المعلومات القليلة التي رشحت عن حوار القاهرة بين حركتي "فتح" و"حماس" برئاسة كل من الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل، هذه المعلومات لا تبشّر بأن ثمة مصالحة حقيقية قادمة على الطريق، حتى لو تدخلت لتحقيقها كل الأمة العربية، وأن المصالحة الحقيقية مسألة متروكة للزمن . ما نقصده بالمصالحة الحقيقية هو أن يجري حوار وطني جدي جامع يُراجع التجربة الماضية بكل ما لها وما عليها، لاشتقاق استراتيجية وطنية وبلورة برنامج سياسي يلخّص القواسم المشتركة ويلتزم بالحقوق والثوابت الوطنية التي قررتها الشرعية الدولية، وإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية كافة وعلى رأسها منظمة التحرير على أسس وطنية وبما يشمل كافة ألوان الطيف السياسي . مثل هذه المصالحة تعني إعادة التركيز وتأكيد طبيعة المرحلة بما أنها مرحلة تحرر وطني أساساً، الأمر الذي يحدد طبيعة برامج ومهام وآليات عمل المؤسسات الوطنية التي ينبغي أن يُعاد بناؤها وفق معايير الكفاءة والوطنية وعلى أساس من الشراكة الكاملة والتعددية دون إهمال عناصر الصمود التي تستوجب احترام حقوق وحريات المواطنين، بحسب الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل . وقال عوكل: إذا كان هذا هو معيار المصالحة الحقيقية، فإن الحوارات الجارية في أكثر من مكان، إنما تعكس غياب الإرادة السياسية، وطغيان منطق المحاصصة والحسابات الفصائلية، بما يؤدي إلى التسليم بالأمر الواقع والتعايش معه مع تحسينات في تعامل القوى مع بعضها بعضاً، وانفراجات هنا وهناك . إن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا نحتاج إلى وساطات وتدخلات سواء من الشقيقة مصر أو من أي طرف آخر، ولماذا نحتاج إلى استمرار الحوارات الثنائية فقط، ولماذا نحتاج إلى جلسات أخرى والمزيد من المواعيد الجديدة، وكل ذلك في إطار من الكتمان والسرية . الأكيد والثابت أن وفود الفصائل والشخصيات المستقلة مستعدة، دائماً لتلبية أي دعوة من قبل أي طرف، دولة أكانت أم حزباً سياسياً أم حتى منظمة مجتمع مدني، تبادر لاستضافة حوارات عقيمة يطغى عليها البعد السياحي أكثر من أي شيء آخر . فلقد بذلت بعض المؤسسات الوطنية الفلسطينية جهوداً مضنية في الحوار والبحث الموضوعي، لإنتاج أوراق عمل مدروسة وجدية تصلح لمعالجة كافة الشؤون والملفات المتعلقة بالمصالحة، غير أن هذه الأوراق، تظل ملكاً لمن أنتجوها، فالمعنيون بالأمر لا يسمعون إلاّ لهواتفهم الداخلية ولا يلتزمون إلاّ بحساباتهم الخاصة . في الواقع ثمة إصرار على وجود تباين جذري في البرامج والخيارات، وثمة إصرار من كل طرف على خياراته وبرامجه، رغم أن التجربة القريبة الماضية أكدت ألا مقاومة مجدية من دون سياسة ولا سياسة مثمرة من دون مقاومة، وأنها أي التجربة الإنسانية أكدت أن ثمة إمكانية بل ضرورية لصياغة برامج تقوم على القواسم المشتركة، مع احتفاظ كل طرف بحقه في متابعة النضال من أجل تحقيق برنامجه . هكذا انتصر الفيتناميون، والصينيون والجزائريون والجنوب