قالوا لا تركب الأمواج الخطرة، لا تغامر فالطريق يستغرق ليلة كاملة حتى بزوغ الفجر، وهو طريق لا تعرف بوائقه، لكنني قرّرت أن أخترق هذه الأجواء وأدخل في خضم ليل دامس الظلام خالٍ من القمر ووسط غابة كثيفة شائكة يجب أن أسير يوماً كاملاً حتى أصل إلى ناصية الشارع؛ وما أن توغّلت في الغابة حتى بدأ الخوف ينساب إلى هواجس النفس وصارت الأفكار غريبة موحشة.. أشعلت سيكارتي لا أرى سوى وميضها, وصمت يلف المكان، سكون إلى حد البكاء، لا شيء سوى الأدغال والأشجار والسواقي الصغيرة وأنا أسير أتعثر، ثم أقوم منتصباً لأواصل المسير، ودائماً يقتل هذا السكون أصوات الكلاب وهي تنبح وأنا أحث السير والأصوات تقترب نباح لمجموعة كبيرة من الكلاب، أظنّها تقترب مني؛ أسمع حثيث أقدامها وحتى لهاثها ونباحها، وفجأة صارت أمامي، نباح قتل كل السكون وهجوم غريب نحوي وأنا أعزل لا أحمل أي شيء أدافع فيه عن نفسي إذا ما هجمت هذه الجموع الكبيرة من الكلاب، وما هي إلا لحظات حتى صرت وسط نباح من كل مكان وهجوم من كل الجهات، أحسست بالشبه الكبير بينهن وبين هؤلاء الذين لا يرحمون أحداً ويهجمون بكل قسوة وعدائية، صارت على شكل دائرة والتفتُ حولي بأنياب حادة وأنفاس حارة، اقتربت الدائرة أكثر وأنا ألملم شتات نفسي وأحافظ على البقية الباقية من الشجاعة كيف أواجههم؛ هل أهجم أم أهرب، ماذا أفعل..؟!. تذكرت أن أبي «رحمه الله» قال لي ذات يوم: إذا هجم عليك كلب فلا تهرب؛ لأن الهروب يشجعه ويدفعه إلى اللحاق بك وتزداد عضّته قوة، عليك أن تقف هادئاً أو تجلس ساكناً دون أية حركة، وسرعان ما نفّذت ذلك وجلست القرفصاء ووضعت يديّ على ركبتيّ وبقيت دون حركة، اقتربت الكلاب نحوي من كل ناحية خلف ظهري وأمامي ومن جانبي ووراءهم مجموعة أخرى تنتظر دورها إلا أنني بقيت صامتاً ساكناً، نبحت الكلاب واقتربت إلى درجة أني شممت أنفاسها ورأيت أنيابها الحادة؛ إلا أن هذا السكون والخوف الذي كان ينتابني جعل الكلاب تمل؛ أظنّها تحتاج إلى حركة لكي تهجم، وها أنا ساكن دون حركة، انسحبت المجموعة الأولى وتلتها الأخرى إلى أن انسحب آخر الكلاب، بقيت في مكاني فترة وجيزة ثم واصلت السير وأنا متمسّك بالهدوء لكي لا ينتبه عليّ أحد من الكلاب، توغّلت في الظلام إلى درجة أني لم أعد أرى أي شيء حتى يديّ لم أعد أراهما، ظلام في كل مكان وأفكار مشحونة وذكريات تمرّ، عليّ أن أسلّي نفسي في هذا الطريق الموحش الصعب تذكّرت ماذا يحدث للعالم صار السلام والأمان والطمأنينة أحلاماً من أحلامنا لا تتحقّق، والقتال والسلاح والحرب يملأ أركان الدنيا، وهذا المخلوق الذي منحه الله العقل انحرف تفكيره وصار يفكّر في القتال والحرب والدمار وترك السلام والأمن، سرت في طريق منبسط، وفجأة أحسست أني أسحق على شيء غريب. آه إنه لغم؛ أظن ذلك..!! فهذه الحروب التي دارت في البلاد زرعت الأرض ألغاماً؛ بقيت واقفاً؛ إذا رفعت قدمي فسينفجر، فكّرت بكيفية الخلاص فلم أجد إلا أن أبادر وأرفع قدمي وليحدث