الحوثيون يفرضون حصاراً خانقاً ويشنّون حملات اختطاف في احدى قرى حجه    تاليسكا سيغيب عن نهائي كأس خادم الحرمين    كريستيانو رونالدو يتصدر قائمة فوربس للرياضيين الأعلى أجرا    النص الكامل وفيديو كلمة الرئيس العليمي في القمة العربية 33 بالبحرين    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    عبدالملك الحوثي يوجه دعوة لروسيا والصين ودولة عربية بخصوص عمليات البحر الأحمر!    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    تمييز وعنصرية.. اهتمام حوثي بالجرحى المنتمين للسلالة وترك الآخرين للموت    مع استمرار هجمات المليشيات.. ولي العهد السعودي يدعو لوقف أي نشاط يؤثر على سلامة الملاحة البحرية    إصابة مواطن ونجله جراء انفجار مقذوف من مخلفات المليشيات شمال لحج    موقف بطولي.. مواطنون يواجهون قياديًا حوثيًا ومسلحيه خلال محاولته نهب أرضية أحدهم.. ومشرف المليشيات يلوذ بالفرار    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    من يقتل شعب الجنوب اليوم لن يسلمه خارطة طريق غدآ    أسباب أزمة الخدمات في عدن... مالية أم سياسية؟؟!!    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    عاجل: قبائل همدان بصنعاء تنتفض ضد مليشيات الحوثي وتسيطر على أطقم ومعدات حوثية دخلت القبيلة "شاهد"    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    تطور مفاجئ.. فريق سعودي يقدم عرضا ضخما لضم مبابي    اختتام البرنامج التدريبي لبناء قدرات الكوادر الشبابية في الحكومة    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الثامن بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


8
كانت الشمس قد غافلت سحابة بيضاء ، ففَرَّتْ من تحت عباءتها وتنهدت ، فإذا بوجهها يتألق في كبد السماء ، وأخذت ترسل أشعتها الذهبية في رفق وحنان ، ثم ما لبثت أن اشتدت سطوتها فلفحت بصهدها وجوه الفلاحين الذين اكتووا بِحَرِّ القيظ ، فتصبب عرقهم من أجسادهم ، وتبللت ثيابهم ، وتيبستْ حلوقهم وشفاههم وهم يُذَرُّون الحَبَّ بمناسيسهم وغرابيلهم ، فبدت أكوام القمح والشعير بأشكال هرمية تسرُّ الناظرين. وها هي البيادر يعمرها الخير الوفير بعد موسم حصادهم ، ولكن هذا الخير ليس كله لأصحابه الزارعين الحاصدين الدارسين ، وإنما يشاركهم فيه الدائنون والشيخ العصفوري بما فرض عليهم من ضرائب يدفعونها له وهم صاغرون، وما يتبقى منه يختزنونه في مطاميرهم لسدِّ احتياجاتهم على مدار السنة .
وجاء المختار، وبصحبته المُحَصِّل وجماعة من الخدم العاملين في قصر العصفوري ، يرافقهم ثلاثة من رجال الدَّرَك بكرابيجهم اللاذعة ، وبدأوا يطوفون بالفلاحين ؛ يكيلون من الحبوب قمحاً أو شعيراً أو شيئاً من السمسم والعدس ، ويهيلونها في أكياس أُحضِرتْ لذلك ، وأُعِدَّتْ لنقلها إلى مخازن ومطامير العصفوري . فها هي غلالهم تتناقص شيئاً فشيئاً ، وها هي أرضهم تتآكل يوماً بعد يوم ، وسنة بعد سنة ، إذْ يُضطر أصحابها إلى بيعها لقلة الموارد ولكثرة الضرائب ولشدة القهر الذي يرزحون تحت أثقاله . ومَنْ يشتري هذه الأرض إلا الأغنياء ؟ وهل هناك مَنْ يجرؤ على تجاوز رغبة العصفوري في شراء أرض إلا بإذنه وبعد أن تُدفع له
" الإرضاوية " ؟.
إنَّ في بلاد فلسطين العشرات ، بل المئات من أمثال العصفوري ، وكلهم ركائز الدولة العَلِيَّة في البلاد الشقيَّة ، وقد منحهم السلطان ألقاب الباشوات والبكوات والأفندية ، ومنحتهم الحكومة التسهيلات والصلاحيات لنهش لحوم أبناء البلاد من الفلاحين والعمال البسطاء . فهم في مجموعهم تُجَّار مواقف ، يُنَسِّقون مع الحكمدار
التركي أو مع القائمقام في لوائه ، فتزيد الأعباء وتزيد الضرائب التي يعجز عن دفعها الفلاحون ، ولأنه لا مفر من الدفع ، ولأن الأرض لا تعطي ما يغطي هذه النفقات الضريبية ، يُضطر كثير من الفلاحين مُرْغَمِين على بيعها لهؤلاء أو لأولئك ، ويتحوَّل الفلاحون إلى عُمَّال وخَدَم ، يزرعون ويفلحون الأرض بأجر زهيد . فاتسعت مساحة الأرض في أيدي الباشوات والبكوات ، وزادت سطوتهم ، وما زاد الفلاحون إلا سحقاً وفقراً وسُخْرَة نظير ما يَطعَمونه من فتات على موائد الأسياد ، فنشأت وتعاظمت طبقتان في البلاد ، الْبَوْن بينهما واسع ، هما طبقة الأثرياء من البكوات والأفندية والأسياد ، وطبقة الفقراء من الفلاحين المُعْدَمِين والعبيد .
