طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    4 إنذارات حمراء في السعودية بسبب الطقس وإعلان للأرصاد والدفاع المدني    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    الرقابة الحزبية العليا تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    الاحتلال يواصل توغله برفح وجباليا والمقاومة تكبده خسائر فادحة    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    صعقة كهربائية تنهي حياة عامل وسط اليمن.. ووساطات تفضي للتنازل عن قضيته    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    انهيار جنوني للريال اليمني وارتفاع خيالي لأسعار الدولار والريال السعودي وعمولة الحوالات من عدن إلى صنعاء    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا صاحب قلم ولست مغروراً ولم أستند في حياتي المهنية إلى أي جدار
الكاتب/ عبدالرحمن بجاش ل«الجمهورية»:
نشر في الجمهورية يوم 24 - 06 - 2013

عندما قررت أن أجري هذه المقابلة مع العم عبدالرحمن بجاش كما يحلو له أن أناديه , كنت يمكن أجريها كما جرت العادة , أضع سؤالاً وأنتظر اجابة ثم أعقب عليه , لكني قلت مع ذاكرة وقلم مثل الأستاذ عبدالرحمن بجاش يكفي أن تستفز ذاكرته ليخرج أجمل ما فيها من ذكريات , وفعلاً كتبت الأسئلة وأرسلتها على صفحته في الفيسبوك , وانتظرت حتى يكمل الإجابة عليها , وعندما ارسلها لي مكتملة أبحرت معها , عشت كل التفاصيل الصغيرة التي عاشها هذا الرجل الجميل . . كان الغرض من المقابلة هو إيصال رسالة لجيلنا نحن الشباب , هذا الجيل الذي يشتكي كثيراً منه أنهم يعانون كثيراً وأنهم يعيشون معاناة , كان يجب علينا أن نقرأ عن معاناة هؤلاء الذين سبقونا وكيف ناضلوا وصمدوا حتى حققوا هذه النجاحات , كيف أصبح عبدالرحمن بجاش العامل في مخبز للروتي رئيساً لمجلس إدارة أكبر مؤسسة إعلامية في اليمن ؟.. هنا ستجدون أشياء بسيطة عن رجل كبير , ستعرفون الفارق بين أبناء المشائخ في تعز وفي بقية المناطق القبلية في صنعاء وعمران , ستجدون ثقافة تعز التي تحترم العمل , ابن الشيخ الذي كان يعمل في مخبز لبيع الروتي , ستجدون ثقافة القرية التي لازالت مترسخة في سلوكه . . لا أريد أن أكتب مديحاً , لكن الذي يعرف عبدالرحمن بجاش سيعرف لماذا أكتب عنه بهذا الشجن وهذا الفخر الذي أشعر به وأنا أكتب عن هذا الرجل البسيط والمتواضع , هذا الرجل الذي تشعر معه بالأبوة عندما يتابعك من بعيد لبعيد لكي لا تقع في الخطأ .. مع العم عبدالرحمن بجاش , بسم الله نبدأ :
ماذا تبقى لديك من ذكريات القرية في النشأة الأولى من سنين عمرك المبكرة ؟
كأنك تقرؤني او تجلس بجانبي , ففي نفس اللحظه التي وردت رسالتك فيها كنت اتملى طويلا في صورة , انزلتها على حائطي في الفيس بوك , وهي الان مهداة بالمقام الاول لك , الصورة التقطتها ذات لحظة وقد عدت إلى قريتي لمن علمني اول الحروف في معلامتها . ( الفقي ) علي نعمان . لا زلت استعيد كل مساء صباحات تلك الايام . كانت عمتي رحمها الله تحملني اذا ( لوحت ) بتشديد الواو خبز بر , أو ( عُشار ) بضم العين , فلا بد أن آخذ معي نصيب الفقي , المعلامة وسط القرية _ وقد صورتها مرارا – عبارة عن ( صبل ) بين الصبول المتلاصقة , نصل مبكرين , اول ما نفعله ( نحشط ) يرفع كل منا ( زنته ) او ( صدرته ) – القميص الطويل - وندخل إلى وسط المعلامة العاري ... هل تعرف لماذا ؟ ترى الاجابة في اللون الاسود الذي يكسي سيقاننا , نخرج إلى الشمس فيتخلص كل منا مما علق بساقه من ( القمل ) بضم القاف وفتح الميم ننطقها , وهكذا حتى يأمرنا ( خلاص يكفي ) ... نصطف أمامه وهو جالس في المقدمة , كان احد رفاقنا ( الزُميني ) بضم الزا , يجلب له كل مرة عصا طويلة تصل إلى نهاية المعلامة من شجر النشم . أتقدم لأضع بين يديه ما جلبته من ( مِنداد ) أو صعد عمتي من خير الله , يعني ذلك انني انال شرف الجلوس إلى جانبه , دقائق يأتي معلمي جديد فيكون بيده بيض أو ( جمنة ) سمن , يعني ذلك أن أتراجع إلى الجلوس إلى المرتبة الثانيه ليجلس الجديد , يأتي ثالث وهكذا , تبدأ اصواتنا ترتفع حتى تصل إلى اطراف القرية , وكل كبير يسمعها يحس بالارتياح أن الاولاد يقرؤون القرآن وذلك مدعاة للفخر ..يتقدم كل منا ( يا فقيه اشتي اسمع ) بتشديد الميم كسرا . فنضع اللوح امام الفقي , ما مكتوب عليه موجه اليه وأنت تسمع ما ( غيبت ) بتشديد الياء , تخطىء لا تحس الا والملطام في خدك ( سرحت تعوم امس يا بن فلانة وما غيبتش , تظل تحلف وتحلف يختلط صوتك بدموعك ومخاطك , لا يغفر لك الا أن تنتحي جانبا وتعيد القراءة ثم تعود اليه , فإذا اجدت هذه المرة نالك منه ( اصلحك الله ) سير امحي , واكتب المعشر من جديد , تخرج ال( الدواة ) وتضع بعض الماء إلى داخلها , وتخرج قلمك , و( تمزج ) هكذا كنا نقول , يكون اللوح قد (حف) بعد أن تطليه من جديد بمادة بيضاء سميناها (القطط) بفتح القاف والطاء الاولى , كان المعالمة الكبار يذهبون إلى ( الضياح ) يجلبونها , ويوم أن ( يفسح ) الفقي بسبب القطط يكون يوم عيد , عند العاشرة صباحا , يذهب الفقي إلى صلاة الضحى في مسجد القرية القريب جدا , يكلف اكبرنا ( اوبه لهم ) ( والذي مشسمعش الكلام قلي) .
