رئيس الاتحاد العام للكونغ فو يؤكد ... واجب الشركات والمؤسسات الوطنية ضروري لدعم الشباب والرياضة    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    إعلان حوثي رسمي عن عملية عسكرية في مارب.. عقب إسقاط طائرة أمريكية    أمطار رعدية على عدد من المحافظات اليمنية.. وتحذيرات من الصواعق    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن بقوة السلاح.. ومواطنون يتصدون لحملة سطو مماثلة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    مأساة في ذمار .. انهيار منزل على رؤوس ساكنيه بسبب الأمطار ووفاة أم وطفليها    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارة إلى قبر لوركا
نشر في الجنوب ميديا يوم 19 - 11 - 2012

كم كرهت لوركا عندما قرأته بالعربيّة، فتعلّمت الإسبانيّة لعلّني أحبّ إبداعاته . وهذا ما كان . في بداية إقامتي في إسبانيا ذهبت لألتقي بابن أخته السّيّد مانويل فيرنانديث مونتيسينوس غارثيّا، وكان آنذاك رئيس مؤسّسة لوركا . تحدّثنا طويلاً، صارحته بكرهي للوركا مترجماً إلى العربيّة، وحبّي له بلغته الأصليّة . طرحت عليه الكثير من الأسئلة الّتي كانت تخطر في بالي آنذاك . حزنت حين أكّد لي أن ليس للوركا أيّ جذور عربيّة . فما أصعب أن يعرف العربيّ أنّ واحداً من الشّعراء الّذين يفاخر بهم بنو قومه ليس ذا أصل عربيّ . وبذلك نقصت قائمة تفاخرنا واحداً . غير أنّ أملي في أن يكون غجريّاً، من طبقة الفقراء المعذّبين الرّحل، جعلني أصدم الرّجل حين قلت له: "لا بأس، المهمّ أنّه غجريّ"، فأشار إلى أنّ إحدى جدّات لوركا، إن لم تكن مئة في المئة غجريّة، فإنّها كانت هجينة على الأقلّ . يا لها من خيبة للرّومانسيّة الّتي فقدت شاعراً غجريّاً لم يكنه أبداً . إذاً لم يبقَ أمامي سوى سؤال أخير في هذا المنحى، وكنت أتوجّس منه كثيراُ، فقد قرأت قبل أيّام بأنّ لوركا كان مثليّاً، فلم أصدّق، بل ورفضت الأمر بشكل قاطع . لذلك، فقد سألت محدّثي وأنا متأكّد من نفيه لهذه الإشاعة، فأكّدها لي . كدت أخرج من ثيابي من شدّة القهر . كيف لقامة مثل لوركا أن يكون مثليّاً؟ تساءلت أنا العربيّ، وأضفت "لماذا إذاً كنّا نعتقد أنّه عربيّ وغجريّ طوال هذا الوقت؟" . إنّها الأسطورة الّتي خلقها موته حوله، لو لم يمت لوركا تلك الميتة التّراجيديّة المدوّيّة، فربّما ما كان ليحصل على الشّهرة الكبيرة الّتي نالها . لقد استغلّ لوركا، مع تجريد كلمة استغلال هنا من معناها الوقح، مسألة الموت خلال الحرب الأهليّة ليصبح أسطورة على كلّ لسان . أنا بحاجة إلى ميتة لوركا لأحصل على كرامة النّبيّ في وطنه . لكنّني فضّلت أن أستمتع بما تبقّى لي من حياة تعيسة، أراقب كيف تُصنع الأساطير على أن أكون واحدة منها . وطال الحديث بيني وبين ابن أخت لوركا، ورغم كلّ الحقائق الّتي كشفها لي فإنّني أصررت في النّهاية، بيني وبين نفسي، على أنّ فيدريكو كان عربيّاً، غجريّاً، ومثاليّاً لا مثليّاً . كلّ إنسان حرّ في رسم تفاصيل شاعره . وكان آخر طلب لي من مانويل هو أن يدلّني على قبر لوركا لأزوره . كنت أريد أن أتحقّق شخصيّاً، ومن لوركا نفسه، من كلّ ما قيل عنه، فأنا ماهر في قراءة الملامح، حتّى ملامح القبور . لكنّه فاجأني بأن قال لي "أنا سأدلّك على البيت الّذي كان يسكنه، أمّا قبره فابحث عنه بنفسك" . بدا لي ذلك لغزاً جميلاً، وكأنّه مهمّة من مهام إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، حين تطلب الأميرة من خطّابها حلّ بعض الألغاز، ومن ينجح بذلك يتزوّج بها، وأمّا الفاشلون فيخسرون رؤوسهم . قبلت التّحدّي، فأنا قد خسرت رأسي منذ زمن طويل . وقرّرت أن أبدأ حلّ لغز قبر لوركا من العلامة الأولى الّتي أعطانيها ابن أخته، بيت لوركا . فشددت الرّحال إلى غرناطة .