وها هو العصفوري على رأس طبقة الأسياد ، فهو وحده يملك أرض بيت جبرين وعجور وما بينهما وما حولهما ، فهو سيدهم ، وهو مالك الأرض والناس ؛ يحكمهم ويتحكم فيهم ، ويرسم لهم مصائرهم ، ويُسَخِّرُهم فيما يريد ، ولا يخالف أحد له أمراً ، والويل لمن يعصي له أمراً أو يتلكأ في إنفاذ ما يُسند إليه من أعمال .
ما أجمل القرى بعد موسم الحصاد ! فعلى الرغم من القليل الذي يتبقى للفلاحين من غلال الأرض ، إلا أنك ترى الناس فرحين ، وترى الفرحة قد تمثلت بالأثواب الجديدة، وبتجديد احتياجات البيوت من لزوميات الحياة ، وبالزغاريد التي تنطلق من هذه الدار أو تلك معلنة اتفاقاً جديداً لخطبة عروس ، وقد دُفِع مَهْرُها الذي كان مُؤَجَّلاً لما بعد موسم الحصاد . وإنك إنْ تجولتَ في القرية تسمع من خلف الجُدُر دويِّ الأرحِيَة الحجرية تدور فتطحن الحبوب ، فيخرج من بين فلائقها طحيناً دقيقاً أو جريشاً خشناً ، فترتفع ألسنة اللهب في الطوابين ، وتتصاعد الأدخنة ، وتنتشر الأبخرة ، وتفوح روائح الطعام الشهية التي لا تُطْعَم إلا في المواسم والأعياد .
وها هو سعيد يستعد للذهاب إلى الحاكورة ليقضي فيها وقتاً ما بين العمل والاسترخاء ، حيث يتفقد الأشجار، ويضرب بفأسه الأرض حول جذوعها ، حتى إذا أحس التعب جنح للراحة ، فيستلقي تحت شجرة زيتون قد مدَّت ظلها ، ونفثت أوراقها نسيماً منعشاً ، ويتكئ بظهره ورأسه على جذعها ويسرح ببصره وفكره إلى بعيد ،
ويرخي لخياله العنان ، فيصعد به ويهبط ، فتراه يبتسم تارة وتارة أخرى يُرى في عبوس ، وهو حالم في عالم قد انسلخ عن أرض الواقع ، ولكنَّ شيئاً قد دبَّ في جسده فأرعشه . ويفيق على وقع خطو أقدام تقترب منه ، وحفيف ثوب مهفهف ، تتقدم صاحبه روائح عطر أنثوي ؛ فيتأرج به المكان بما ينبئ عن عروس بكامل زينتها ، فتحين منه التفاتة يسيرة ، فإذا بها سلمى تخترق كالسهم طريقها بين الحواكير، ويختلس النظر إليها ، فإذا بها تمشط المكان بعينيها ، وقبل أن تتوارى وراء شجرة كثيفة تحين منها التفاتة إلى الخلف لتطمئن أنْ لا أحد يراها أو يتبعها، ثم تقف تفتش بنظرها عن شيء تفتقده . وتَفتَّح المكان عن سعيد الذي وقف قبالتها ينظر إلى عينيها، ويغمر وجهها بنظراته العابدة المتبتلة في محرابه . وأحست سلمى لفح الهوى وصدى نداء الروح ، فهشَّت برموشها تدفع عن نفسها ذلك الخجل الذي تورَّدَ حمرة على وجنتيها ، فزاد جمالها أناقة وتألقاً . وينساب صوت سعيد لحناً جميلاً يداعب عصفورة أنيقة تنام على راحتيه :
- سلمى! قوليها بملء الفم ، ولا تزيدي عليَّ من فرط وجدي وحنيني.
- ماذا أقول يا سعيد ؟ وقد تناجتْ روحي وروحك ، وألقى فؤادي حديثاً شَجِيَّاً في مجامع فؤادك ، لاتكاد تسمع نغماته إلَّا همساً باسماً.
- سلمى! أعيدي على مسامع الأشجار والأطيار همساتك ، فهي شاهدة علينا يوم يقوم الأشهاد ، ولا تجزعي .
وتذوب سلمى حياء ، وتحني نظراتها وقد رمشت عيناها بحركات سريعة متلاحقة، فيمد سعيد يده ، وبطرف أنامله يرفع إليه وجهها وقد أطل النوَّار من عينيها، وتلونتْ بأطياف قوس قزح ، وقالت بصوت دافئ حنون ، وهي تجلس قبالته في ظل الشجرة المباركة :
- ألا يكفي ما تناجت به العيون والأرواح ؟.
فقاطعها سعيد :
- سلمى ! إني أشعر بأنَّ شيئاً يتمخض عنه رحم الزمان .
قالت وهي تومض بطرفها الكحيل :
- إنَّ المخاض دوماً مخيف ، فأخشى عليك من الإسراف فيه .
- ليس إسرافاً يا توأم الروح ، وإنما هو جهاد النفس ، وتَرَقُّب العواقب ، وانتظار القادم من جفن الزمان .
- لا شيء أقسى على النفس من الانتظار، فإنه قطار داهم .
- كلا يا سلمى ! لا تضعي السدود أمام العائد من بعيد .
- آه يا سعيد ! لا تلمني ، ودعنا ننعم بما نحن فيه من شهد اللقاء ، وحلاوة التلاقي.
- سلمى ، أيتها الحبيبة !.
- نعم ، إني أذوب في هذا المكان وأُذيبك فيَّ ، فإذا بنا في اتحاد وحلول .