يعود ليسمع التقرير , لتسمع اذنيك فاصلاً من البكاء ( والله العظيم يا فقي ما عملتو حاجه ) , نكون ايضا قد اكلنا ( العُواف ) حيث نجمع من الكل ما أتى به من بيته , عشر , فطير , حبوب , بر , ونجلس في دوائر لنأكل ,ونردد بصوت واحد ( قاف ..قاف ..يا الله تبارك بالعواف ) يحدث إن يستولي اشقانا مرات على ما نأكل لتبدأ مطاردة طويلة في الاحوال ومناقف الاحجار بأمر من الفقي حتى نعيد ( عكيش ) وهو احد رفاق الطفولة لكنه اشقانا , وكل يوم معارك في القرية بسببك يا عكيش , والحكايات الطريفة حوله كثيرة كثيرة , هو الان موجود في صنعاء في الزاوية القريبة , محمد طربوش من القرية التي فوقنا ( المجزعة ) , ومحمد قصة نحسده عليها في تلك اللحظه , فقد أكمل حفظ القرآن فانتقل إلى قراءة (سفينة النجاة) تقدر تقول سنة أولى جامعة او الجامعة كلها , نمر بجانبه , كل يرمقه بنظرات الحسد تختلط بالإعجاب بالغيرة , ولا مانع بسبب الغيرة من أن ينال علقة ساخنة حين يغيب الفقي لأي سبب , ونتفق على أن نحلف جميعا حين يعود بأننا لم نلمسه . هذا غيض من فيض لا يمنعني أن امر كل ليلة الآن قبل أن استسلم لسلطان النوم على تفاصيل قريتي الأثيرة , طرقها القصيرة المتعرجة , دُورها , تلك الدار الأعلى أول دار بناه علي مقبل جدنا بعد أن أتى من قرية قريبة وأتى جد أجداده من الغراف بالقرب من المخا إلى مكان ما بين ذبحان والأصابح , فإلى جبران _ بضم الجيم _ تحت ذبحان حيث يسكن الإنسان معلقاً بين السماوات والأرض , إلى الأهجوم إلى القُحيفة إلى العفيف قريتنا التي فتحنا عيوننا فيها إلى الكون حولنا , بجانبه الدار الجديد , وبينهما ديوان أوقفه لمن يمرون على القرية وأوقف له بعض ( الأحوال ) من ماله , والى اللحظة من يداهمه الليل يسكن فيه فيرعاه من هو قائم من الاولاد على الأرض الوقف , بين الدارين سقاية للماء , ومدفن للحب , قالت لي جدتي : علي مقبل كان كل صباح يقوم فيأتي بيديه مليئتين بحبوب الدخن يذريها في الصَرحة - بتشديد الصاد – للعصافير , هكذا كل يوم . اقسمت جدتي إن جنازته من باب داره إلى المقبرة ظللت بسحابة من العصافير - تلك روايتها - , هناك دكان قاسم اسماعيل أشهر ( طبل ) في ( الكدرة ) كلها , الباحة بين الباب والباب , فقط يصل حماره قادما من سوق دِهران , أو الأحد , أو من سوق الثلوث , حتى تهب القرية كلها , أما حين يعود من عدن فتلك قصة أخرى . تفاصيلها في كتابي ( حكايات العم قاسم ) . لا زلت أسمع الأصوات في درج بيت قاسم اسماعيل , وفي الممرات القريبة، . وصوته الجهوري ( آصبر ) يقولها لمن ينصت اليه , كان رجلاً حيوياً يستوعب الكل وأذكى من في القرية وامهر طباخ وقد تعلم الطباخة عند البينيان في عدن وعلم عمتي أشهر طباخة في قريتي حينها , ولفرط نشاطه كان إذا لم يجد ما يشغل به نفسه فيدبر المقالب لخاله الذي يعرف انه يحب اللحمه حبه للحياة ولان الجزار فارع يأتي كل يوم ثلاثاء فقط فيذهب القرويين كل ( بشليتته ) وهي عبارة عن كيس صغير من نفس مادة الجووني , والعم عقلان بينهم , يبكر صباح اليوم التالي بأثواره يحرث أحواله وأحوال الآخرين وباله عند اللحمة , يذهب العم قاسم إلى المسجد فيؤذن , يسمع عقلان الأذان يفسح للأثوار يحمل العُدة فوق كتفه ويعود مستعجلا . وعند باب المسجد يفاجأ بان لا أحد , فيظهر من ركن المسجد ليرى ( دقم مهير) عبارة عن صخرة بعيدة هناك تحت ذبحان فوق جبران , وكان التوقيت يتابعه الناس منه من الظلال التي تحدثه الشمس فيعرفون الوقت , حتى نحن الصغار أيام الصيف نذهب بعيوننا إلى الدُقم فنعرف أن الظهر قد أزف , فنعود بأبقارنا إلى اسفالها , يدرك لحظتها العم عقلان أن ما حدث مقلب جامد من نسيبه يكتم غيضه فيدبر له مقلب أشد , كان ما يحصل مدعاة للضحك في صرح المسجد حين يصل العم قاسم للصلاة : كيف حالك يا خال ؟ زلجت حول الطويل ؟ قا قلتو لمو روحت بدري , لا يرد . لتسمع ضحكة الجميع مدوية ( عقلان فسح لأثواره إحن الغداء ) منتصف النهار . ذات مرة عاد العم عقلان ليجد قِشوة اللحم خالية فجن جنونه , من أكل لحمته , وفيم هو يصيح : أين اللحمة ؟ لاحظ أن قطه الكبير ينام هانئا بجانب قِعادته فأدرك انه من اعتدى عليها , لم يكذب خبراً , فامسكه باليسرى وكان الرجل شديدا - لقد كان حمالا في ميناء عدن - , وباليمنى مسك ( الكلبه ) وكانوا في القرى يقلعون بها الاضراس !! , وقلع له اضراسه وأسنانه واحدة بعد الاخرى , حتى اذا اكمل ( ما ذحين كل زوم), لم يكمل القط اياما اذ مات جوعا . يرتفع صوت العم عبد الواسع بأذان الظهر فيفسح لنا الفقيه , يكون علينا اذا كان الوقت صيفا إن نضع الواحنا عند اول من نصادف وجري على (السُد) بضم السين , للسباحة , يعود معظمنا فلا يجد تحت الدست سوى كور البسباس , فقد ظلت الأمهات ينادين بلا طائل فيكون العقاب أن لا تأكل , عمتي لعطفها علي كانت لا تستطيع الا أن تخبي لي ما آكل . اتملى كل ليلة يا هشام في وجه جدتي أجمل مخلوق عرفته في حياتي , لم ار في حياتي مخلوقاً نظيف النفس والوجدان مثلها , لم احس بالأمان الا وهي تتشممني كما تتشمم البقرة وليدها , تراها قصيرة القامة , تجيد لف المقرمة على رأسها , وأظل اقبل الحنا على يديها , وتلك الشقوق الصغيرة من التعب . كانت تحب الارض كما لم ار انساناً في حياتي , عشقتها وعشقت الخير للآخرين حتى الثمالة , وتخيل فحين بدأت أمراض الشيخوخة وهي لم تنحني , تناوبت عليها الحالة يوم بيوم , يوماً لا تبرح قعادتها , واليوم التالي تصحو مع أصوات دجاجاتها , ونهيق حمار الشيخ , وثغاء الماعز , ومُناهرة البقرة حُميره و اجلها – بضم الجيم - نجيم , والثور كحيل , تلفلف زنتها , وتلف مقرمتها سريعا , والى السِفل تبحث عن شريمها و( أجبها ) , ومع اول حفيف للزرع , وبزغة الفجر , وخضرة الافق تتجه إلى حول الكريف أو بريجه او ذالعلس , يداهمها الفجر . تكون عائدة انا اصحو على صوت قرقعة الباب , عمي عائد من المسجد ومباشرة الأرض , اول ما المحها هي تلمحني ( شقصف عمري ) فاندفع إلى ركبها , تجرني إلى حيث تضع حمولتها , تحضن طفولتي الغضه بحنانها الجارف وشوق الجدة الذي لا تمنحه الا للحفيد ( كان جدك بجاش حتى إذا راح الزولي يتوضأ لا ينزلك من فوق أعدانه ) , اول ما يراها الحمار الجميل ( حمار الشيخ ) المدلل ينهق بصوته العالي , تمد يدها إلى الحيق – نوع من الزرع يعطى للحمير – فتضع امامه ما يكفيه , هناك الوطاف , والناقوس يتدلى من رقبته , كان حمار مشائخي بحق , حتى بطنه مثل ( اللوح ) قال عمي : تصدق عندما كنت اطلع به نقيل الجواجب من المصلى يجادم الحمير حتى يكون الاول , وحين باعه فيما بعد لصاحب الكرث , مات بعد أيام , قال البحار القديم محمد سلام خويلد وبجانبه بحار مارسيليا الاخر علي شداد او ( سلسلي كافي مدام ) , قالها : ما بعته إلا للمكرث أهنته , الله شقصف عمرك , مات من الإهانة , لا يزال هذا القول يرن في اذني واسأل نفسي : هل صحيح انه شعر بالإهانه , مش قالو حمار !! تضعني جانبا وتستقبل نساء الدار الباقيات زوجات أعمامي عائدات أيضا بالطُعم من الاحوال البعيدة من هيجة السد من هيجة الكلبه , وأخريات يأتين بالماء من وادي الجنات بعد رحلة عذاب صعوداً وهبوطاً أتذكرها وأحس بالفارق الرهيب بين تلك الرحلة المرهقة حتى وهن حاملات بأولادهن , يصلن صعوداً بتنكة واحدة ثم يهبطن من جديد . وهكذا هي رحلة عذاب استمرت لسنوات كلما اتذكرها احس بتعب كل الامهات , أول ما يفتح الصبح عيونه تكون فتيات القرية قد خرجن بأبقارهن متجهات إلى المرعى , وكلما مررن على بيت انضمت أخريات , بعد أن نتغدي ( نصطبح ) – ذلك أيام الصيف – ولاحظ كانت القراءة تتوقف لأن الأولاد يساعدون أهاليهم في الرعي والأرض . يذرون . يحجنون . يحوضون . يدجرون . وأنا كنت أيام البتلة