أكرر باستمرار أن أكبر مشكلة وقع فيها المفسرون القدامى في تعاملهم مع النص القرآني هو نزع الآية من سياقها القريب بين الآيات، أو نزع سياقها ضمن موضوعها في القرآن بأكمله، والسياق في لساننا من أهم القرائن لتحديد وتقريب مقصود النص، وظللت أضرب الأمثلة على ذلك الخطأ الذي تكرر عند المفسرين، فكانت معانيهم أبعد عن النص وعن روحه. هذا المرة توقفت مع آيات الطلاق لإعادة تأملها في ضوء تلك المنهجية التي لا تغفل سياق آيات ولا سياق القرآن ولا السياق التاريخي والجغرافي لنزول الآيات، فكان أن خرجت إلى قراءة أخرى في مسالة نكاح المرأة لزوج آخر كي تحل للأول غير تلك التي اشتهرت عند المفسرين، وكالعادة سأضعها بين يدي القارئ ليقارن بعقل الناقد المتفحص بين تلك القراءتين ليرى أيهما أقرب لسياق الآيات ولفلسفة الطلاق ذاته. يقول تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}. ويمكن تلخيص معنى هذه الآية بالآتي: الطلاق مرَّتان يكون للزوج بعد كل واحدة منها الحق في أن يمسك زوجته برجعتها في العدة أو إعادتها بعقد جديد بعد العدة، وتتحدث عن سلوك الزوج في كلا الحالتين فإن كان إمساك فبالمعروف وإن كان تسريح فبإحسان. ولا يحل لكم - أيها الأزواج - أن تأخذوا مما أعطيتموهن من الصداق شيئاً إلا عند خشية عدم إقامة حقوق الزوجية التي بينها الله سبحانه وتعالى وألزم بها. فإن خفتم - يا معشر المسلمين - ألا تؤدِّى الزوجات حقوق الزوجية سليمة بسبب كره الزوجة لزوجها وعدم رغبتها في البقاء معه فقد شرع للزوجة أن تقدم مالا في مقابل أن يقوم الزوج بتطليقها، هذا في حالة إن كان الزوج غير مقصر في واجباته وحقوقها، ولكنها لا تريد البقاء معه، أما إن كان قد أخل بحقوقها وأثبتت ذلك أما القاضي فإن للقاضي أن يفسخ ذلك العقد لعدم التزام أحد أطرافه -وهو الزوج- به. ويسمى هنا “فسخ” أما في الحالة الأولى فيسمى “طلاق الفداء”، وهو كما قلت الطلاق التي تطلبه المرأة من زوجها. ثم تأتي الآية التي تليها مرتبطة بآخر موضوع في الآية السابقة، لا كما هو مشهور بأنها ارتبطت بأول الآية، فارتباطها بموضوع طلاق الفداء أقرب من ارتباطها بعدد الطلقات، وعليه فسيكون سياق الآية كالتالي: فإن طلقها الزوج بناء على طلبها وما قدمته من فداء لذلك فلا يحق لها أن تعود إليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإن طلقها الزوج الجديد فلا جناح عليها أن تعود لزوجها الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله، وتأملوا معي عبارة “يقيما حدود الله” في الآيتين فهي مفتاح السر والقرينة الأهم لارتباط هذا الحكم بطلاق الفداء، فالآية الأولى تحدثت عن خشيتهما أن لا يقيما حدود الله نظراً لعدم حبها له أو عدم رغبتها في الاستمرار معه، ثم تأتي الآية الثانية بجواز عودتهما إن ظنا أن يقيما حدود الله، وبهذا الفهم سنخرج من إشكال فكرة المحلل، لأنها ستترك زوجها السابق ثم تتزوج بآخر فإن آثرت البقاء مع الزوج الجديد واصلت، وإن أرادت العودة لزوجها السابق فيحق لها أن تطلب الطلاق وتفديه بما لا يتجاوز المهر. وفلسفة زواجها من آخر كي تحل للسابق في ضوء هذا الفهم سيكون أبسط من فلسفة الفهم السابق، إذ لما كانت هي من طلب الطلاق دون تقصير منه في حقوقها، وكان ذلك بسبب الخوف من أن لا يقيما حدود الله، ولا يكون ذلك الخوف برأيي إلا إن كانت المرأة لا تحب زوجها ولا ترغب في العيش معه، وربما يكون أحد أسباب تلك الرغبة في عدم العيش مع زوجها هو حبها لشخص آخر، فكان أن منعت من العودة لزوجها حتى تنكح زوجاً آخر، فإذا ما طلقها ذلك الرجل جاز لها أن تعود للزوج الأول، ولن تكون عودتها إليه إلا في حالة اقتناع كامل به. والسؤال المطروح الآن, أين مصير الطلقة الثالثة؟ وما الفرق بينها وبين من قبلها من الطلقات؟ أقول: الآية السابقة تحدثت عن حق الرجل في إمساك زوجته في حال كان الطلاق مرتين، أما إن كان في المرة الثالثة فلا يحق له إمساكها، وإنما يكون لها الخيار بالعودة بعقد وصداق جديد، لأنه فرّط في العدد المسموح له به في الطلاق، وكان عليه أن يضبط نفسه. وبرأيي فإن الآية التي جاءت بعدها لتحكي عن عدم عضل النساء إن أردن أن ينكحن أزواجهن، إنما تحكي عن عقد ما بعد الطلقة الثالثة، لأنها لم تذكر الإمساك بالمعروف كما الآية التي قبلها. يقول تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}. فإذا ما عقد عليها عقداً جديداً بصداق جديد فإن عدد مرات الطلاق تبدأ أيضاً مع بداية ذلك العقد، سواء كان العقد بعد الطلقة الثالثة أو بعد الطلقة الأولى أو الثانية إذا لم يمسكها ويراجعها، لأننا سنكون أمام زواج جديد يبدأ بصفحة جديدة. خلاصة هذه القراءة: 1 - اشتراط زواج المرأة من زوج آخر حتى تعود لزوجها السابق ليس بعد الطلقة الثالثة وإنما حين تطلب المرأة من زوجها أن يطلقها في مقابل ما تدفعه من المال, نظرا لأنها لا ترغب في البقاء لأي سبب كان غير تقصيره. فتتزوج بآخر فإن أمسكها ورغبت البقاء كان بها, وإن طلقها أو طلبت منه طلاقها مقابل فداء له فإن بإمكانها العودة لزوجها السابق إن تراضيا.. 2 - الطلاق الذي يحق للرجل إمساك زوجته فيه- مرتان, وإذا أراد إعادتها فعليه عقد زواج جديد بتبعاته من الصداق والإيجاب والقبول. 3 - من طلق في الأولى أو الثانية ولم يمسك زوجته, فعليه عقد جديد بكل تبعاته إن أراد أن يعيدها زوجاً له, ومع كل عقد جديد تبدأ مهلته مرتين ثم لا يمهل في الثالثة. هذا ما يتضح من سياق الآيات بعيداً عن الحمولات التي جاءت من خارجه.