- لا تهدأ نفسي ولا يَقَرُّ لها قرار إلا إذا ضمنا ليل تتضاحك في جنباته الأقمار، وتصدح على شرفاته البلابل ، فنأتنس بأصداحها وبترانيم الشفاه وهي تتغنى بأسرار الليل ، فتغري بالرقص تحت ضوء القمر، حيث تتحلق النجوم باسمات الثغور، وقد تهيأت عرائس الجبل تدلف إلى مضاجعها الوثيرة الناعمة .
- يا ويلنا من أحلامنا !.. لقد أفرطنا فيها فسكرنا من بدائع الزهور.
- ليتني أظل في سكري هذا فلا أصحو منه يا سلمى !.
- أما أنا فلن أفارق صحوي حتى أظل يقظة المشاعر التي بها أدرأ عن نفسي وقلبي أوجاعاً عَصِّية .
- أيهون عليكِ قلبي ، فتتركيه وحيداً يتلظَّى ؟.
- عهدي به طاهراً زكياً ، ولن تطول وحدته .
- وماذا لو تزاحمت من حولنا العوائق وارتفعت بيننا السدود ؟.
- أترتاب في صدق عواطفي يا سعيد ؟.
- كلا ، ولكن ليطمئن قلبي .
- كُنْ أنت وقلبُك مطمئنيْن .
- لماذا أخشى عليكِ من غرائب الصور التي تتراءى لي في يقظتي ونومي ؟.
- بإمكانكَ أن تتعقبني إلى غاية دون خشية قد تفسد الاحتمال .
- آه يا سلمى ! ما أبشع ما قد يؤول إليه الإنسان من خلال تلك الرؤى!.
- عزيزي سعيد ، لا ترخِ الأَزِمَّة لخيل خيالك ، لئلا تهجم عليك آلاف الصور، وأنت في غفلة من أمرك .
- لماذا يا سلمى نَدَع الخيال يتعقب أثر بيلاطس ، ويهوذا ، وكراسوس ، والشريف مكماهون وغريتسياني ؟. الذين نصَبوا أعواد المشانق بهيئة الصلبان وبشكل الشمعدان .
- لقد ماتوا جميعاً ! وتحلَّلَتْ عظامهم في تربة أنبتت أشجار الدُّوم والكروم على سفوح الجبل الأخضر ، حيث معاصر الخمر التي تتجرعها البلقيسات في حانات اللهو على شاطئ الإسكندرية وحيفا واللاذقية . أما الفوارس فلم يترجلوا عن صهوات المشانق ، وقد دخلوا الشانزليزيه .
- ولكن مشانقهم ما زالت قائمة ، وصلبانهم تنتظر مَن يمتطيها .
- كبرياء تلك العصور صار لحناً تمجُّه الأسماع ، وتنفر منه الأذواق السليمة.
- ولكنَّ التاريخ دولاب يدور في فَلَك الزمن، وإنه يعود فيعيد علينا حكاوَى زمان.
- إنها حكاوَى ، وقد يكذب المؤرخون .
- وقد يصدقون .
- ولكنهم قد تلجلجوا كثيراً ، وأَتَوْا بما يستوجب اللجوء إلى الشك .
- هل يهدأ الطفل في صدري وينام يوماً قرير العين؟.
- ما لأوجاعكَ تنهض نهوض المثخن بالجراح...؟.
- إني استشعر الأخطار تسعى مستأنية ، ولهذا فإني أرفع درجة الاستعداد
والتأهب .
انفرجت شفتاها انفراجة خفيفة ، فأطلَّ من بينهما عقدان من اللؤلؤ، وقد تراصت حباته في نظام يحلو للرائي أن يطيل إليهما النظر، ولمع في عينيها بريق
يكشف عن عصفور متمرد ، ينفض جناحيه متأهباً للطيران . وأطرقتْ ثم رفعتْ رأسها، وثبَّتتْ عينيها في وجهه ، وقالت بلهجة تَنُمُّ عن نُكْر لا يخلو من مُزاح :
- لا تنتظر الضربة الأولى من عدوك فتخسر كل شيء .
- ياويلتاه !... وبم أضرب وقوسي ليست مشدودة ؟ وأنا وحدي في ساحة الحرب ، وقد تحالفت ضدي آلهة جبل أولمب وجبال أطلس ، وقراصنة بحر الظلمات بمباركة من " أَتُوم " الذي أرسل الشمس لهم ضياءً .
- ولِمَ لا ترميهم باللَّات والعُزَّىَ وهُبَل ومَنَاف ؟.
- كلهم تساقطوا تحت أقدام " يَهْوَه " بعد سقوط " أَتُوم " .
- وماذا أنت فاعل أيها المسكين ؟.
- أَنتظر قُدوم " مَرْدُك " البابلي و" آشور " و" سرجون " و" نبوخذ نصر ".
- قد يطول انتظارك ، فَيَهِنُ عظمُك .
- لقد هاتفني " إنْليل " السومري أنهم جميعاً في الطريق إليَّ وأنَّ " إيلياء " تنصب الساري الذي سترفع عليه الراية البيضاء .