لم يكن الموضوع صعباً، فما إن سألت رجلاً عجوزاً "أين بيت . . .؟" حتّى قاطعني قائلاً "بيت لوركا لا يضيّع أحداً"، ثمّ أعطاني العنوان . "يا اللّه!" صرخت عيناي حين رأت الحديقة الّتي تحيط بمنزل الشّاعر . تضيع نظراتك في مساحة خضراء تبلغ واحداً وسبعين ألفاً وخمسمئة متر مربّع . لا أريد أن أصف ذلك المكان حتّى يتجمّد جماله عند كلماتي . فقط أقول لكم ما إن وطأ بصري رحابه حتّى أحسست بنفسي شاعراً، وارتجلت قصيدة لم أكتبها، ولم أعد أذكر منها شيئاً . بعد ذلك دخلت إلى منزله الفارغ إلاّ من ذكرياته الكثيرة . لم أعتنِ بتفاصيله، كان كلّ همّي أن أعثر على أيّ إشارة تساعدني على مكان وجود قبر لوركا . وصل بي الأمر لأن أفكّر بأنّه يمكن أن يكون مدفوناً في البيانو الّذي يطلّ على الحديقة، بين أنغام أشعاره . وكأيّ مخّ عاديّ قلت لنفسي من الأرجح أن يكون مدفوناً في الحديقة، فرحت أراقب كلّ الزّوايا والأزهار والعشب الأخضر، ولكن لا شيء كان يوحي بوجود رفاته هناك . وقبل أن أغادر البيت سألت حارسه "أين قبر لوركا؟"، فأجابني: "هناك قتلوه، أمام كرم الزّيتون ذاك" مشيراً بيده إلى مكان حول البيت . وأضاف: "أمّا القبر فابحث عنه بنفسك" . أدهشني جوابه وأيقنت بأنّ هناك لغزاً متّفقاً عليه في الأندلس يريدون منّي حلّه، ففرحت أكثر . وغادرت وأنا أرمق مكان اغتياله لعلّي أجد دليلاً على مثواه، ولكن باءت محاولتي بالفشل . وكأيّ باحث أثريّ، أخذت خريطة إسبانيا ورحت أتأمّلها عساها تعطيني معلومة مفيدة، وبالفعل وجدت ضيعة اسمها لوركا وهي تابعة لمدينة "مُرْثية"، فهتفت منتصراً "وجدتها، وجدتها"، ومن دون تفكير أخذت الحافلة في اليوم التّالي وذهبت إلى القرية المسمّاة لوركا، وأنا متيقّن بأنّه مدفون هناك، ولذلك سمّوا هذه القرية باسمه . لكنّ تساؤلاً حيّرني "لماذا دُفن لوركا في لوركا؟ أقصد في "مُرْثية" وقد عاش في غرناطة؟" . ولأنّي أجد أجوبة جاهزة دائماً، فقد قلت لنفسي "ربّما أحبّ لوركا أن يُدفن في المدينة الّتي ولد فيها ابن عربيّ تيمّناً بأصله العربيّ" . سبحان اللّه على عنادي، فرغم أنّ ابن أخت الشّاعر أكّد لي أنّه لا يمتّ للعرب بصلة إلاّ أنّني مازلت مصرّاً على انتمائه إلى بني قومي . يعني "عنزة ولو طارت" . المهمّ، لم تطل حيرتي، فعند وصولي إلى قرية لوركا ظننت أنّ النّاس ستدلّني على قبر لوركا قبل أن أسأل أسوة بمزارات الرّجال الصّالحين، وحين لم يحدث شيء من هذا، سألت عجوزاً: "أين لوركا؟"
- هنا . أنت الآن في لوركا . ألا تعرف القراءة؟
- أقصد أين قبر لوركا؟
- تقصد أين مقبرة الضّيعة؟
- بل قبر لوركا .
