خمص البطون خفيفة الأثقال من كل أشعث كان أغبر ناحلا خلق الرداء مرقع السربال نزلوا بأكرم سيد فأظلهم في دار ملك جلالة وظلال و منها: حيل ابن آدم في الأمور كثيرة و الموت يقطع حيلة المحتال ومن النعاة إلى ابن آدم نفسه حرك الخطى وطلوع كل هلال مالي أراك لحر وجهك مخلقا أخلقت يا دنيا وجوه رجال قست السؤال فكان أعظم قيمة من كل عارفة أتت بسؤال كن بالسؤال أشد عقد ضنانة ممن يضن عليك بالأموال وصن المحامد ما استطعت فإنها في الوزن ترجح بذل كل نوال ولقد عجبت من المثمر ما له نسي المثمر زينة الإقلال فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا فابذله للمتكرم المفضال وإذا خشيت تعذرا في بلدة فاشدد يديك بعاجل الترحال واصبر على غِيَر الزمان فإنما فرج الشدائد مثل حل عقال و هكذا نجد في هذه القصيدة ملامح فن أبي العتاهية في الزهد الممزوج بالحكمة والمرصع والاقتباسات البديعة من كتاب الله عز وجل وكلام السلف الصالح، وقد أبدى ابن الأعرابي إعجابه البالغ بهذه القصيدة وقال: “ما رأيت قط شاعراً أطبع ولا أقدر على البيت من أبي العتاهية وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر”، وثار برجل كان في مجلسه لأنه قال: “إن أبا العتاهية ضعيف الشعر”. فقال له: “الضعيف والله عقلك، لأبي العتاهية تقول ضعيف الشعر ؟!” . ونذكر أخيرا في سبب توبة أبي العتاهية من مصاحبة المجون وقرض الشعر في الغزل والهجاء والمديح، وقصر شعره على الزهد والحكمة، ما روي عن أبي سلمة الغنوي أنه سأل أبا العتاهية: “ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟”. فأجابه:”إذن والله أخبرك. إني لما قلت: الله بيني وبين مولاتي أهدت لي الصد والملالات منحتها مهجتي وخالصتي فكان هجرانها مكافاتي هيَّمني حبها وصيرني أحدوثة في جميع جاراتي رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتيا أتاني فقال: “ما أصبت أحدا تدخله بينك وبين عتبة يحكم علينا بالمعصية إلا الله تعالى؟”. فانتبهت مذعورا وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل” .