* * * * *
تحلَّق الرجال تحت ضوء القمر الذي كان ينثر ضياءه بساطاً قرمزياً تنعكس على بسطة من الرمل الأصفر أمام دار الحاج زكي في الحارة الشرقية من القرية . وكان الحاج زكي (أبونزار) شيخاً طاعناً في السن ، ولكنه مازال يحتفظ ببقية من نشاط ، وبفضل من صحوة الذاكرة التي تكتنز كثيراً من الأحداث التاريخية التي مرت بالبلاد ، وقد اعتاد رجالات القرية : شباباً وشِيباً ، أن يتكدسوا أمام داره بعد صلاة المغرب يتسامرون ، ويُسَرُّون عن أنفسهم بملاحات الحديث وحكاوَى أيام زمان : منها ما كان واقعاً لا تكذيب فيه ، ومنها ما كان من صنع خيال الرواة الأقدمين ، وإنها لا تخلو من حكم ومواعظ تأخذ بأيديهم وتساعدهم على تذليل ما يواجهون من مشكلات تتشابه وقائعها بتلك، وقد توحي إليهم نتائجها بما يستنيرون به ويستهدون ؛ لتمكينهم من صلاح أمرهم .
ولم تكن الحارة الشرقية على علاقة طيبة بالحارة الغربية لخلافات أسرية سابقة أدت إليها المنافسة والتسابق في كل لون من ألوان الحياة ، فأخذت الأسر والعائلات تفاخر بنفسها ، وتُعَدِّد أسباب رفعتها وعلو منزلتها وما يتصل بها من حسب رفيع ونسب عريق ، فتباهي بأمجادها وانتصاراتها في معارك " النبابيت" ، وما لها من وقائع في الكرم وطول اليد . ولقد كان التنافس على الزعامة وعلى " المخترة " من أهم الأسباب العصيَّة التي جعلت القطيعة تدب بين الحارتين ، فانغرست الأحقاد في أرض القرية بين الأهلِين المتخاصمِين... وهكذا تقطعت الأسباب بينهم إلا من " شَعَرَة معاوية " كما يقول المثل . ولكنَّ الشباب من الحارتين قد ضجُّوا من هذه القطيعة ، وثاروا على هذه الخصومات العتيقة ، ونادوا بنبذ الخلافات ، واعتمدوا طريقاً سهلة لإصلاح ذات البين .
ولم يكن يألف الشيوخ ما يختطه الشباب ، ولم يكن يروقهم ما يفكرون به ، بل أنكروا عليهم ما يفعلون دون الرجوع إليهم والأخذ بمشورتهم ومباركتهم . ولقد قَدَّر الشباب هذا الأمر، فرأوا رأياً يخالف هوى شيوخهم ، وما كان لهم إلا أن يخالفوهم حتى يستمروا في طريقهم الجديدة التي تتراءى لهم نهاياتها الطيبة ، هؤلاء الشباب الحائر قد اعتراهم اليأس أو شيء يشبه اليأس من القوالب التي وُضِعوا فيها دون أن يكون لهم الحق في الاعتراض على شيء ، فكان عليهم حسب قوانين القرية الصارمة أن يذعنوا ويسيروا على الصراط المستقيم الذي صنعه لهم شيوخهم الذين ينكرون عليهم أن يحيدوا أو يميدوا عن القانون الاجتماعي في حالات الرضا أو حالات الغضب .
ولا يجيز أولئك الشيوخ لأنفسهم ولا لأولادهم أن يخرجوا عن رأي مختار حارتهم الذي ارتضوه منهاجاً لا خروج عنه ولا خروج عليه ، ولكنَّ سعيداً وآخرين من أترابه قد كسروا الطوق ، وخرجوا جهاراً نهاراً على ما ألفوه واعتادوا عليه ، وكانوا يتخطون الحواجز بالذهاب إلى الحارة الشرقية والجلوس أمام دار الحاج زكي من وراء ظهور شيوخهم ودون مباركة منهم ، فيلتقي الأصحاب ، ويتسامر الأحباب في ليالي الصيف الذي يحث على السهر، فيتنادى الرجال يتحلقون كما تلبي النساء دعوة المساء ،
فيجلِسْنَ في مكان غير بعيد ، يتجاذبن الحديث في أمورهن . فما أجمل ليالي الصيف في القرى حيث البيادر، وحيث مشاعل النجوم تزين السماء ، وحيث النوم على أكوام القش في فضاء رحب وفي هواء طلق رطب وتحت ضوء القمر حين يكون بدراً أو شبيهاً بالبدر.
وصل سعيد إلى دار الحاج زكي في الحارة الشرقية ، فحيا القوم ثم جلس غير بعيد ، وأخذ يرسل نظره إلى كل اتجاه باحثاً عن أحد من أصدقائه ، ولما لم يجد ، اتكأ على مرفقه ، ومدَّد جسمه على تلك الرمال الرطبة الناعمة ، وأسند رأسه على راحة يده يتابع القمر وهو يقفز عن أرتال من السحب البيضاء ، ويصارع أمواج الغيم السوداء ، فيطل حيناً بوجهه المنير، ويغيب أحياناً وراء الأستار، فيتعاقب النور والظلام على أرض تتبارك بضيائه ، ويأتنس الساهرون بإطلالاته وصفائه .
وكلما سمع سعيد حركة لقادم التفتَ يمنة ويسرة ، ولكن دون جدوى ، فيتحول عن ذلك إلى حبات الرمل يداعبها ، ويَخُطُّ ثم يمحو الخط ثم يعيده بكفه وهو مطرق ساهم ، ولو قُدِّر لأحد أن يقترب منه وينظر في وجهه لعرف أنه يفكر تفكيراً عميقاً ، يتجاذبه القلق والاضطراب .
ويسائل سعيد نفسه بصوت خشي أن يكون قد سمعه أحد : " من صنع الحدود وأقام السدود في هذه القرية ؟. ومن أنشأ الخصومات وقسَّم القرية إلى حارتين ، بل إلى قريتين ، كل منهما لها مختارها ولها ديوانها ولها رجالها ؟. إنَّ نزاعات قديمة وخصومات عتيقة آن لها أن تنمحي وتزول ، وإنَّ حدثاً جللاً يهزُّ أركان القرية ويهزُّ أفئدة الناس لقادر على استشعار الخطر ، حينها تلتئم الجراح ، وحينها يُهرع القاصي إلى الداني ، فتعود القرية إلى سابق عهدها ، قرية واحدة كما يروي عنها الآباء " .
