فضاء من الدهشة.. أثير من الشعر.. ربيع من العام.. أطياف من اللون.. ضباب من الجنة.. كنز من الجمال.. تلك هي المهرة يطاردك سحرها الأسطوري أينما حللت في أفيائها وجبالها الخضراء وساحلها الفيروزي، وسهولها المذهبة، ويحملك عبقها الشفاف إلى دنيا من الشجر والزهر والنايات والمطر، ويغسل روحك ألقها المصبوغ بالشمس والقمر.. صحيفة الجمهورية زارت هذه المدينة الساحرة. أشهى من العسل وجدتها.. صرخت صرختي الأديسونية «1»، وأنا أرى المهرة من خلال الفجر المنبعث من أحشائها.. كانت أجمل من الخيال، وأصفى من البراءة، منازلها جنن، وسواحلها أشهى من العسل والسمن، ونسيمها نابع من فراديس عدن، وتابعتها تتمخض الصباح المختلف على كل صباحات الأرياف والمدن الأخرى، كما تابعت وقع خطواتها الفاتنة في النفس، وموسيقاها المخضبة للشرايين والأوردة، فانداحت ضحكاتي كثريات الذهب، وتبدلت روحي الكئيبة بأخرى مرحة لا تتذكر الهم والغم، وارتفعت مني الهواجس المختلفة منها.. إن هذا المكان الفاتن لا يرتقي إليه عزرائيل أو نوابه، وغادرت الشرفة بعجلة طفولية أعانق النور، وأقبل الوقت لإبطاء خطواته، ومدنا بالحانٍ مختلفة، رائعة لا أدري كيف امتطت لساني.. كنت أرقص وأغني للحصون والقلاع.. للسلاسل الجبلية والوديان الفلنتينية «2».. للورود والأشجار النادرة، للبحر والشاطئ، للبشر والعصافير، للضباب والمحمية، وكانت أدمعي الحبورة تزغلل الأشياء وتزركشها في عيني فتبدو أرقا من النسيم، وتشع مثل النملة بالنشوة المعربدة فأجدني ولدت من جديد.. من جديد. ذروة المرح حين يصل الإنسان ذراري المرح يتهمه الآخرون بالجنون لتصرفاته الفطرية البريئة، إنما في هذه المدينة فالحال هو العكس يوصم برجاحة العقل، وأياً كانت التعابير فإنني هنا أعيش لحظتي مترجياً إياها بإرجاء الرحيل، وبداية لحظتي السعيدة حاضرة الغيظة بأزقتها البخورية، وحواريها العتيقة، وكان زميلي الشاعر « بن دعكون» هو المحرض لي بإصرار على الزيارة.. مضيفاً بثقته الزائدة: سوف تكتشف في هذه المدينة أشياء ما كانت أبداً في حسبانك وبالفعل كانت المهرة مهرة «أنثى الخيل» جامحة في روعتها وفتنتها لا يمتطيها إلا نبي أو شاعر، مساحة شاسعة جعلتها في المرتبة الثانية بين المحافظات، وشريط ساحلي نقي يصل طوله إلى 550 كيلومترا، وانفاق جبلية فريدة في خط نشطون سيحوت الممتدة، بتصميم رهيب، ونباتات نادرة تمتد على مساحة تصل إلى الخمسين كيلومترا، وتنفجر الدهشة المدوية عند مديرية حات، حيث الصخور الغريبة المنقوش على صدرها الخطوط المسندية التي تحكي الحضارات القديمة، وشموخها المتجاوز الحضارات العربية والعالمية، ويطوف البصر والذهن في المعالم السياحية العبقرية كنسرين أسطوريين تنفذ نظراتهما الحادة إلى أعماق التاريخ. بصر متراقص شر القلق هو ذلك المنبعث من مساحات زمن محدود وأماكن جذابة شتى؛ إذ قد تصل به الجرأة المقيتة إلى بعثرة الذات تماماً كما وقع لي على شفا بعض الوقت، فأضحيت كأم العروس، لكن زالت عني هذه الحالة بعد جهدٍ جهيد، فتوقفت