ما يحدث، رفعت قدمي فلم أسمع صوت إنفجار، دفعني الفضول إلى معرفة ماذا كان تحت قدمي، فحفرت واكتشفت أنها علبة من علب المشروبات الغازية المعدنية، قطعت نصف الطريق ونصفاً من الليل وأنا أحث الخطى نحو النهايات، لايزال الظلام يلفّني والسواد يحيط المكان ولا بصيص أمل أو ضوء أراه فترتاح سريرة نفسي، اختراق هذا الليل الحالك والغابة الكثيفة لم أمر في حياتي في موقف كهذا؛ بل إنني لو حلمت بمكان كهذا لفررت مذعوراً. اكتشفت أن الإنسان هو الذي يختار طريقه؛ يمكن أن يسير في طريق منير زاهٍ تملأه الألوان أو يسير في طريق حالك السواد كما يحدث لي الآن، لقد اخترقت طريقاً أسود وعليّ أن أصل إلى الضياء، إلى الأمل، إلى الحياة، إلى أصوات الناس وصلاتهم وصيامهم وأكلهم وشربهم وأسواقهم وغذائهم وبكائهم وضحكهم. هجوم آخر من الكلاب أكثر شراسة من ذي قبل؛ إلا إنني عرفت سر المقاومة، سأقاومهم بالسكوت والسكون، وهكذا فعلت فانسحبوا خائبين، تذكّرت عبارة تقول: «يمضون ونبقى» نعم يمضون ونبقى نفحات من السحر من بواطن الليل ومن سحر الله في الأرض وهو لمن يريد أن يقترب من الله ولمن يريد أن يقرأ ولمن يريد أن يكتب هو سكون يشحن الذاكرة فتمتلئ بالأفكار، التعب نال مني وقدماي مثقلتان وأنفاسي لاهثة وقلبي يدقُّ ومازلت أخوض خضام الظلمة ولايزال السواد يحيطني من كل مكان ومازلت مرغماً على أن أسير وحدي في طريق لا يطأه إنسان في الليل. - اسمع طريقك شائك وخطر. - لا أحد يستطيع أن يسير ليلاً في هذا الطريق. - انتبه إلى نفسك ستمر في دروب لم تطأها قدماك من قبل. - سأجرّب وليكن ما يكون. هذا ما قلته وأنا أودّع أصدقائي في لقاء أخير، فهذا الطريق هو الفاصل بيني وبين حياة جديدة وهي مغامرتي الأخيرة. لاحت قوابيس من الضوء هناك في الأفق البعيد وهي التي تمدّني بالأمل ستشرق الشمس في صباح آخر وستنجلي هذه الظلمة؛ فهي لن تدوم؛ حتماً ستنجلي وينتهي هذا الليل الأسود بكل مخاطره وأوجاعه وآلامه وأحزانه؛ هو ليل يخيّم فوق رأسي كما هو ذاته يخيّم فوق رؤوس أبناء بلدي، ليل سيزول، رأيت ضوءاً لمسكن أحد المزارعين تشعُّ أنواره؛ شعرت بالطمأنينة والأمان، شعرت بالفرح الغامر، شعرت أنني تخطّيت الأخطار لايزال الضوء أمامي وأنا أسير نحوه بكل همّة ونشاط وسريرة، نفسي تقول لابد لليل أن ينجلي، كلب وحيد هائج هجم عليّ؛ إلا أنني عندما رأيت الأضواء واقتربت من نهاية الظلام أحسست بالخوف وظننت أن هذا الكلب سيعضّني حتماً، ولم أعد أمتلك صبراً لمقاومته ففررت هارباً بكل قوة والكلب يركض ورائي بسرعة فائقة ونباحه قتل كل السكون، صرخت: - يا أهل الدار النجدة. خرج أحد المزارعين وهو يقول: - ابشر حيّاك. - الكلاب، انقذوني من الكلاب. كان يحمل في يده عصا غليظة، وسرعان ما هجم على الكلب فولّى الكلب هارباً وطلب مني أن أتفضّل إلى المنزل للقيام بواجب الضيافة؛ إلا أنني شكرته ومضيت أحثّ قدمي نحو الشروق، نحو الضياء، نحو صباح آخر، أشرقت الشمس وأنا على ناصية الطريق.