اذهب مع العم عبدالرحمن عبدالقادر الذي كان يناديني تحببا – درح – يمكنني من الركوب على ساق العدة وهو يحرث , أبدو أمام أقراني كأنني كنت راكب مرسديس , كان ثورنا يضاهي ثور بنت عبده , وبت عبده كما ننطقها كانت امرأة غير عادية , صاحبة أرض ( رعوية ) ذات شخصية قوية وآسرة , تدرك ذلك حين يخاطبها ارجل الرجال بمهابة . تلبس تلك الزنة السوداء بخطوط حمراء اسفلها , وتلف مقرمتها بطريقه توحي بقوة شخصيتها ومهابتها . نتجمع في صحن الدار على شكل دائري تكون عمتي شريفه وهي سيدة الدار قد اكملت خبزها البر أو عشر , أو فتوت , أو عصيد على حقين , اما اذا كان على لبن وسمن فحكاية لوحدها , آكل سريعا وانطلق كالريح الحق العيال , فيكون يوم نرعى فيه في هيجة سعيدة , ويوم في القحاف , وآخر في عجامه وهو المكان الاثير إلى النفس , كنا نتجمع الاولاد والبنات , كانت ثمة فتاة شخصيتها قويه إلى درجة انها تفرض على الاولاد أن لا يسبحوا في البركة القريبة باستثناء ابن الشيخ , تخيل الامر , بالطبع البنات يأتين من قريتنا والقرى المجاورة ,عند الظهر يكون دقم مُهير قد اذن بالرواح , وحين تتشكل السحب في السماء الزرقاء ونسمع صوت الرعد يكون علينا أن ننهب الطريق مسرعين , وعند نقطة محددة قريبه من قريتنا نفترق , يواصل رفاقنا الصعود إلى قراهم قبلنا تكون أغنام عبده انعم قد مرت ما ميز تلك الاغنام أن غنمه بيضاء كانت لا تلد إلا اغنام بيضاء بأشكال مهيبة لسنوات طويلة , ونحن نعرج بأبقارنا إلى الكريف الصغير رأس الهيجة لنسقيها , نظل نردد ( الحالي من نازل ... الحالي من نازل ) , لا ادري هل كانت ابقارنا ذكية إلى حد ادراك ما نقول ؟ . نلمح رؤوس امهاتنا في السقوف . وامحمد . واعلي . وجوهرة . الدخان يتصاعد من البيوت واوانٍ صغيرة تتنقل بين البيوت . هذه تطلب من جارتها قليل حقين سبغ . وتلك قليل حلقه . وجدتي المحها في الحوية القريبه من الدار من اجل قليل من البسباس والطماط , حويتها رحمها الله كانت مزدانة بالمشاقر المُطابَق , والقرنفل , والزبودة , والبياض , وظلت تذكرني حتى توفاها الله كلما عدت اليها من تعز بالشجرة التي أرسلتُها إليها فزرعتها في ركن الحويه , شجرة بلس كبيره أصبحت الآن كبيرة .. هل احدثك عن عمتي ؟ سأوجز أولاً وصفها بطيبة الأرض وصفائها , يكفي أن تلك المرأة الصبورة الرائعة ضحت بحياتها من أجلنا نحن أولاد إخوتها , في دارنا توزعت الحياة هكذا , الطابق الثاني في الردهة جلاعب الحَب ومخزن مغلق مع عمي عبد القوي كلما فتحه كنت ألمح علب صغيره توزعت عليها قوارير عطر , ذلك بعض ما كان يهدى لأبي , وجونية بداخلها قوارير استيم , وآه من حكاية الاستيم يا هشام الله يسامحك من قال لك تثير المواجع !! الاستيم شراب غازي كان يرسل إلى دارنا لا ادري ممن هل هدايا لأبي . هل يرسل عمي يشتريه من أجل الضيوف . لا أدري . كل ما ادريه أن جونية يحملها حمار تصل مبللة , وهم يبللونها وكلما مشى الحمار تبرد القوارير , والشراب الأصفر كان قصة لها أول وليس لها آخر . تخيلنا جميعا لا نبرح المكان إلا بعد أن نطعم الاستيم , طبعا حقي كان مضمونا , لكن اقراني يظلون يوسطوني عند عمتي ( عند الله وعندك كلمها تعطينا , انا فدا لك ) , المهم تظل القرى تتحدث عن الاستيم طويلا كان الحرمان يا صاحبي سيد الزمان أما عندما رأينا المسجلة أبو شرائط ريل ( دائرية ) فهي قصة لوحدها . نظل تنفرج للشرائط وهي تدور . أما عندما يغني المغني الذي داخلها لأول مرة هربنا . وظللنا نرتعش طوال اليوم , اما حين كنا نسمع العم عبد الولي يغني مع المغني فقد ظللنا سنوات لا ندري كيف يدري !! كانت حكاية يوم أن تخرج المسجلة إلى الديوان , النساء بعضهن كدن يجن وهن يستمعن لفاصل مما حكاه لهن اولادهن عن الحديد المغناطيس الذي يغني مثل فاطمة . أما عمتي فقد ظلت تردد ( محوط بالله وبرسول الله ) أيام وأيام .