وجال سعيد بصره يمنة ويسرة ، وإذا بهتاف ساخر يتهادى إلى سمعه :
- هذه قرية العجائب ، تَوقَّعْ أن يخرج منها كل عجيب غريب ، إني أسميها " القرية الانشطارية " .
- ماذا تقصد ياأسامة ؟.
- قد تصير قريتنا يا صديقي أضحوكة للآخرين ، فيزيد انقسامها وتصبح ثلاث
حارات ، حينها ننعي أياماً كانت فيها قريتنا بحارتين فقط .
ونفض سعيد رأسه كمن يطرد حشرة تحطُّ على جبهته ، واعتدل في جلسته ، ثم أخذ ينفض يديه مما عَلِق بهما من حبات الرمل ، ونظر إلى صاحبه وهو يقول :
- انتظرتك حتى ظننتُ أنك لن تأتي هذا المساء .
- إلى أين سأذهب ، يا حسرة ؟!.
ثم حانت منه نظرة إلى وجه سعيد ، قرأ من خلاله شيئاً غريبًا :
- ما بك يا سعيد ؟. أراك متجهماً كأن شيئاً ثقيلاً قد وقع على رأسك .
تنهد سعيد بعمق ، وزفر زفرة أبانت عن اتساع مساحة الهم ، وأظهرت حجم القلق الذي يختزنه في صدره ، ثم قال :
- وهل الحياة تخلو من الهموم يا أسامة ؟.
- يا صاحبي ! إنها إنْ خلتْ فلا تكون حياة ، أنا مهموم إذن أنا موجود .
- الحمار بلا هموم وله وجود .
قال أسامة مداعباً :
- إذن ، سأقول : أنا مهموم إذن أنا إنسان موجود .
- تلك فلسفات سطرها مؤلفوها وقت فراغهم وهدوء بالهم حيث الحياة المطمئنة الوادعة بلا اضطراب أو ضجر .
- كل شيء في حياتنا يضطرب ، فأي شيء يبدو لنا هادئاً راضياً ؟!.
- فكيف أرضَى بها حياة ؟ .
- إنْ أردتَ فسترضَى .
- ليست مشيئتي .
- يجب أن نصنع لأنفسنا الرضا على الرغم من كل المحن .
- وهل أنت راضٍ عن حياتك يا أسامة ؟ . أنسيتَ أنك منذ قليل سمَّيْتَ قريتنا " بالانشطارية " وأنك تخشى عليها المزيد من الانقسام ، وتخشى على أهلها
المزيد من الخصام ؟.
- سأتعايش مع الممكن ، " وما النصر إلا صبر ساعة " .
وقاطعهم مروان الذي أقبل عليهم بصحبة خالد ، فحيا ورحَّبَ بأضياف حارته ، ثم جلس أربعتهم يتبادلون التحايا وحديث المجاملات ، قال خالد مخاطباً أصحابه :
- ألا يستحق العصفوري منا تخليده فنصنع له تمثالاً ؟.
تساءل أسامة عن السبب بشيء من الدهشة :
- وماذا صنع لنا العصفوري ؟.
- لقد مهَّد لوحدة الحارتين: فأزال الخصومات ، وألَّفَ بين المتخاصمين ، ألا
يكفي ذلك...؟ .
قال مروان :
- نحن نشكر له قسوته وظلمه ، فقد أنشأ فينا مشاعر السخط ، وجعلنا نتحد.
ولكن هل أزال العصفوري من قلوب الناس أحقاداً ترسَّخَت عبر نزاعات
طويلة ؟.
قال خالد ، وقد بدا عليه الوجوم وشيء من الاستنكار:
- نعم ! ليس المهم أن تتصافح الأيدي ، وتطبع الشفاه قبلاتها على اللحَى ،
ولكن المهم أن تعمر قلوبنا المحبة ، وأن تتزين بالوفاء وصدق الانتماء وحسن
الاعتقاد بأننا جميعاً جسد واحد تسكنه روح واحدة .
قال سعيد :
- ما فائدة أن نسخط على العصفوري ، إن لم يواكب هذا السُّخْطَ عملٌ ندرأ به عن أنفسنا أخطاره ؟.
قال خالد :
- ياه !.. أنتَ تريدها مواجهة .
- ولم لا ؟.
قال مروان :
- ولكن تذكَّر يا سعيد أننا لسنا على استعداد لمواجهته .
ضحك سعيد ضحكة عالية فأثار دَهَش الحاضرين ، وقد استطالت ضحكاته التي جعلت مروان يشعر بشيء من الحرج ، فسأله بنبرة مستنكرة :
- ما يضحكك هكذا يا سعيد ؟. هل قلتُ شيئاً أثار فيك كل هذا الضحك ؟.
فقال سعيد من بين طيات ضحكاته :
- أبداً ، لقد ذَكَّرْتَنِي بزعماء البلاد الذين يروْن المواجهة مع أعداء الأمة شيئاً يشبه الانتحار لأنهم غير مستعدين ، فيكتفون بالشجب والاستنكار، ويصفق لهم المغفَّلون من العامة ، وينتهي الاحتفال .