- هل سمعت بحياتك أنّ لقرية قبراً؟ أم أنّك تريد أن تميتنا أحياء وتدفننا في قبر جماعيّ؟
أردت أن أوضّح للعجوز سؤالي، لكنّه عاجلني بأن تركني ومضى، وهو يظنّ بأنّني مجنون . فعرفت خطئي في صيغة طرح السّؤال . وسألت شخصاً آخر مباشرة عن قبر الشّاعر فيديريكو غارثيّا لوركا، ففوجئت بأنّه ليس مدفوناً هناك . يا للصّدمة، فلوركا ليس مدفوناً في لوركا . ما أصعب أن ندفن جسدنا في جسد آخر! والصّدمة الأكبر كانت باكتشافي أنّ اسم القرية لا علاقة له بالشّاعر فهي أقدم منه بكثير . عدت أدراجي إلى غرناطة كسير الخاطر . فخطر لي أنّه يمكن أن يكون في مسقط رأسه "فوينتي باكيروس" . وهناك لم أجد له أثراً، فحزنت، فأشفق عليّ أحدهم وقال لي: "لماذا لا تذهب إلى "بالديرّوبيو"، حيث عاش لوركا طفولته، وتبحث عن بغيتك هناك؟" . وذهبت إلى تلك الضّيعة، فاكتشفت أنّ اسمها، في العهد الرّومانيّ كان "أكوا روسا" أي "ماء الزّهر"، ولكن مع الزّمن تحوّلت إلى "أسكيروسا" وتعني بالعربيّة "المقرفة"، هكذا كانت تُسمّى عندما كان يعيش فيها لوركا . قلت لنفسي: "وهذا دليل على أنّ كلّ الأوطان جميلة في عيون مواطنيها، حتّى لو كانت مقرفة . فجمالها يأتي من نظرتنا إليها" . وبعد جولة متأمّلة في ملعب طفولة لوركا، وجدت بيته، وكذلك بيت "برناردا ألبا" . ولكن لم أجد ضالّتي . فقرّرت أن أعود أدراجي وقد بلغ بي التّعب كلّ مبلغ . لم أستطع أن أنام تلك اللّيلة من شدّة غيظي لفشلي . ولكن في لحظة إنهاك حقيقيّة غفوت قليلاً، فوقعت أسيراً لحلم غريب، رأيتني أسيراً في عتمة اللّيل بحثاً عن مثوى الشّاعر، فمررت بمصارع ثيران كان يهيم في أديم الأرض، والدّم يغسله من رأسه حتّى قدميه، ما إن رآني حتّى قال لي "اتبعني، فأنا أيضاً أبحث عن قبر لوركا" . وقبل أن تظهر ملامح الدّهشة على وجهي أردف "عرفت أنّك تبحث عنه لأنّ كلّ من يمرّون من هنا هم من الباحثين عن قبره" . هممت بأن أسأله عن الدّماء الّتي تكلّله، فقاطع فضولي وقال: "أنا أيضاً أريد أن أزور قبره، فقد كان صديقاً وفيّاً . أعرّفك بنفسي، "إيغناثيو سانتشيث ميخيّاس" لقد رأيت لوركا آخر مرّة السّاعة الخامسة بعد الظّهر" .
- السّاعة الخامسة بعد ظهر اليوم؟
- بل بعد ظهر ذلك اليوم . . .
- أنت إذاً صديقه إيغناثيو الّذي صرعه الثّور .