عند القلاع المهيبة والشمس الباهتة.. تدغدغ قلعة البحراني في مدينة حصوين العتيقة، وترسل لعابها إلى مستوطنة دمقوت، ثم ما تلبث أن ترسل ريشها الناعم إلى وادي هول مغازلة قلعته الأثرية العملاقة، وتتبدى الحصون شاهقة بتاريخها المحفور على جدار الزمن، والبداية مع الغيظة وحصنيها خيبل ودوحال، ثم ترتد الخطى بارتدادات البصر في أماكن شتى متجاوزة مستوطنة حيريج وحصن الكافر إلى قشن التي فتشت عن معنى اسمها، اقتنعت باسمها الحميري، كانت مآثرها تدعوني للقعود على مصطبة زمنها المتوهج، لكن استعجالي مسح مبانيها وبيت مسمار، وعلى شفايف السوق القديم دوت أصوات العصور المختلفة في كاسيت المساء والسماء، وسقطت جيوش الظلام الحنون على القصر السلطاني العظيم، فأرحت إنسان عيني للسفر إلى الأيام الخضر على شراع الغبش. مناخات نفسية بوابة الشرق الواسعة تحتاج إلى حوامة سياحية لمعاينة جمالياتها الأخاذة من نقطة الوضوح، والسلاسل الجبلية المتعالية على الهضاب والتلال قد تحقق الكثير من الاستمتاع بالمناظر الخلابة، لكن امتطاءها جمعاء سوف يستنفد الأنفاس اللاهثة، فأكتفيت بامتطاء إحداها مرجئاً البقية للزيارات القادمة، وانحدرت فرحتي سائحة إلى الوديان المشهورة، وبإجلالٍ رهيب لبست وادي منعر السرمدي المياه، واستحممت بسلسبيله فانبثق فيّ أمل آخر وحلم جديد، وطاقة متجددة أخذتني على بساطها إلى وديان هول معين ومعشين الجاريين بهمةٍ ونشاط على امتدادهما، وبتغير المناخ كمقامات موسيقى فتتغير معه مناخات النفس، سعادة بلا حدود، وجذل بلا نهاية، وطرب يفوق كل طرب وجودي، وكبرعم لمسته الريح فانفتح تفتقت أذهاني أشياء رائعة لوديان مهرية مختلفة كوادي المسيلة الطويل، ويرتفع صوت رفيقي «دعكون» المنشرح الذي يتقن اللغة الأمهرية مردداً أسماء وديان غريبة الأسماء لم تحفظها ذاكرتي فاحتوتها محفظتي منها وديان حيروت وشغووت وضحوت ومهرات وايدنوت وكديوت ورخوت وعرية وشيني وفوجيت وغبوري وشحن وتقطع حديثي بلغة عذبة للطبيعة الساحرة للوجود. مطافات دينية أشياء كثيرة تعاتبني.. مزارات جميلة تناديني، أجواء شاعرية تلوح بيدها اللذيدة منادية إياي واغض الطرف متبعاً خلاء جيوبي من الموت رغم إصرار «دعكون» على التعريج على المطافات الدينية، واكتفي بحديثه عنها.. عن قبة السيد علي ومزار الشيخ محسن ومزار الشيخ فرج وكذلك ابن فتيح والجوهري والعبار وابن عقيل وغيرهم.. كانت محمية حوف تملأ خيالاتي المتنوعة، وكان استعجالي إليها يفوق استعجالي لمعانقة صغاري البعيدين عني، ومرت مائة وعشرون كيلومترا هي كل المسافة بين الغيظة وحوف دقائق من السباحة في المعالم المحيطة بالطريق والمستقبل المجهول، وعلى فراش اغسطس الرطب والمعتدل اقتعدت المحمية أستعيد راحتي التي سرقها القدر مني بعد سفر الحياة وسفر القلب وسفر التكوين، وعلى عرش الطبيعة ملكت ذاتي المتشظي اداعب الأعشاب تارة وأهز الوجد تارة أخرى مساقطاً عنه جراثيم الدنيا الزائفة، ونسيتني.. نسيتني حتى لحظة الوداع الأخيرة «لحظة الموت الأول».