وثيق البريهي “تنهيدة من زمان البنفسج” ... وتسلّقتْ روحي حصانَ الشوقِ للعيش الذي قد كان في زمن الطفولةِ صاحبي وضياءَ (فانوسي) ... وإذْ مدَّتْ عجوزُ الدارِ رجليها وبلَّلَتِ القلوبَ محبَّةً وأفاضَ نهرُ حديثِها عطراً غريبَ اللونِ وضَّاحَ الثنايا ... حينما تحكي عن الإنسان في ذاك الزمانِ ترفُّ في فمِها الحروفُ وتورِقُ اللحظاتُ ظِلّاً خاشعاً كالساجدِ المخمور في سُكْرِ الصلاةِ ..... وحينما تدلو بدلْوِ الغيبِ في الزمن الذي آتٍ فتأتينا بأخبارٍ عجافٍ تسكنُ الغِرْبانُ في أهدابِها تحكي وتمسح صوتَ جفنيها الحزينَ تقولُ : “ يا ولدي سيأتيكم زمانٌ يصبحُ الإنسانُ مثلَ الملحِ لا الكلماتُ تعشبُ في يديهِ ولا الصورْ ! فإذا أتيتَ وبابُه المسجونُ مفتوحٌ فلا تدخلْ فإنكَ إنْ دخلتَ فقدتَ ضوءَ اللهِ في عينيكَ وانقطعتْ أناشيدُ السما الموصولُ أنتَ بحبلِها السُّرِّيِّ لا تدخلْ .. ففي عتباته أوراقُ شعْوَذَةٍ تُعَرِّي الداخلين من البَنَفْسَجِ من رداء النور من نار الحنينِ وفيه يا ولدي شياطينٌ مُقنَّعَةٌ بلون الأنبياءِ ترى الحروفَ البيضَ في أصواتهم تخْضرُّ تحفرُ في المرايا وجهها الطينيَّّ لا تحفِلْ....... فإنَّكَ إنْ فعلْتَ رجعتَ مبحوحَ اليدينِ رجعتَ مكسورَ البَصَرْ ! * * * ماتتْ عجوزُ الدارِ ...جفَّ حديثُها .. فدخلتُ في زمنِ الكآبةِ أعْرَجَ العينينِ عاري القلبِ من ثوبِ النبوءةِ والجمالِ .. زجاجُ روحي قد تهشَّمَ عند أوَّلِ خطوةٍ في البابِ وانكَسَرَتْ على العتباتِ أضلاعُ المرايا والشعورُ قد انكسرْ ! لا فَرْخَ بعدَ اليومِ .. لا مولودَ حرفٍ من فمي يحبو إلى شفتي يزقْزِقُ جائعاً أو ظامئاً فلقد دخلنا في زمانِ الجوعِ والعطش البخيلِ ولا مياهَ ولا مياهَ على محيطِ أصابعي انطفأتْ دموعُ الريحِ وارتحلَ المطرْ !! محمد القعود استلمتُ مقاليد الصمّتُ وأقسمتُ أن أحافظ على عواء التاريخ وهتاف الجماهير النائمة في متحف الأحلام الذابلة.. وأن أقمعُ نفسي إن حاولت التطاول على حرمة الفوضى أو حاولت التعبير عن الضجر، أو تحالفت مع براعم الأمل..