لم يجبني . وكأنّ كبرياءه انجرح من تعبيري له بأنّ الثّور صرعه . فقط أشار إليّ بسيفه أن أتبعه . ففعلت . ونحن في الطّريق رأينا شاعراً شابّاً ينشد أشعار لوركا، وقبل أن نسأله قال "هناك، تحت ذلك القمر، تجدان قبر لوركا" . تساءلت بدهشة "لماذا قال ذلك القمر، ولم يقل القمر؟ كم قمراً في السّماء"، فجاءني جوابه "هناك قمر واحد للجميع، ولكلّ منّا قمر" . ومضيت مع "إيغناثيو"، فقلت له بعد صمت طويل: "لو كنت حيّاً لانتقمت لصديقك من الدّيكتاتور، أليس كذلك؟" فأجابني بحزم: "مصارعة الثّيران أسهل من مصارعة الدّيكتاتور" . وفي اللّحظة نفسها فوجئنا بامرأة تقول لنا: "لا يُهزم الدّيكتاتور إلاّ بسيف الحرّيّة" . نظرنا إلى مصدر الصّوت، فابتسمت لنا "ماريانا بينيدا"، ثمّ غادرت مجال رؤيتنا . تابعنا طريقنا فاستوقفتنا "يرما" وهي تبكي، قالت لنا: "لن تجدا قبره . لوركا لم يولد أبداً . فأمّه كانت عاقراً مثلي" . روّعتني تلك الصّورة، وقبل أن ألتقط أنفاسي قبضت برناردا ألبا على ارتباكي، موشّحة بالسّواد كعادتها . نظرت إليّ بعينيها القاسيتين، فرأيت فيهما بقايا دموع . أقسم إني رأيت دموعاً في عيني "برناردا" القاسيتين . قالت لي بصوت مفعم بخليط من الحزن، والقهر والثّأر: "لا يليق بلوركا أن يكون له قبر، ومع ذلك فقبره ليس بعيداً من هنا . اتبعاني" . قالت ذلك ولكنّها لم تتحرّك من مكانها . وبينما كنت أحملق بعينيها توسّعت حدقتاهما، وكشفتا عن أفق صحراويّ واسع، انطلق فيه "إيغناثيو"، وكذلك فعلت مدفوعاً بفطرتي . كان الأفق يتسارع تحت أقدامنا دون أن نتحرّك . ما هي إلاّ لحظات حتّى وصلنا إلى كتلة من التّراب، رُصفت حولها بعض الحجارة بإتقان، وفي كلّ حجر منها كان هناك رسم؛ قمر، قيثارة إسبانيّة، مصارع ثيران، غجريّة ترقص، وطفل تائه النّظرات . . . كان القبر متواضعاً يليق بشاعر كبير . فجأة سمعنا صوت "برناردا"، الّتي لم أعد أراها، يقول: "لديكما بضع دقائق لزيارة القبر، فأنا أريد أن أعود إلى بيتي قبل المغيب خشية أن تفكّ إحدى بناتي الحداد على زوجي الّذي مات منذ ثماني سنوات" . اختلطت لديّ الأوقات، إذ كان الوقت الّذي خرجت فيه بحثاً عن قبر لوركا ليلاً، و"برناردا ألبا" تريد أن تعود إلى بيتها قبل المغيب، فكيف يمكن ذلك؟ بينما أنا كذلك أيقظني صوت حادّ قادم من كتلة التّراب تلك: "أهلاً يا غريب . ما الّذي دفعك لقطع كلّ تلك المسافات بحثاً عن قبري؟" . ارتعشت من صوت لوركا، رغم أنّه لم يتطابق مع الطّابع الرّومنسيّ الّذي رسمته له في ذاكرتي السّمعيّة، فأجبته: "كنت أريد أن أرى إذا كان قبرك يشبهك" .
- وماذا وجدت؟
- لا أعرف . ربّما يشبهك . فأنا لم أرَك كي أقارن بينكما .
- ألم ترَ صوري أبداً؟
- أنت تعرف يا شاعري أنّ الصّورة لا تمثّل محتواها .