بُهت مروان ، وبدا عليه وكأنه في حوار مع نفسه ، ومطَّ شفته السفلى مندهشاً ، ونظر إلى خالد فأسعفه الأخير قائلاً :
- نعم ، نحن نفتقد إلى الاستعداد والتحضير للمواجهة ، فعلينا أولاً أن نتحد فيما بيننا، ونستشعر الخطر ونعمل على دفعه .
قال سعيد :
- كلما اشتدت الأخطار، وحَلَّت المصائب ، كلما كان ذلك أدعى للتماسك والاتحاد لمواجهة هذه الأخطار ومَن وراءها .
قال مروان :
- وقد يكون اشتداد الأخطار سبباً في التشرذم : كل واحد ينأى بنفسه ، ويُؤْثِر السلامة له ولعياله .
قال أسامة بشيء من الاتزان :
- كل شيء في هذا الزمان وفي هذه القرية جائز، لهذا علينا بثبات العقيدة ؛ فهي الحصن الحصين التي تحمي صاحبها ، وتمنعه ألا يخون أو يتخاذل .
قال خالد :
- واللهِ ! لو اجتمعنا على رأي واحد واعتصمنا بقرآننا نستعين به ونستهديه ، لواجهنا العصفوري ورجاله بالشَّباري والمناسيس والمناجل ، ولكن هل نحن
قادرون على التجرد من ثياب العبودية ، ونزع الخوف من قلوبنا ، والعزم على
التحدي والمجابهة ؟.
قال مروان :
- لقد تغيرت الدنيا ياخالد ، فالشَّباري والمناسيس وحدها لاتصنع النصر، لذلك لابد من استشعار الخطر المُحْدِق بالقرية ، واتحاد أهلها ، وإعمال العقل بالتفكير المتأني والتخطيط السليم، ثم لابد من سلاح الإيمان ، ووجود البارود لمواجهة البارود .
ارتفع صوت سعيد يُشَخِّص الداء ويصف الدواء :
- خلاصنا من العصفوري في رأب الصدع ونبذ الأحقاد ، وامتلاك أسباب القوة .
توقف سعيد لحظة ثم قال بنبرة جادة يفوح منها الألم والأمل معاً : - إنَّ داءنا يا صاحبي في أنفسنا ؛ داء الخوف الذي يستوطن القلوب ، ولا ننسى
أيضاً داء الزعامة الذي يفسد علينا كل ترتيب ، انظروا إلى المدن الكبيرة في
بلادنا ، كالقدس ونابلس والخليل ويافا وغزة وعكا وغيرها ، إنها تكتظ بالزعماء
الذين خلقوا الفتن في ربوع البلاد ، واستبدلوا بالقبيلة الاجتماعية قبائل سياسية
هي أشد خطراً على البلاد من أعداء البلاد ، فتراهم يختلفون على توزيع
الأدوار والمناصب ، ويقتسمون المغانم والمكاسب ، وترى عامة الشعب
يحتربون بالسيف والبارود دفاعاً عن هذا الزعيم أو ذاك ، وإنهم لغافلون ، ونحن
المغفَّلون .
توقف سعيد وابتلع ريقه ، فابتدره أسامة قائلاً :
- يا ويلنا إنْ لم نقرأ التاريخ ، ونُحْسِن تفسيره !.
فيرد سعيد :
- إنَّ من يتابع الأخبار ؛ يَسْوَدُّ في وجهه المصير، لأن حُكَام البلاد أكثرهم غرباء ، والزعماء من هذه الأمة أكثرهم يلبسون عباءات الوطنية ، يشعلون الفتن ويزجُّون أهل البلاد وقوداً لنارها ، وهم في قصورهم وملاعبهم لاهون ،
يتفرجون ، لا تهزهم عواصف الخريف ، ولا ينخر عظامهم برد الشتاء ، ولا
يطرق أبواب دورهم رَجُل الدَّرَك ودفتر دار الملتزم ، فهم في منأى عن كل
خطر، المال في أيديهم ميسور ، وطعامهم وشرابهم موفور ، ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون .
ويعقِّب أسامة كأنه يُقِرُّ بكِبَر حجم المصيبة :
- الزعماء يأكلون الحُصْرُم ، وأفراد الأمة يَضْرَسُون .
ساد الصمت فوق رءوس الجميع ، وأخذ كل منهم ينظر إلى أصحابه، وقد بدا عليهم البهت والدَّهَش مما سمعوا ، وقد تنبهوا إلى وجود رجال يتناثرون حولهم ، وقد لا يُؤْمَن شرُ أحدهم ، فثقل عليهم أن يشي أحدهم بسعيد الذي أثار في نفوسهم الهلع إشفاقاً أن يصيب قريتهم ما أصاب المدن الكبيرة من اضطراب الأمر .
وندَّت ضحكات تتألق في الفضاء ، وقد صدرت عن جماعة من الشباب يجلسون غير بعيد عن سعيد ورفاقه ، فالتفت إليهم كثير من الجالسين ، وقال أحدهم وقد علا صوته بنبرة ساخرة :
- بالله عليكم ، علمونا كيف نضحك ، لقد نسينا .
ويعلو صوت الحاج زكي ، فيقول في شيء من الاتزان مشفوعاً بابتسامة خفيفة، وبنبرة لا تخلو من حكمة صاحبها ورجاحة عقله :
- اتركوهم يا قوم وشأنهم ، أتقيسون شبابهم بشيخوختنا . كان الله في عونهم ، فأيامهم قادمة حافلة.. والله يعلم ما تكتم لهم .
