اليتم...الفقر..القصيدة.. ثلاثي الحياة التي سيطر على شاعرنا منذ طفولة موهبته الشعرية..ولم يستطع حتى بعد أن شب عن طوق هذا الثلاثي..لم يستطع الخروج من دائرة ترسبات تأثير عذابات اليتم والفقر عليه فظلت أبجديات قصائده أسيرة لتجربة فرضت نفسها عليه لدرجة أصبح الشاعر فيها لا يجد نفسه إلا عندما يكتب كترجمان اليتيم فيه والفقير العاري إلا من رداء القصيدة التي تلفه فيه كفناً حيناً وتائهاً حيناً آخر يبحث عن هويته فيه فلا يلقاها إلا صورة الضياع الماثل أمامه يتماً وفقراً سرمديين؛وليس له إلا القصيدة التي تبكيه مفرداً بصيغة الجمع أو يبكي فيها جمعه المتناثر أشلاءاً في أفق الهباء.. «ياقصيداً كلما غنيته ضاق بي اللحن وغناني الغياب ويراعي جف مثل وغدا في فضاء الروح كالحلم اليباب مهجتي ذابت وميعادي على جمرة الأشواق يكويني العذاب وفؤادي بات في ليل الآسى سرمدي الحزن يتماً واغتراب إنها الأيام كم تمضي بنا والسؤال المر يبحث عن جواب«1» هل طواني الصمت في أكفانه شاعراً؟يحيا كأشلاء السحاب» هذه الأبيات التي اقتطفناها من قصيدة له بعنوان «غيمة» ومثلها الكثير من القصائد التي تمثل المرحلة الأولى للشاعر في علاقته بكتابة القصيدة تكشف وتفصح عن براءة طفولة الشاعر والشاعرية في الاستسلام المبكر لعذابات جنونه وضياعه وإحساسه المرير بقهر الزمان وموته حياً جراء تكالب الحزن عليه وهو اليتم الغريب الفقير إلا من إحساسه بالحب المبعثر في مهب الريح كأشلاء السحاب..ولقد تعمق شاعرنا في تجسيد شعوره بالموت لدرجة صار فيها لا يرى نفسه إلا ميتاً أما الحياة فإنها الوهم الذي يفلسف حقيقة سقوطه عاجزاً حتى عن فك طلاسم حراكه الآدمي في براح انفعالاته التي أفقدت حتى القدرة على معرفة أو مما كان إنسانه الغريب عن شوقه وأبجديات عواطفه الباكية بعيونٍ تنزف بالكلمات ولا يدري من تبكي ومن تشتاق في اختلاط غريب عجيب بزمان خال إلا من الماضي الذي يسبق غده وبمكانٍ ضاق به حتى صار بحجم الجرح القصيدة والحياة الموت والوهم المتسيد بقايا حياته الميتة في الحب واشتهاءات الغرام قبراً للشاعر متكئاً على وجع الكلام: «ليتني أستطيع قراءة الأيام، فك طلاسم الآلام، أن أعرف من أشتاق؟ ومن أبكى؟ أنا المأسور بالجرح الحزين الحرف ينزف من شرايين اتهامي.. أنا الآتي بلا ماضي يشاركني جفاف الدمع ؟؟؟؟؟ من ندى الكلمات أنا الماضي بلا دمع يعصرني ..ولو بضع من اللحظات. أشاركها ولو جزءاً من سقوط القلب متكئاً على وجع الكلام ليتني وهمٌ أفهم الآن حقيقة هذه الأشياء في سفري المضام قبري وأنا واشتهاءات غرامي» هذا هو الشاعر علي المقبولي ابن الحارة البسيطة في وسط مدينة حيس تكلفته حباً ودعابة وشاعراً فحلاً تفوح من ثنايا إبداعاته المتواضعة رياحين الموهبة الشاعرية القادرة على تجاوز حدودها الآن إلى مستقبل واعد بالتميز في نضج التجربة الشعرية الحديثة: «في الزمن الجديد لا يحلو شيء.. الظهيرة الإسمنت، والرياح الصقيع.. فكيف أكون أنا؟؟ في الصباح: يسبقني لهفي في مدنٍ يتسلقها الغرباء. في المساء: تستيقظ الوحشة فترميني في ضجيج الأشياء فأين أكون أنا» وبين البحث عن موطئ قدم له في زحمة أزمته الجديدة وسباقة متلهفاً مع مفردات لقمة عيشه اليابسة كالإسمنت، الرطبة كالصقيع لا يجد نفسه إلا منفياً أو مرمياً في نفق لم يبق لملامحه فيها إلا ظل القسوة..وهنا يتأكدلنا مدى سيطرة واقعه الخاص به إنساناًعلى واقع تجربته الشعرية لتقرأه الشاعر التوأم للشجن: «غافتني الكلمات هجرتني أرصفة الرغبات والدرب الممتد من جوف القلب حتى آخر الأمنيات أعبره وحدي وورائي تلهث أشلائي تائهة الخطوات.. كلي يبحث عني، وأنا أبحث عن إنسان عن وعدٍ عن حبٍ عن دربٍ فجري الألوان.. هي هذه خلاصة المعاناة الشعرية الوجدانية اللذيذة، وهو هذا الجنون العقلي الباحث في متاهات الزمان وغربة الإنسان والمكان عن الهوية..هوية الروح القصيدة.. وهوية الحب المخضر بأزاهير الحرية والكرامة وهوية الحق العاطر بخُمرة السنابل يذكي ترانيم حصادها عبق الشاعرية وأصالة الوطن الحقل الإنسان. «أنا ..الوجه الباسم للإنسان «عطر الأرض دم القلب ماء العين ملح الخبز» فتش عني ياولدي.. ستجدني في كل مكان..»