كانت عمتي سيدة المكان والزمان , ودارنا صورة فريدة للتعايش . المفرش الذي في الوسط لعمي عبد القوي , وبجانبه غرفة جدتي , عمي عبد الحبيب لا أتذكره في الدار , برغم انه حدثني كثيراً عن تعبه وراء الحمار من المصلى , إلى غبيره , إلى تعز يخرج مع نجمة الغبش ليذهب برسالة إلى الوالد في تعز , قال كنت اصل عصراً إلى تعز , وارتاح الليل , وأعود لأنام في دمنة خدير وأواصل صبح اليوم التالي إلى الكدره , تصعد إلى الدور الثالث والأخير حمام في واجهة صعودك , وبجانبه خلوة هكذا يسمون الغرفة الرئيسيه في الدار حيث يأكل الرجال لوحدهم . نتغدى فيها مع عمي عبد الوهاب رحمه الله وعبد القوي . ما اضحك له الآن أن أياً منا نحن الصغار يقوم فلابد أن يعلن عن الغرض الذي قام من أجله . أقوم أنا أو أخي نبيل أو عبد الناصر , أو خالد ابن عمي , أو ماجد . أقوم مثلاً أقول (شسرح اتمخط وشرجع ) ( شسرح اشرب وارجع ) لأنه كان عيب إذا قمت وعدت بلا تنبيه , تلك الخلوة كانت غرفة أمي في الأساس , حين تزوج أبي خالتي الأولى أم أخي عبد الناصر اشترى من عدن ناموسية بقلصات , يهيي , ظل ذلك السرير سنين طويلة في الغرفة يغطى بشبك أبيض من النامس وظل حديث النسوة سنوات لا حديث لهن إلا ناموسية ( الشيخة أبو أربع قلصات ) , وأنا إذا استطعت إدخال أحد أقراني خلسة فقط يصعد عليه ويهتز مرة , مرتين يخرج ينقل للبقية أهوال الدنيا , بجانبها مفرش طويل وبضمنه غرفة عمتي أو مخزنها وبجانب الباب الصُعد حيث تلوح عمتي بُرها وعُشرها , وأنا حين أفتح عيني أجلس بجانبها لأنال أول عُشرة . تصدق انني ذهبت بأولادي إلى الدار والتقطت لهم صوراً في نفس المكان الذي كنت أجلس فيه , عمتي كانت طباخة ماهرة , وعمتي بالأساس حكاية لوحدها , حين قرر أبي أن أدخل تعز صباح ذلك اليوم , الصبح جاء محمد سيف قائد بحماره لأرافقه , كان ( طبل ) القرية , باتجاه تعز , رجلاً قوياً شديداً , أميناً , تخيل يضع حماره على اول الطريق , وهو راجلاً يظل يقطع الجبال يلتقي بالحمار في نقاط محدده مثلاً قهوة تلك العجوز وسط موقعة , وموقعة واد عميق منحنياته 355 منحنى كما كان يقول محمد سيف قائد , هو واد يتدفق بسائلته الماء طوال العام حوله . قدس , بني حماد , الصلو , بني يوسف , سامع , تكون النقطة الأخيرة فوفلة .. وبعض مرات نواصل إلى دمنة خدير إذا وصلنا وقد غادرت السيارة , ذلك الصباح انُتزعت من حضن عمتي , كما لو انُتزع جزء من الأرض من موقِعه , ظللت أجري بعد الحمار وأتلفت بين اللحظة والأخرى إلى القرية . وفي كل منحنى كانت تغيب , و تغيب روحي معها , وعمتي تخاللنا حتى آخر نقطه ظلت تلاحقني لا تريد أن أذهب , كانت عينيها تدمعان , وكان قلبي وكياني هما الآخران يبكيان , حتى اذا غبت وراء منحنيات الطريق في حلقان , ووادي العجب , غابت قريتي وغابت عمتي وأدركت أنني انفصلت عن ذاتي , أما حال جدتي فقد عرفت في أول عيد عدت فيه أنها ظلت في غرفتها إلى اليوم التالي لم تبرحه , جدتي من ضعفها فكانت أحايين تختفي من البيت لنكتشف أنها ذهبت إلى ابنة عمها عمتي والدة زوجتي حيث تأوي بهمومها , حين كنت أعود في إجازات الأعياد أو في الصيف أظل من لحظة انطلاقي من تعز اتخيل عمتي , حتى اذا وصلت تركت كل شيء وتراني أصعد درج الدار واسمها يتردد على لساني , ولحظة أن تراني تحتضن كل كياني ولسانها يردد ( شقصف عمري ) , عبارة أخرى لم أفهمها أبداً ( يهروني ويذروني علوك ) لا أدري لما علي أن أشير إلى ما أراه مهما , فقد نزلت الطائرة عندنا في الكدرة سيستغرب كثيرون !! وعندما وصلت السيارة إلى الكدرة , قامت جداتنا صباحاً ونزلن بالماء والزرع الاخضر إليها كالأبقار وحين أتى الحفار إلينا وثابت عبد الله غالب يدعو الناس لاستقباله من ميكرفون المسجد ظهر في أحد المنحنيات , لتراه بعض النسوة اللائي ذهبن إلى منازلهن ولبسن أحسن ما معهن ونمن يومين ظنا منهن أن القيامة ستقوم وما شاهدناه حفار القبور , عن الطائرة والسيارة والحفار , وميكرفون الجامع لا يزال في ذاكرتي الكثير وتفاصيل أخرى عن مواضيع أخرى , سيملني قارئك إذا واصلت .