إفريقيين . . وهكذا يمكن أن نحقق الانتصار . عند النظر للاتفاقيات التي تم التوقيع عليها من قبل كافة الفصائل الفلسطينية بشأن المصالحة، سنقف على حقيقة أن الانقسام كان بمقدمات "إسرائيلية" وبقرار وأيد فلسطينية، لكن إنهاء الانقسام لم يعد قراراً فلسطينياً، إذ إن "إسرائيل" صاحبة المصلحة في بقاء الانقسام تتحكّم في عدد من الملفات الأساسية، والرأي لعوكل . ومن الواضح أن مصالحة يسود الشك وأزمة الثقة بين أطرافها، وخوف كل طرف من الآخر، مثل هذه المصالحة لا تنتج إلى محاصصة، وتمسك كل بما يملك لنفسه من ضمانات خلقتها وعززتها مرحلة الانقسام . ويعتقد عوكل أن الانتخابات على مستوى المجلس الوطني، وعلى مستوى المجلس التشريعي والرئاسة، هي التي تشكّل المدخل الصحيح والمناسب لمعالجة آثار الانقسام، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس ومبادئ أكثر رسوخاً، ولكن السؤال هو من يملك القرار بشأن إجراء هذه الانتخابات؟ . وهذا على افتراض أن الكل مقتنع بالعودة إلى صناديق الاقتراع . وإحالة الأمر للشعب . . أسئلة كثيرة يطرحها ملف الانتخابات من حيث المبدأ، وأهمها هل ظروف التجمعات الفلسطينية في الأردن وسورية ولبنان تسمح بإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني؟ إذا كان الجواب يوفر الذريعة للتهرب من هذا الاستحقاق، فهل يكون البديل، تعيين مجلس وطني جديد محكوم لمنطق المحاصصة؟ وعلى أي أساس يمكن أن تتم مثل هذه المحاصصة؟ في الواقع ثمة ضرورة لإجراء تغييرات جذرية في واقع الحال القائم على السيطرة الأحادية ل"حماس" في غزة، و"فتح" في الضفة، قبل أن نتحدث عن انتخابات حقيقية تشكل مدخلاً حقيقياً لإعادة توحيد مؤسسات القرار الفلسطيني، والمؤسسات التشريعية والتنفيذية، فهل يمكن لحوار المحاصصة أن ينتج معادلة، تصلح للبناء عليها، والاتفاق على آليات تؤدي بالتدريج ولو بعد حين، إلى إعادة توحيد النظام السياسي الفلسطيني؟ إن المداخل الخاطئة لمعالجة أزمة خطرة من النوع الذي تعانيه الساحة الفلسطينية بسبب الانقسام من شأنها أن تقدم مخرجات خاطئة لا تذهب إلى معالجة عمق الأزمة بل إلى تجميلها . ويتفق الكاتب وأستاذ العلوم السياسية الدكتور إبراهيم أبراش مع عوكل في كثير مما ذهب إليه، ويقول: بعد كل ما جرى على الأرض والمتغيرات من حولنا سواء الاعتراف الدولي بفلسطين دولة وإنجاز المقاومة في غزة أو على مستوى استمرار الاستيطان "الإسرائيلي" ورفض "إسرائيل" لعملية التسوية وتجاوزها لاتفاق أوسلو وتوابعه، بعد كل ذلك لا يجوز أن نؤسس لمصالحة على قاعدة اتفاقية أوسلو أو مصالحة تُرجع الأمور إلى ما كانت عليه قبل وقوع الانقسام في حزيران (يونيو) 2007 . حتى على مستوى المصالحة بالصيغة المتفق عليها، هل ستسمح "إسرائيل" بأن تتوحد غزة المدججة بالسلاح والصواريخ من كل الأصناف مع الضفة حيث الاحتلال والاستيطان والمستوطنين والتنسيق الأمني، في حكومة وسلطة واحدة؟ هل ستجلس "إسرائيل" تتفرج علينا ونحن نجري الانتخابات ونشكل حكومة ونوحد الضفة وغزة ونقول ل"إسرائيل" فلتذهب مخططاتها وخطة شارون لفصل غزة عن الضفة للجحيم؟ هل ستخضع "إسرائيل" للإرادة الفلسطينية بالوحدة وإنهاء الانقسام؟ لا نريد أن نقلل من قيمة الإرادة الفلسطينية ولا من جهود الأخوة في مصر لتحقيق المصالحة ولكن الرغبات والإرادة لوحدهما غير كافيين في حالة كحالة الانقسام، إنهما أساسيان وكافيان لمصالحة مدخلها انتفاضة أو ثورة على الاحتلال ولكن غير كافيين لمصالحة في إطار تسوية سياسية والتزامات دولية . ويقول أبراش: منذ عام تقريبا جرت أحداث أدت لتفكيك بعض العقبات أمام مصالحة إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل يونيو/ حزيران ،2007 وأوجدت مستجدات لم تكن حاضرة عند توقيع تفاهمات المصالحة، ما يجعل المشهد السياسي الفلسطيني يعج بالمفارقات . فإن كان الربيع العربي الذي أنهى انقسام العالم العربي إلى معسكر ممانعة ومعسكر اعتدال وهو ما كان يغذي ويعزز الانقسام الفلسطيني، إلا أنه في المقابل عزز من مكانة حركة "حماس" في غزة . وإن كان توقيع حركة "حماس" لتهدئة مع "إسرائيل" برعاية مصرية وفر أحد شروط الرباعية وهو وقف المقاومة أو الأعمال المسلحة ضد "إسرائيل" إلا أن الهدنة في المقابل زادت من حالة فصل غزة عن الضفة ومن دولنة القطاع . وإن كانت موافقة حركة "حماس" على خطوة الرئيس عباس بالذهاب إلى الأممالمتحدة وقبلها موافقتها في اتفاقية المصالحة في القاهرة على هدف الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة حققت شرطا آخر للرباعية وهو الاعتراف بالشرعية الدولية وب"إسرائيل" ولو بطريقة غير مباشرة، إلا أن هذه الخطوة جعلت "حماس" أكثر قبولاً من طرف المجتمع الدولي وبالتالي زادت من تطلعها نحو قيادة النظام السياسي . وأخيرا فإن الإنجازات التي تم تحقيقها من خلال مواجهة العدوان على غزة والتصويت لصالح فلسطين في الأممالمتحدة وفرت الشرط الشعبي الفلسطيني أو الداخلي للمصالحة من خلال استنهاض حالة شعبية غير مسبوقة وتفاعل الجماهير في الضفة وغزة، إلا أن هذه الحالة الشعبية ذات التوجه الوحدوي زادت من قلق ورعب "إسرائيل" وجعلتها من خلال تحكمها في الجغرافيا أكثر رفضاً لمصالحة فلسطينية تعيد توحيد غزة والضفة تحت سلطة وحكومة واحدة . لا ندري إلى أي حد ستذهب القيادة الفلسطينية في المواجهة السياسية مع "إسرائيل" وواشنطن بحيث تبني على القرار الأممي بالدولة ممارسات على الأرض بإلغاء حكومة سلطة أوسلو وتشكيل حكومة الدولة الفلسطينية وبداية ممارسة أشكال سيادية على الأرض . إن أي حديث عن انتخابات أو حكومة أو سلطة يجب أن يكون في إطار رؤية جديدة تسعى لتكريس مؤسسات الدولة الفلسطينية . الانتخابات يجب أن تكون لرئيس دولة فلسطين وليس رئيس سلطة حكم ذاتي، ولأعضاء برلمان فلسطيني وليس مجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي، كما أن إعادة توحيد الأجهزة الأمنية يجب أن يكون في إطار وظيفة جديدة لهذه الأجهزة كأجهزة أمنية للدولة الفلسطينية وليس أجهزة أمنية تنسق مع "إسرائيل" في إطار التزامات أوسلو.