- كأنّك تدعوني لأخرج للقائك . لن تنجح خديعتك وسأبقى حيث أنا .
- جبان . توقّعت ذلك، فأنت هربت أمام الدّيكتاتور فأطلق عليك النّار من الخلف . كان عليك أن تركض إلى الخلف لا إلى الأمام حتّى ترى قاتلك .
- نتيجة الرّكض إلى الخلف أو إلى الأمام أمام الدّيكتاتور تؤدّي إلى مصير واحد، الموت .
- ولكن . . .
قاطعني صوت "برناردا ألبا" بحزم "عليكما الخروج فوراً، وإلاّ أغمضت عينيّ عليكما، فتبقيان مدى الحياة أمام قبر لوركا" . أسرعت الخطا وخرجت، ولكن . . . أين "إيغناثيو"؟ فأنا رأيته يدخل معي، غير أنّني لم ألحظ وجوده خلال حديثي مع لوركا! فأين ذهب؟ شعرت "برناردا ألبا" بحيرتي، فقالت لي: "عن أيّ قبر تتحدّث؟ فليس للوركا قبر، و"إيغناثيو" مات قبل صديقه في حلبة مصارعة الثّيران . إنّك تهذي أيّها الغريب" . "كيف لا يكون للوركا قبر؟" تساءلت وكرّرت التّساؤل مرّات: "كيف لا يكون للوركا قبر؟"، "كيف لا يكون للوركا قبر؟" . . .
ليس هناك أفضل من أن تستيقظ من نومك لكي تقضي على كلّ تساؤلاتك . وهذا ما فعلت . استيقظت من حلمي الّذي دام عشر سنوات . غير أنّ تصميمي زاد في البحث عن قبر لوركا . وبالمصادفة، قرأت في صحف ذلك اليوم خبراً يفيد بأنّ الحكومة الإسبانيّة أعطت الأمر بالتّنقيب عن قبر لوركا في الطّريق بين "بيثنار" و"ألفكار" (الفخّار بالعربيّة)، بالقرب من "النّبع الكبير" . لم أشرب قهوتي يومها، خرجت حتّى دون أن أغسل وجهي، توجّهت إلى تلك المنطقة . وهناك كان يقف لفيف من المنقّبين حول قبر قيل إنّه اللّحد الّذي يضمّ رفاة الشّاعر الأندلسيّ مع آخرين . إذاً لقد كان قبراً جماعيّاً، تختلط فيه بقايا الهياكل العظميّة لكلّ من سقطوا في ذلك اليوم، بنيران الدّيكتاتور "فرانكو" من الخلف، فكلّهم ركضوا إلى الأمام، ظنّاً منهم أنّ النّجاة كانت في الأمام . وقفت أنظر كيف كانوا يحفرون القبر كأمّ حنون حتّى لا يؤذوا العظام وهي رميم . بدأت تفوح روائح الموسيقا الشّعريّة من ذلك القبر الكبير، أعجبتني فكرة أن يدفن شاعر الشّعب مع الشّعب . كان قلبي يخفق بشدّة مع كلّ ضربة معول، أو اجتراحة ترابيّة، وكأنّني سألتقي بحبيبي . أنا الّذي لم أحتمل يوماً رؤية الموتى، إذ لم أرَ أمّي ولا أبي ولا أخي بعد لحظة فارقوا الحياة، كنت أتلهّف لرؤية رفات لوركا . لماذا؟ لأنّني كنت أعتقد أنّ رفاته وهيكله العظميّ ما هي إلاّ كلمات وكلمات وكلمات لا عظام فيها . يا للدّهشة! لقد انتهت عمليّات الحفر والتّنقيب، وها هو قبر لوركا الجماعيّ . . . فارغ، إلاّ من بعض الكلمات خطّها الشّاعر فوق التّراب تقول: "عذراً لغيابي عن منصّة الموت اليوم، فقد دُعيت لأحضر عرس الدّم . وقد أبهرني أن أرى صيغة مسرحيّتي بالعربيّة، وعلى أرض الواقع . وحين ينتهي عرس الدّمّ الشامي، سأعود إلى موتي بسلام" .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.