بقايا وريقات قات متناثرة هنا وهناك.. متافل مليئة حتى النصف ببقايا البقايا.. رائحة البخور ممتزجة بأنواع مختلفة من أدخنة السجائر تملأ المكان الذي أغلقت نوافذه بإحكام.. المداعة تتوسط المكان وبجانبها وضع الصبي صينية الشاي وخرج مسرعاً دون أن يلتفت إلى أحد وكأنه في مهمة خطيرة يتوقف عليها نظام الكون.. نوعيات مختلفة من البشر فيهم خريج السربون واكسفورد وخريج «سربيت» والأحمدية.. الشيخ والرعوي.. موظف الدرجة السابعة عشرة والثانية أصوات متداخلة بعضها فيما يشبه الهمس وبعضها أقرب مايكون إلى الصراخ منه إلى الحديث.. كما هي عادته منذ أن عرفته في صباي ممسكاً بالقصبة سواء كان البوري برأس المداعة أو ذليلاً ينتظر بجانب الموقد.. لايهم.. المهم أن عمي سعيد يحرص دائماً على مسك القصبة بطريقة معينة كمسك البعض لعصي الماريشالية في استعراض للقوة.. تبدأ حركة الشفائف عملية مضغ القات وبلعه من الرجل المتكئ جنب الباب قرب الأحذية وتنتهي بالصدر الأعظم مجلس عمي سعيد كما يجب أن يطلق عليه البعض هدوء غير مقصود يخيم على المكان بالصدفة.. الرجل المتكئ في مواجهة عمي سعيد أو بالأحرى بقايا الرجل المأساة شدقاه مملوءان حتى آخرهما بأغصان القات الطرية اللدنة وعيناه تتسع حدقاتها عندما يبدأ الحديث وكلماته تخرج أشبه ماتكون بشريط مسجل عليه أغنية تراثية قديمة لإبراهيم الماس أو محمد جمعة خان.. في حماس شديد مستعرضاً وجوه الآخرين تقطيبة جبينه تعني أنه سيقول شيئاً وشيئاً هاماً أيضاً, يركز عينيه في وجه عمي سعيد قائلاً بحماس: لو أن الحكومة تشجع الزواج من أجنبيات كان أفضل, على الأقل نضمن الحصول على جيل طويل وقوي.. بارد كالثلج وجه عمي سعيد.. يبدو أنه لم يرد أن يسمع شيئاً مما قاله الرجل أو أنه سمع لكنه لم يستحسنه.. يتنحنح الشخص المتكئ يسار العم سعيد فيما يشبه الاحتجاج على حديث الرجل يتبادل النظرات مع الشخص المقابل له.. يرميه بعشب قات طويل. «أكرمه وعز قدره» فيما يشبه قرع الأنخاب عند الأوروبيين.. هدوء ثانية إلا من شخصين بدت على ملامحهما علامات الجد أثناء الحديث الهامس بينهما.. لابد وأن في حديثهما الكثير الكثير من الخطورة يمكن أن يتوقف عليه مصير قبرص وفلسطين, يشركان الرجل المقابل لهما في الحديث عندما يسأله أحدهم: وإلا أيش رأيك يافلان...؟ أنا رأيي.. أنا في رأيي.. بحركة بسيطة من يده اليمنى يقطع عمي سعيد حديث الكل.. الكل في واحد الآن, العيون كلها شاخصة نحوه, يدخل الصبي ثانية واضعاً البوري برأس المداعة.. قررر... قررر يسحب أنفاساً عميقة منها على سبيل التجربة بينما الصبي مستمر بجانب المداعة محدقاً ببراءة في وجه عمي سعيد الذي يصرفه بحركة بسيطة من رأسه.. (الأشيب) القات القات.. يعرف ماسيقوله سلفاً.. موضوع استهلك عشرات.. لا.. لا.. بل آلاف المرات.. مسكينة شجرة القات اليوم.. ستلصق به كل نقيصة من نقائص مجتمعنا, التهرب الوظيفي, سوء التغذية, التخلف, عدم الاهتمام بالمظهر, وغداً.. غداً.. الغد القريب الذي سيكون بكرة الظهر سيكون هو.. هو نفسه بشحمه ولحمه ودمه أول المتعاطين, كما توقع لم يخيبوا ظنه. الرجل المتكئ في مواجهة عمي سعيد قال: نخسر يومياً 40 مليون ريال و400مليون ساعة عمل. أثره يمتد إلى اليوم الثاني وهكذا.. شاب يبدو من ملامحه أنه عاد تواً من الخارج أضاف على قول الرجل إن عادة تناول القات جعلت الرجل يقول في الصباح قولاً وبعد الظهر قولاً آخر وفي المساء قولاً مختلفاً عن الاثنين. دلل على ذلك بتجربته مع أبيه عندما يريد منه شيئاً فأنسب وقت لطلبه هو الساعة الثالثة بعد الظهر. بداية تعاطيه للقات. الساعة الرابعة يمكن أيضاً, الخامسة.. السادسة.. السابعة ياالله الواحد يسلم شره.. في الصباح ضيق الخلق من الوظيفة والدوام ومصاريف البيت.. دوامة لاتنتهي.. آخر عدّد مساوئ القات حتى ليخيل لمستمعه لأول مرة بأن هناك من أوقع عليه عقوبة تناوله. الرجل المتكئ بجانبي أفتى بأن القات حرام شأنه شأن الخمر والميسر ولحم الخنزير.. كلهم أدانوا.. شجبوا الشجرة الخبيثة على حد تعبيرهم.. عدا شخص متكئ جنب الباب قرب الأحذية.. صامت كنقم ومستمع كمندوب الإمام في الجامعة العربية تبدو على ملامحه الضيق والتبرم من كل ماقيل.. اسطوانة ملّها من كثر سماعها يومياً. العم سعيد مرتاح الآن.. سفينته وصلت بالنقاش إلى بر الأمان.. يسحب نفساً عميقاً من مداعته.. قررر.. قرررر... أحدهم يستعد للذهاب.. خاطركم ياخبرة يقولها بشيء من الذهول والأسى.. نظرات زائغة قلقة ترى ولاترى لاتسمع ولاتعي وتتكلم ولاتفهم.. يتبعه جاري الطيب من أفتى منذ ثوانٍ بجواز تحريم القات موجهاً كلامه إلى الصدر الأعظم: غداً عندي الكل معزومين.. وعد وعد تند عن الرجل المتكئ جنب الباب قرب الأحذية ضحكة هستيرية يتبعها بقوله: - خبِّر غيري. خبِّر غيري.. أما أنا قانا داري. - خبِّر غيري أما أنا قانا داري.. خ بِّ ر.. - غ ي ر ي. - غ ي ر ي...