هناك معاناة عاشها الإنسان في مراحل عمره المختلفة , ماذا عن معاناة عبدالرحمن بجاش ؟
انا جزء من هذه البلاد , وبالتأكيد فلي حكاية مع المعاناة . فقط هنا سأشير إلى دكان السوق المركزي بصنعاء ..حيث حططت الرحال طالبا بين البطاط والطماط , وأكياس دقيق المخبز ..تضيع بسببها دفاتري لأيام . لقد ذهبت بأولادي إلى الدكان برغم حالة المساحة التي حوله ... فأنا لا أتحرج في الحديث عن ظروف قاسية مرت بي ... ولا اتحرج في أن اكتب عن توزيع الروتي إلى بيوت صنعاء القديمة والمستشفيات والمطاعم ... افضل الآن أن أؤجل الحديث عن فصل المعاناة .....
هل شعرت مرة أن الحياة قد ضاقت بك ويجب عليك أن تستريح , بمعنى كم من المرات وصلت إلى مرحلة اليأس ؟ وكيف كنت تتجاوز هذا الشعور ؟
بالتأكيد مرات كثيرة ... أتذكر على سبيل المثال انني كنت قد هيأت نفسي للسفر ومعي الزميلين علي حسين الفقيه وأخوه محمد في منحة دراسية إلى العراق ايام إن كان الاستاذ عبد الرحمن المؤيد مديرا للبعثات , وبالفعل انهينا كل اجراءات الابتعاث , فجاء من اقنعني ألا اذهب , وتعهد لي بأن يرسلني إلى مصر , كان الذهاب إلى مصر مغريا , طبعا فهمت انه كان لا يريدني أن ابتعث كما قيل لي لاحقا , وبعد أن تنازلت عن السفر إلى بغداد جاء أيضاً من يقول لي – من وعدك تخلى عن وعده !! أحسست لحظتها أن كل ابواب الكون اغلقت في وجهي , لأنكفئ إلى دكان كنت أعيش فيه مع الهديس والمخزري وهم ( سواقين ) من الذين ينحتون الصخر من اجل الرزق , الدكان لا يزال موجودا إلى اليوم في بيت د . السياني , ملاصقا لمدرسة الكويت الثانوية بصنعاء , نمت من الصبح إلى الصبح أبك كما لم ابكي في حياتي , سافر زميلي وبقيت انا !! لم أصل في حياتي العملية إلى مرحلة اليأس , وان كانت الارض قد ضاقت بي بما رحبت في بعض الأحايين , لكن أزعم أنني من ذلك النوع من البشر الذي يهيئ نفسه لبدائل طوال الوقت , ولذلك لم اسقط أرضا برغم أن موجات من تسونامي الجوع قد تعرضت لها في مراحل مختلفة , ولذلك تجدني أضعف إلى درجة البكاء إذا صادفت من يقول لي : أنا جائع , هنا تسود الدنيا في عيني وأكون مستعداً حتى لبيع ملابسي , ليس هذا نوعاً من استعراض الذات , أزعم أنني لم أسند ظهري – في حياتي المهنيه – إلى أي جدار , لقد ارتزحت طوال الوقت إلى قلمي , وأنا ممن يؤمنون إيماناً يقينياً بأن الصحفي اسم , واسمه الشيء الأوحد الذي لا ينتظر قراراً جمهورياً , الاسم هو ملجئي طوال الوقت , فلم أطرق باب أحدٍ طوال انتمائي لقلمي , لاحظ أنني في الفترة التي توليت فيها قيادة مؤسسة الثورة ظللت أكتب ( نون ... والقلم ) كان الأمر مقصوداً ورسالة موجهة لمن يريد أن يفهم , أنا صاحب قلم , ولن يستطيع كل أصحاب الطبخات أخذه مني , لاحظ أنه كلما كان قلمك ذهباً ظللت في أعين الناس تبراً , أيضاً هذا ليس فاصل من غرور , ولا محاولة لاستعراض نفس الذات , أزعم أن لي نفساً نقية كزرقة السماء , يسميه بعض الضعفاء ( طيبة ) اسميه أنا سمواً , ومن ليس له لمسة انسانية حانية في حياته يظل حجراً أصم أو آلة صدئة تستهلك نفسها , ربما هذا هو الذي جعلني بكل تواضع قادراً على الاستمرار واقفاً برغم كل الرياح المغبرة , أتجاوز الشعور بلحظات الضعف باللجوء إلى قلمي الذي ينصرني دائماً بدليل احترامه لنفسه , احترام الغير لما يخط .
