أشياء كثيرة رائعة أثارت خواطري وأنا أشاهد مسلسل شيخ العرب همام الذي يعرض من بداية رمضان منها أنه قدم نموذجا للمشيخة العربية الأصيلة ، فالشيخ بحسب تعريف شيخ العرب همام هو أكثر واحد بين الرعية قادر على تحمل هموم الناس ومعالجة مشاكلهم ومداواة مكلومهم وإنصاف مظلومهم وحمايتهم من نفسه قبل حمايتهم من أنفسهم وأعدائهم. هلموا معي لنتتبع تفاصيل ذلك النموذج بعيدا عن المعايير الفنية التي استوفاها المسلسل شكلا ومضمونا وتمثيلاً وإبداعاً في رسم الشخصيات وتجسيدها ، إذ مزج التاريخ بالأسطورة فضلا عن عبقرية الأداء والإحساس التي تعودنا عليها من شيخ الدراما العربية يحيى الفخراني. منذ بزوغ الشمس يقعد الشيخ همام تحت أشجار النخيل على ضفاف إحدى البحيرات وتلتف حوله الرعية من كل صوب في الصعيد ليقدموا شكاويهم ما يعني إننا لسنا أمام شيخ فحسب بل أمام قاض ومحكمة تنعقد بشكل يومي لفض الخلافات بين الرعية وإنصاف المظلوم والتفريج عن المكروب وإغاثة اللهفان أولاً بأول دون تأجيل للقضايا لتتراكم وللحقوق للتزاحم وللحبة لتتحول إلى قبة ينهض أحدهم يا شيخ همام فلان من هؤلاء الأربعة قتل أبي؟ فيقول له: هل ترضى بالدية؟ فيرد لا فيتفرغ الشيخ بحدسه وذكائه لمهمة التعرف على القاتل من بين الثلاثة ثم يقدمه للعدالة للقصاص ، فيقطع طابع الثأر من جذوره في نفسية الرجل. ينهض رعوي ثاني ويهتف يا شيخ همام فلان الفلاني اغتصب أرضي ؟ فيصدر أمراً قهرياً “ من شيخ العرب همام إلى الباغي على أرض فلان رد الحق إلى أصحابه قبل أن تغيب شمس اليوم .. ولان أمره مثل حد السيف ، فهو ينفذ من ساعته وحينه ومن لم ينفذ يتم تعزيره ونفيه. وطالما أن البينة موجودة والشهود موجودون في ساعته وحينه ، والضعيف وصاحب الحق محمي بعدل همام وقوته فلن تجد في صعيد همام بن يوسف نزاعا مسلحا على الأراضي ولن تسمع صوت طلقة واحدة ولن ترى أي مظهر من مظاهر البسط والتهبش على أراضي البسطاء والموظفين فالحق محفوظ والعقاب على الخطأ يجتث أي جرأة على الاعتداء على حقوق الناس. في النموذج الشيخ همام يوجد أيضاً عناصر القوة فبحسب همام فإن القوة مصدرها الداخل وأول عناصرها الأرض والزراعة والأمن الغذائي فالصعيد كانت تصدر الحرير والقمح والفواكه ووو إلى المماليك وبالتالي فهجوم المماليك على الصعيد يعني تدمير مصدر القوت ، وقد استغل همام بدهائه هذه النقطة فلم يكتف بأن يكون رعيته منتجين فحسب بل أراد أن يضيف لهم القوة والحماية تحت شعار أرض لا نحميها لا نستحقها فحرص على تدريب “الهوارة” وإمدادهم بأحدث الأسلحة وإدخالهم في معارك تمثيلية لشحذ هممهم واختبار قوتهم. وكان من نبله انه كان يحمي من يستجير به في حال كان مظلومآً وصاحب حق. وبالتوازي مع ذلك كان للشيخ همام مركز تعلمي توثيقي يديره “بولس” يقوم بتوثيق كل خطاباته وكل بصائر الأراضي وكل التعهدات والاتفاقيات ويتعلم فيه الأطفال والشباب أصول القراءة والكتابة والحساب والاهم من ذلك أنهم كانوا يتعلمون للممارسة فتجد الناجحين في قسم الحساب يعملون في جمع الغلة الزراعية بعد أن استوعبوا الموازين والنصاب و... وكان للبعد العقائدي حضوره فكان الحكم بشرع الله هو ميزان العدل وكانت المبادىء والأعراف الحميدة مبعثاً للمكافأة والتكريم والتقدير، وكان همام هو غالبا من يصلي برعيته فتجد الدين المعاملة، وتجد المبادىء تتجسد على الواقع. حتى على الصعيد الشخصي تجد نموذجا رائعا في المرح والبساطة وحسن الخلق وعدل المشاعر ورجولة الأخلاق في شخصية همام في تعامله مع زوجتيه وأخاه وأبناءه حتى لكأنك تشعر أن الشيخ همام ملك الصعيد وزعيم قبائل الهوارة الذي يهز الجبال والوديان بصيته وقوته وعدله ليس هماماً الرجل البسيط المرح في بيته الذي يتفنن في أجمل عبارات الحب والغزل لزوجته ويمسك العصا من النص فيظهر ذكيا حازما في لم شمل العائلة وجعلها على قلب رجل واحد هو قلبه. كلمة السر في دخول شيخ العرب همام التاريخ من أوسع أبوابه وبناء صرح له في قلوب الأجيال المتتالية لم يكن بكثرة أملاكه ومرافقيه أو نفوذه أو أراضيه وإنما كان بإحساسه بالناس ونهوضه بهم وحمل همومهم ومسح دمعاتهم وصناعته لفرحهم وتوفيره لقوتهم وحمايته لأرضهم وتصديه لمخاوفهم. رحمة الله تغشى شيخ العرب همام ، وشكرا لكل من ساهم وعمل في إخراج هذا العمل الفني الرائع إلى الوجود وأعاد لنا نموذجا كثيرا ما نفتقده في حياتنا العربية بشكل عام ونحن إليه كما نحن لأمجادنا الضائعة.