فيردُّ صوت من هناك يقول :
- والله ياعمّ ، ما أضحكنا لهوٌ أو سرور، وإنما هي شكوى نرسلها إلى السماء . طأطأ الحاج زكي رأسه وأخذ يداعب حبات مسبحته ، وبدا عليه الغم ، كما لوحظ
الوجوم على الوجوه في ضوء القمر الذي بدأ يندسَّ تحت عباءة في السماء سوداء .
قال الحاج زكي بصوت متهدج كمن يحدِّث نفسه :
- لقد قالها القدماء يا بني : " إنَّ شر البليَّة ما يُضحِك " .
فينبري سعيد متسائلاً :
- ولكنْ يا عمّ ، لماذا نحن أصحاب بلايا من دون البشر؟ ولماذا كُتب علينا أن نعيش في هذا الضيق وهذا الهم ، ونحن قوم نقيم الفرائض ونقوم بالسُّنن ، لا نأكل حراماً ولانعتدي على حرمة أحد ؟.
- اسأل أباك يا ولدي ، اسأله يُحَدِّثْكَ .
وتوقف الحاج زكي لحظة ، وانتابه طيف الشرود كمن يجمع أطراف أفكاره ، ثم
أخذ يستلُّ الكلام من بئر أحزانه قائلاً :
- لسنا وحدنا نعيش في كدر، كلا يا ولدي ! بل تشاركنا القرى المجاورة فيما نحن فيه من أكدار وهموم ، وإنْ قُدِّر لكَ أن تطوف بالبلاد تجد مدناً يَهُزُّها وابل من الهَمِّ والغَم .
قال سعيد بشيء من الرجاء الذي يخالطه الإصرار:
- ولكن أتمنى عليك أن تحدثنا مما لديك من تاريخ قريتنا ، لعلنا نجلو صفحة
استغلقت علينا نحن الشباب .
فهاجت الألسنة وقد ارتفعت :
- هيا يا عمنا الحاج زكي ، نحن نسمع... هيا أبا نزار...
* * * * *
جلستْ إليه والخوف يطل من عينيها ، وما كانت فرحتها بهذا اللقاء قد اكتملت ، وما كان لها يد في عقد هذا اللقاء الذي يزويها عن العيون ، ويدرأ عنها لواذع الكلم. نظر إليها يستقرئ ما يتماوج في عينيها من أفكار، ويُحَدِّق في وجهها لعله يستطلع الصور، فتنجلي الرؤية التي يرقبها زمناً . وساد الصمت كأنه يطرد الوقت ، فيذوب الزمان في المكان ، وتتصدع الأركان ، فيتسع المَرَاح . وتجلس قبالته في خفر وحياء ، تلملم أذيال ثوبها تستر قدميها ، وتمتد يدها تداعب الحشائش وتلامس النَّوَّار بيد مرتعشة ، كأنَّ في صدرها شيئاً حزيناً ، شيئاً دافئاً حنوناً ، وشيئاً في مرافئ عينيها لا يَقَرُّ ولا يَفِر، يختفي تارة ، ويتراءى تارة أُخرى كطائر يتعجل امتطاء السماء ، لا
يئن ولا يشكو، ولكنه يتساءل : إلى أين المصير؟!.
" سلمى ، أيتها الصَّبِيَّة ! أنتِ في فضائك سِرٌّ من الأسرار مكنون ، فاكشفي عن مخبوءات الوعد ، واخرجي إليَّ من وراء الأستار، ومن بين أوراق الأشجار، في إزارك الرقيق الشفاف الذي يَشِفُّ عن جسد شهي لا يستر الحقيقة الأزلية مهما تغلغلت في
حنايا النفس ، فتجوب عالم الأرواح والأشباح . تُرى هل تجسدت الأحلام ، وتوسدتُ ذراع محبوبتي التي أنشد لقياها منذ خرجت حواء تجر وراءها بعلها المسكين الذي
أطاعها فضيَّعته ؟ . يا رياح الجنوب ! إني قد نسيتُ كيف أقرأ لغة العيون ، ولكني أرى فيها طفلاً لا يهدأ ، يريد أن ينام مُسْبِتاً روحَه ، فلا تؤذيه يا رياح الجنوب ، فليتني أستطيع الإحاطة بما تلهث به الصدور! ولذاك يضطرب صدري..." .
أخذت سلمى ترفع طرفها في وجه سعيد على استحياء ، فتختلج وجنتاها ، وترتعش شفتاها ، ويضطرب صدرها بأنفاس لاهثة ، ثم تطبق أجفانها وكأنها تترك سعيداً ينام خلف الرموش ، لا تريد له أن يبرح المرافئ ، وتزمُّ شفتيها وكأنها تقبله قبلة توُدِع فيها ما أفاض به قلبها من حب ولوعة ، وتنطلق من صدرها تنهيدة فيها دفء وفيها وفاء تنبئ عن لواعج الفؤاد الكليم ، ويتأرَّج المكان حولهما بنسائم الربيع، وتجول ببصرها هنا وهناك وقد خلا المكان إلا من روحيهما تتناجيان ، تتساءلان بهمس قدسي لا يذوب ، بينما ذاب الكلام ، وامتزج الهوى بأنغام إلهية لم يعهدها من العاشقين العذريين . وانمحى الزمن ، وهوت السماء على الأرض ، فتلامست الجهات الأربع ، وتعرَّى الكون من كل لباس ، فكان مركزه وبؤرة الحياة فيه تتراءى للحالمين في ظل شجرة التوت التي تحتضن العاشقيْن برفق الرفيق ، وحِلم الحليم .
