أزيد من 80 شاباً من 23 دولة عربية هطلوا الأسبوع الماضي على العاصمة اللبنانية بيروت، هذا العدد الضخم من الشباب تزامن هطولهم مع زخات مطرٍ كان يقوم بمهمة غير مجدية، إنه يغسل مدينة بيضاء، مدينة منقاة تماماً، ومع ذلك فمطر كهذا يكثف من ألقها، ويبث في مساحاتها الدفء، وليس العكس..مطر بيروت دافئ، تماماً مثل أي شيء تصنعه هذه الدولة الصغيرة، إنها تصنع ما يتوافق وروحها المشعة بالحياة. وأنا أضع أولى الخطوات على بساطها أدركت جيداً بأن الله قد نفخ فيها من روحه، وهاهم أسراب الشعراء الذين أحضروا بيروت إلى غرفنا يمرقون من أمامي. رأيت الماغوط في تلك اللحظة وبهدوء معتاد وبسيجارته التي لم يتوقف دخانها يتسكع على الأرصفة التي أدمنها وأدمنته قارئاً: لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء لا شيء يربطني بهذه المروج سوى النسيم الذي نتنشقه «صدفةً» فيما مضى ولكن من يلمس زهرة فيها يلمس قلبي من «بلس إلى جاندارك» رفعت يدي مئات المرات محيّياً مئات الأشخاص باليد التي تأكل والتي تكتب والتي تجوع.. من قصيدته «مقهى في بيروت» هكذا، وأنا أتوغل في عمق المدينةالبيضاء، كانت الحاجة لتحية المارة تراودني، ومع ذلك حييت كل جميل فض غشاء بكارة عينيَّ، واجهات العمارات، المحلات الأنيقة، الوجوه المضيئة، السيارات الحديثة، الأرصفة، المقاهي، الساحات، رموز المدينة، فعلت كل ذلك بقلبي، وبابتسامة رجل مهزوم، تذوق أخيراً طعم النصر، وإن كان متأخراً، فالأشياء تكسب قيمتها عادة من تأخرها..! ها هي الماجدة بصوتها الهادر تغني: نعترفُ أمام الله الواحدِ نعترفُ أنّا كنا منكِ نغارُ وكان جمالك يؤذينا يا بيروت لأنا لم ننصفك ولم نرحمك لأنا لم نفهمك، ولم نعذرك فأهديناك مكان الوردة سكيناً.. نزار قباني، الشاعر الذي أنثن كل شيء، جعل من بيروت «ستاً للدنيا»، هكذا يقول في واحدة من قصائده الأشهر بعد أن هاله ما حدث لهذه المدينة جرّاء اقتحامها من القوات الإسرائيلية في 1982، ودخولها بعد ذلك في أتون حربٍ أهلية بشعة، لم تحترم قداستها، وهتكت حرمتها، ونالت منها كما لو أنها فائض عن الحاجة. ما أبشع الحرب، إنها أسوأ ما اكتشفه الإنسان لتصفية نفسه..!! موعدٌ مع المستقبل لقد كانت بيروت هذه المرة على موعدٍ مع المستقبل، أو بالأحرى كان مدٌ من الشباب العربي على موعدٍ مع مدينة القديسة فيروز والرحابنة الذين مزجوا بيروت بأرواحنا: يا مينا الحبايب يا بيروت.. يا شط اللي ذايب يا بيروت.. يا نجمة بحرية عم تتمرجح ع المية.. يا زهرة الياقوت يا بيروت.. كانت أرواحهم تحلق على مقربة منها، ويرددون خلف كل من تغنى وغنى للمدينة الحلم، ويرقصون على وقع أحلامهم الكبيرة، ويمضون صوب أنفسهم، ويقتربون أكثر منهم، فهم سيرسمون ملامح المستقبل القادم من عاصمة الحرية والجمال.