عرف عن عبدالرحمن بجاش ارتباطه الوثيق بتعز المعاصرة , تاريخها , ثقافتها , شخوصها , أماكنها , وما تنتجه من فكر , لماذا هذا الارتباط الوثيق ؟ من هي تعز بالنسبة لك ؟ ولماذا تعز بالذات؟
هذا هو السؤال الصعب , كأنك تسألني : هل تحب اسمك ؟ تنتمي اليه ؟ أسئلة صعبة , لكنني سأخوض الصعب , فتعز باختصار تسكنني , فكيف لا أعشقها وعيوني تفتحت على الكون في حافة اسحاق , انظر عندما تحين لحظة قراءتك ( حافة اسحاق ) ربما تكتشفني أكثر , تكتشف سر عشق إنسان لمدينة , أو لتوحدهما الاثنين , لطالما عشقت تعز , ولست أنانياً فأنا أحب صنعاء القديمة بكل تفاصيلها المكانية والإنسانية , ربما هو جور أن تعشق مدينة وتحب أخرى , لكن بحري واسع تستطيع كل السفن أن تبحر فيه , كثيرون لا يدركون هذا , خاصة اولئك الذين ينظرون للمدن على أنهن أكوام من الأحجار , خذ مثلاً : من أمر بهدم المدرسة الأحمدية واحداً منهم , مشاعره كومة من أحجار سوداء , وإلا ما قال لي ذات صباح ( انت ما حصلتلكش عمل تبكي على شوية حجار ) ترى كيف لو شاهد ما عمله عبد الحكيم الحشاش ذلك الشاب الرائع الذي يدير الآن مقهاية الإبي آخر ما تبقى منا في شارع 26 سبتمبر عالمنا , عالم الناس كلهم , عبد الحكيم وكان صغيراً يوم جرفت مدرسة الثورة , فلحق ما تجرفه جرافة صماء فطلع بحجر أساس المدرسة , في آخر زيارة لي إليه أراني الحجر يخبيه تحت ماسة , ماذا تسمي ذلك؟ ماذا سيسميه من – لا الحقه الله خير – أمر بهدمها باعتبارها أحجاراًِ , قليلون هم من يدركون أن المدن تتنفس كالبشر , علاقتي بتعز من نوع آخر لا تزال تفاصيلها في عيوني .
لماذا صرت صحفياً وكاتباً ؟ لماذا لم تكن بتولاً في القرية مثلاً ؟ أو مغترب في إحدى دول الجوار ؟
أعتقد جازماً أن كل إنسان خلق لما هو له , وإذا تحدثت عن ميول , فقد ظهرت مبكرا , يبدو لي الآن إن حاسة الخيال لدي واسعة بلا حدود , نميتها بحب قراءة ما يضيف إلى الخيال , قرأت في مرحلة مبكرة وفي تعز , المجلدات السبعة ( عنترة بن شداد ) , المقداد , نجيب محفوظ , جورجي زيدان , وروايات اجاثا كريستي ( ارسين لوبين ) وفي تلك المرحلة تزوجت شويكار التي كنت أقص صورها والصقها على الجدار , وأزوغ من بين أرجل هائل القدسي أبو شنب لأتابع أفلامها بعد الظهر في سينما بلقيس , وعندما قرأت في مجلة الكواكب أنها متزوجة من فؤاد المهندس تألمت جداً للخيانة , وقاطعت أفلامها , وذهبت إلى نجلاء فتحي أرق من شهدت السينما المصرية , ولعلاقتنا المتميزة , فقد قصصت صورتها والصقتها على الجدار ولم ألاحظ أنها جاءت فوق صورة جمال عبد الناصر , فمر والدي صباحاً ولاحظها ولأول مرة يبتسم في وجهي , ولحبه لعبد الناصر قالها لي (نجلاء فتحي فوق عبد الناصر ) فخجلت وأحمر وجهي , لكنني شعرت بالإرتياح لأنني لفتُ نظره , كان والدي ككل الآباء فقد أحب جمال عبد الناصر إلى حد الثمالة , ولبس البدلة بالكرافته , ويوم إن حدثت نكسة 67 خلعها إلى الابد , من دار القلم في عمارة قلالة بجانب مدرسة ناصر طالما وقفنا طوابير لنشتري آخر ساعة , روز اليوسف , الاهرام , الاخبار والجمهورية , كنت أقص الوجوه , عبد الناصر , القذافي , نُميري , أم كلثوم , فريد الاطرش وعبد الحليم , أشتري ورق مقوى وصمغ وأوزع الصور مثل أي مخرج يوزع المادة والصور , قريبي صديق العمر عبد الوهاب نعمان علي كان يشتري الواحدة ب 3 ريالات , أيامها المبلغ ثروة لمن هو في سني , في صنعاء كتبت في الجريدة الحائطية في ثاني ثانوي بمدرسة عبد الناصر الثانوية , ما يمكن تسميته بمقال ( من الحياة ) بسبب غلطة من المصحح ظهر ( فن الحياة ) لازلت أتذكر ذلك , وأول كتابة لي بصحيفة الثورة ولا يزال مقرها في التحرير حيث إدارة الإعلانات الآن , مع بداية لجان التصحيح أيام الزعيم الحمدي , فقد كنت ماراً بجانب السفارة الصينية , فشاهدت وايت ماء يتبع الجيش يسكب الماء في بيت أحدهم فكتبت ( كيف يجب أن نفهم التصحيح) ونقلت الواقعة , كنت وقتها قد تعرفت على المساح بواسطة