تكتنز روحه أضواء وأنداء، وتصادف مظاهر حب الظهور والزعامة منه صدوداً وإعراضاً؛ لذا لم يطبع أياً من مجموعاته الشعرية، التي تصل إلى ست مجموعات...صاحب ذاكرة خصبة ومترعة بالأحزان..في شعره موسيقى البحتري؛ لذا إذا شعر غنى، ومتانة المتنبي، وتصوير ابن الرومي، وفكر وغرابة أبي تمام، واغتراب أبي فراس الحمداني، لكأنه قرأ دواوين هؤلاء جميعا وتمثّلها، والقارئ لشعره يجد ذلك واضحاً.. على أن الذي ينقصه القدرة على تسويق ذاته وأعماله، وتلك مشكلة تعترض الكثير من المبدعين، وقد قيل إن الشاعرة نازك الملائكة كان ينقصها هذا الشيء أيضاً، ربما يفعلون ذلك تواضعاً ونفوراً عن الصخب والأضواء، لكننا ظفرنا في هذه الزاوية بموافقة الشاعر أحمد الجبري، ظفرنا منه بهذا البوح الذي يشبه قصائده لغة وأسلوباً ..فإلى نص الحوار: من هو الشاعر أحمد الجبري؟ أحمد عبد الرحيم الجبَري من مواليد شرعب 1970م حاصل على ليسانس آداب من جامعة تعز وبكالوريوس إعلام من جامعة العلوم و التكنولوجيا، أحمد الجبري أضاف الرازق سبحانه قبل اسمه ستة أسماء، واحدا منها من نصيب حواء. ويعمل حاليا في سلك التربية والتعليم، عمل أمينا عاما مساعدا لرابطة طيف، ويعمل مسؤولا ماليا لجمعية الشعراء الشعبيين بتعز و مسؤولا ثقافيا لنادي الرشيد. تتعدد أغراض الشعر العربي، أين يجد الشاعر الجبري نفسه؟ مثلما أجدني في مختلف المدارس الأدبية أجدني، كذلك في مختلف الأغراض الشعرية قديمها وحديثها إلا أنني أتواجد بكثرة في الغرض الوطني. لماذا هذا الغرض بالتحديد؟ ربما الظرف العام هو الذي يفرض على الشاعر أن يكون متواجدا هنا أكثر من غيره. يكتنز الأدب العربي- إن في القديم أو الحديث - بشعراء اكتسبوا صفة العالمية، أي من الشعراء تجد روحك فيه؟ ولماذا؟ من القديم أتسمر عند سماع قصائد المتنبي؛ لأنه أسطورة الشعر العربي بلا منازع، ومن المحدثين كُثر . لكن الشاعر أحمد مطر يتقدمهم، وإن كان يؤخذ عليه تفرغه للشعر السياسي دون بقية الأغراض بالطبع نلتمس له العذر لطبيعة المهمة التي ألزم نفسه بها من وقت مبكر (مقارعة الحكام المستبدين) ولعله يستدرك ذلك الآن خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي أجزم بأن قصائده الجريئة ساهمت في تفجيرها. في العام 47 م من القرن الماضي كتبت الشاعرة نازك الملائكة قصيدتها الكوليرا واختطت لنفسها طريقا جديدا وإن كان السياب كتب ومثله باكثير بهذه الطريقة قبلها، إلى أي حد أنت معجب بهذه المسار؟ تقصد الشعر الحر؟ نعم . أنا مؤمن برسالة الشعر، ولا يشغلني القالب الذي كتبت به القصيدة بقدر ما أنشغل بمساحة الانفعال الشاعري في النص ومدى قدرته على إقناعي بالانجذاب إليه والتفاعل معه، النص هو الذي يفرض نفسه سواء كان عموديا أو حرا، ليس لديّ تحفظ على أي مدرسة وأنا أكتب العمودي والحر معا. -من ضمن مآخذ أصحاب الديوان على الشعراء التقليديين كشوقي أنهم شعراء مناسبات أي إن شعرهم غير صادق فنيا، إلى أي حد أنت تقف مع هذا الرأي؟ الذي يجبر الشاعر على الخطابية عدة اعتبارات، منها الموقف الذي يعيشه ونوعية الجمهور الذي يخاطبه والموضوع الذي يطرقه، لا أعتقد أن الخطابية عيب بحد ذاتها طالما وهي تحقق هدفا يقصد الشاعر إيصاله طبعا على بساط الدفق الشعوري. هذه الأحكام التي تتحدث عنها من نوع المناكفات التي تدور بين المتعصبين في المدرسة التجديدية والتقليدية وغالبا ما تكون مجانبة للصواب، هل يعقل مثلا أن خطابية ( سلام من صبا بردى أرق) لشوقي لا يتوفر فيها الصدق الفني هذا جنون! الأحكام التعميمية لا يليق أن تصدر على عواهنها من ناقد، قد يكون هذا الأمر في نص دون نص ولدى شاعر دون شاعر أما في جيل بمجمله وفي مدرسة بمجملها هذا باعتقادي إجحاف. متى تطرق القصيدة بابك؟ ليس لديها وقت محدد و غالبا ما تخطفني من بين أسرتي إلى حيث لا أدري فألوذ بالصمت تلبية لرغبتها ولطالما تركتني وحيدا أجرع الألم والندم معا قبل أن تكتمل ملامحها! إنها أشبه بطفلة شقية حادة المزاج. ارتبط الشاعر العربي بالحزن، ما علاقتك أنت به؟ أنا محظوظ بهذا السؤال. الحزن أصل الشعر ومادته و لا أعتقد أن شاعرا لا يتلذذ بنعمة الحزن و لا يستمد قيمة قصيدته من إكسيره. أتخلص من بكاء طفلي خلفي عندما أهم بمغادرة المنزل بتكليفه بمنصب إغلاق الباب ويسكتني الشعر من اعتمال حزني بتكليفي بمهمة كتابة القصيدة، باختصار أخي سامي: بالشعر أعالج حزني وأصرفه وصفة لكل حزين!. لكن الشاعر في الثورة غادر حزنه وهنا دعني أسألك، ما الذي تغير في الشاعر بعد الثورة؟ اسمح لي أن أقول لك: إن الشاعر في الثورة لم يغادر حزنه بل غادر يأسه وإحباطه، وهذا يفرق كثيرا. الشاعر في الثورة تغير تغيرا جذريا. لقد اكتشف بالثورة ذاته واكتشف بها مدى الدمار الذي أحدثه النظام السابق في نفس الإنسان اليمني كون الشاعر أحدهم وهو اليوم عاكف على ترميمها وإعادة ترتيبها. إنه لم يعد ذلك المحبط اليائس الذي عكسته نصوصه قبل الثورة. نعم لم يعد ذلك الشخص على الإطلاق. الشاعر الثائر اليوم متفائل يحس وكأنه خلق من جديد إنه سعيد؛ لأنه يشاهد بأم عينيه عروش الطغاة تتهاوى تحت ضربات قصائده بحق وحقيقة، وليس بالخيال بعد أن عاندت تلك العروش طويلا. هذا يقودنا إلى أن نتساءل: ما الدور الذي قدمه الشعراء في إذكاء حماس الجماهير؟ أشكرك على هذا السؤال! الثورة اليمنية يسميها البعض بثورة الفن والأدب وأنا أؤيد هذه التسمية فمقدار الإصدارات من القصائد المغناة للثورة اليمنية يفوق أية ثورة من ثورات الربيع العربي. الشاعر هيأ للثورة وبشر بها ومارسها مع أول شرارة لانطلاقتها و رافقها ساعة فساعة، وقد ظل حاديها ومحفزها و مثبتها وناطقها الرسمي بالقصيدة والأنشودة والهتاف وهو اليوم يمثل المراقب والمقيِّم للمسيرة الثورية في طريق استكمال بقية الأهداف؛ ولأن ثورتنا سلمية فقد تناغم الشاعر تماما مع الثورة؛ كون الشعر وسيلة سلمية. -هناك شاعر إنجليزي لا أذكر اسمه بالضبط يقول: ( من حقي أن أن أفخر بشعري؛ لأني أجعل جلود الظالمين تئن تحت سياط كلماتي) إلى أي حد أنت تتفق مع هذا الرأي؟ هذا صحيح وأنا أتفق معه تماما؛ ولهذا السبب اعتمدته الثورة كأحد أسلحتها الفعالة في وجه الترسانة العسكرية التي لم تقاوم طويلا أمامه لقد صمدت القصيدة بالفعل في وجه القذيفة فاختفت أصوات القذيفة أو كادت فيما ارتفع صوت القصيدة، وعلا كعبها. كيف تغلب القصيدة القذيفة، هل هذا يستقيم مع المنطق!؟ الذي لا يستقيم مع المنطق العكس، القصيدة ميدان عملها العقل والشعور ووظيفتها الإقناع والإمتاع أما القذيفة فما ميدان عملها!؟ وما وظيفتها!؟ ألست معي أن القذيفة لا يصفق لها الناس حين تطلق بل يغلقون مع دويها آذانهم بما في ذلك من يطلقها!؟ وهذا لا يتم مع القصيدة التي يصفق لها الناس من قلوبهم! وهنا سر الانتصار. في علم الاتصال الفعل المؤثر إيجابيا هو الذي يجذب الناس نحوك وليس الذي يصرفهم عنك وهذا ما توافر في كل وسائل ثورتنا العظيمة بما فيها الشعر وافتقدته وسائل النظام السابق الذي انصرف الناس من حوله فقط لأن العنف سلاحه الوحيد. لكن هناك بعض الشعراء من بدأ يغني خارج سرب الثورة. الماء تفارقه زرقته الأخاذة بمجرد أن يهم بمغادرة نهره إلى جرة ضيقة أو إلى حوض ضحل، وتلك أقل عقوبة يستحقها! ومثله الشاعر الذي يحاول أن يغرد خارج السرب. لست معك في كل ما تقول . وأكاد أجزم أنك لا تجد شاعرا معتبرا وقف ضد الثورة أو يحاول ان يقف لاحقا. وإن وجد فهو الشاذ الذي خرج عن القاعدة. كل المثقفين المعتبرين وقفوا إلى جانب الثورة وهذا من فضل الله على الثورة والثوار . وإذا افترضت أن ما تقوله واقع فإن هذا الشاعر يكون بهذا قد حكم على نفسه بالانتحار . لا أعتقد أن شاعرا عاقلا سيغامر بإحراق تاريخه المشرف في منابر الثورة . ختاماً. ما الذي تعنيه لك كل من: القصيدة؟ نهر نغتسل به من أدراننا. الثورة ؟ حركة عارمة للشعوب نحو الهدف. الوطن؟ الحرية. الصفحة اكروبات