محمد مرشد المساح الذي كان يعمل في المخبز التابع لنا في باب اليمن من لحظة أن كتبت رداً على أحدهم في جريدة الصباح التي كان يصدرها الأستاذ الكبير سعيد الجريك أحد علامات المهنة المغيبين , كتب يومها يعلق على أحد أفلام إسبوع الفيلم السوفيتي وأشار أنها تهين الدين , فتحمست أنا ورددت بان المقصود هو الكنيسة وليس الدين الإسلامي , وأرسلت بالمادة مع محمد مرشد - كان المساح في قمة المجد أيامها , وظل قلبي ينتفض أياماً حتى أعاد لي مرشد ما أرسلت وبجانبها رسالة من المساح لازلت محتفظاً بها إلى اللحظة ( يابن عمي لا يستفزوك , قالوا أي جروحك يا عيلة قالت في الهيجه , أنا الآن اقرأ من الذاكرة وكلام كثير وفي الاخير يوقع هكذا ( اخوك ابن .......... محمد المساح ) بعدها اقتربت من المساح أكثر وكنا نجلس في حديقة فندق الزهرة يراجع ما أكتب , هو أستاذي بلا مُنازع إلى اليوم , ومن سأظل أحترمه ما حييت , وبجانبه الأستاذ الكبير يحيى العرشي , وأدين للزرقة أنني تعلمت منه , وإلى محمد عبد الجبار , وعبد الباري طاهر , ومحمود الحاج , وإبراهيم المقحفي , ومحمد الشيخ , وعبد الله الشرفي , ومحمود الحكيم , وحسن العلفي , والجبري موزع الصحف , وعبد الجليل أحمد محمد , وحسين الأغبري , وأحمد عبد العزيز رحمه الله , وسليمان الظاهري , وآخرين كثر .... , بعد يومين شاهدت المساح في الاتجاه الآخر من شارع علي عبد المغني يصيح ( يا وليد اطحس .. الحمدي أرسل الشرطة العسكرية يدوروك ) يدوروني فسابقت الريح إلى باب اليمن , طبعاً لم تسعني الدنيا حين رأيت اسمي في إحدى الصفحات , أحسست لحظتها كأنني سأموت فرحاً , بقيت في المخبز شهراً لم أخرج وكنت أتخيل أن صنعاء كلها تدورني , وكلما دخل ضابط أو عسكري يشتري الروتي اموت , بعد شهر عُدت بحذر إلى علي عبد المغني لأصادف المساح ( أين أنت يا ولَيد ؟ ) قلت خجلاً : مش قلت لي إطحس , قال : (هم كانوا شسألوك بس ما فيش حاجة ) ماذا أقول ؟ لقد سكت , الرحلة طويلة يا هشام , ولدي الكثير وأنا هنا تعبت منك ومن أسئلتك , أما لماذا لم أكن بتولاً ؟ هذا سؤال قدري , بالطبع أنا أنظر للبتول على أنه يمتهن أنبل مهن الأرض , ولازلت أبكي بتول قريتنا عبد الرحمن عبد القادر إلى اليوم , أما حكاية الاغتراب ففي الثالث إعدادي قرر نجيب عبد العزيز الشيباني والد صاحبك وابني ريان ( رحمه الله ) أن يهاجر إلى السعودية , قال لي يومها : تعال نسافر , قلت : والوطن ؟ وكأنه مُركب على رأسي !! محمد المكي مراسل الحياة في الدوحة قالها لي مرة أخرى : تعال نروح قطر . قلنا لا المستقبل هنا . هل أقول ليتني سمعت احدهما ؟ زميلة المدرسة والمهنة رؤوفة عرضت علي أكثر من مرة : تعال معي أمريكا , اختلقت ألف عذر فقد كنت عندما أخاطبها لا أقوى على النظر إلى وجهها , كانت تهزمني بمنطقها , ما معكش حق التذاكر , دبر حق تذكره من هنا – صنعاء – إلى أقرب بلد أوروبي والباقي علي , كانت تحجز حجوزات آخر لحظة بأسعار التراب , لم أغترب - وليتني فعلتها - كنت متأثراً بالمساح أحلم بوطن آخر , تبين الآن أنه سُرق مني ومن غيري .
هل كنت تتخيل في بداية شبابك أنك ستصل إلى منصب رفيع في رئاسة مؤسسة بهذا الحجم ؟
ما كنت أفعله هو أنني اشتغلت بدمي ولحمي في بلاط صاحبة الجلالة , ظللت مؤمناً ولا أزال برغم أنني وصلت إلى رئاسة التحرير أن الصحفي قائد قلمه مهما تولى من مواقع , لست مغروراً , لكن الثقة تملأ نفسي , وقدرتي تتحسن كل يوم , لا ألتفت إلا إلى اسمي , واشعر بالرضا , فقد ظللت نزيهاً , ولم أنهزم برغم كل الطبخات والطباخين , ولو سألتني مم تتألم ؟ سأقول لك ممن يخون ثقتي .
كيف وصلت إلى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة الثورة للصحافة؟
السؤال يكون كيف وصلت هي إلي ؟
– جواب على سؤال افتراضي . لقد أتعبتني يا عزيزي هشام . أُفضل أن احجن حولاً بكامله ولا أواصل الإجابة ومع ذلك لا يزال لدي الكثير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.