" سلمى ، يا ملاكي الطاهر، ياعصفوري المُغَرِّد ، يا نبتة الحياة المُزْهِرَة ! ازهري ولا تغمضي بسمتك خلف الأكمام . انثري فَيْئك على فيافي العمر الذي أخطأه الربيع ، وتوالدي وتكاثري . ازدهري وانشري ضياءك على سفوح الجبال المعتمة وعلى شواطئ عمري ، وشَنِّفِي بألحانك آذان الموج البعيد في أعالي البحار، إني أسمعها تنوح في ليل تغيب فيه الأقمار. غردي وامسحي بشدوك نَوْحَ الحمائم على الأفنان ، فقد أصابها
الوجوم وأنكرت الغناء ، فهي لا تُحْسِن إلا البكاء... والأنين " .
- سلمى ، ما بالك لا تتحدثين ؟.
- لست أدري ما الذي يوقظ الحنين في صدري كل مساء ، فيسكت طنين الزمن الذي يعج به رأسي !.
- إني أَلْتَذُّ بما أسمع ، فصوتكِ يسري في أوصالي .
- لعلكَ تُنكر عليَّ قولي إن أعلنتُ عن شيء يدبُّ في أوصالي فيطلق روحي
تحلق تائهة تبحث عن إلفها ، فتستقر في نهاية المطاف على باب الساهرة ، فأظل ساهرة أطوف مع أفكاري ، فيجفو النوم جفوني... فما كنه ذلك ؟. أنْبِئْني إن كنتَ به من العالِمين .
- أخشى عليكِ الليل ، فالليل كاشف المواجع ، مثير الأشجان .
- ليس بيدي ، فالسفينة بلا شراع ، والبحر هائج ، والموج يهدر، والقبطان في إغفاءة قد تطول .
- وهذا ما يجعلني أشرق بدمع عيوني ، فينتحر اللحن الحزين .
- أو مثلُكَ يبكي يا حبيبي ؟.
- لا تنكري عليَّ بكائي ، فلو قُدِّر لأي إنسان أن يحيا العذاب مرتين لاحترق فؤاده ، فما بالك وقد عشت العذاب مرات ومرات !!!.
- كفكفْ دموعك ، واقترب حتى أداوي فيك المدامع ، فإني أخشى عليك من
شر حاسد إذا حسد .
- الحب يا سلمى ، رُقْيَة الأحبة .
- ولكنَّ جميل وقيس وكُثيِّر، كانوا يعلمون ما تعلم، ومع هذا فقد اختل التوازن، وتوقف الميزان .
- لا عليكِ يا سلمى ! إنَّ ما أصابهم كان بسبب خيول " أورانيا " اليونانية ، التي مرَّت ذات ليلة على مضاربهم ، وإنها لن تعود .
- ولكنَّ السَّبْيَ عاد من المنفى بالأمس ، وأمر كورش بإعمار المعبد من جديد،
فقد لا يتسع لنا مكان فيه .
- لا تبكي يا سلمى على كأس كنا قد كسرناه !. لقد أغوته أستير العبرانية ، فأغرته بأكلة شهية من جسدها اللعوب .
- أليس في زماننا ألف أستير؟. فماذا فعلنَ ؟.
- " أستيرات " هذا الزمان آشوريات وتدمريات وحجازيات ، إذا اجتمعنَ في حانة قصصنَ سِيَر الغابرات ، فإن أتيْنَ على ذكر" كليوبترا " تضاحكنَ منها لأنها
ردعت قلبها ، وأنقذت مملكتها ثم انتحرت . ويَسْخَرْنَ من مليك عاشق قد نفَذت سهام لحظها إلى شغافه ، فنزف قلبه حباً ، وهام في بلاد الغربة ، وطوته الأمواج .
- لعلها قرأت سفر أستير وحفظته .
- ونحن أيضا نقرأ ، ولكننا ننسى ما نقرأ بعد أن نتوسد الفراش .
تأوهت سلمى ، وسكتت ، ثم مدَّتْ يدها تنزع بعض الحشائش من حولها ، وأخذت تهشُّ برموشها وكأنها تطرد دمعاً عَصِيَّاً استوطن العيون . ولكنَّ سعيداً أطلق يده تمتد فتلمس يدها ، فيحسُّ دفءاً حنوناً يسري في أوصاله . وتتأوه سلمى ، وتترك يدها تنام بين كفيه وهو يقول بشيء يشبه الترانيم في صلوات الفجر في المعابد :
- الحب يا حبيبتي مجال حيوي تتجانس فيه الأرواح ، وتنتشي بنسائمه القلوب ،
وتتعانق على شواطئه أحلام الغد .
وتتململ الفرحة من رقدتها في العيون ، وتحبو على وجهها الأسيل بسمة رقيقة فتضيئه . ويقترب منها سعيد ويطبع بشفتيه المرتجفتين قبلة على خدها المتورد الضَّحَّاك ، ثم تدور عيونهما ذات اليمين وذات الشمال ، فيلثم شفتيها على خوف ، وينتخب من ثغرها الفواح رحيقاً عَطِراً يتأرج المكان بعبيره على مر السنين ، ويتذكر قول المتنبي :
قَبَّلْتُها ودموعي مَزْجُ أدمُعِها وقَبَّلَتْني على خَوْفٍ فَمَاً لِفَمِ
وذُقْتُ ماءَ حياةٍ مِن مُقَبَّلِها لَوْ صَابَ تُرْباً لأَحْيَا سَالِفَ الأُمَمِ
وأحستْ رجفة كادت تطيح بها ، لولا أنها استيقظت من غفوتها ، وصحت من سكرتها ، وجفلت من نفسها ، وأخذت تردد شِعْرَ المتنبي وكأنها استطعمته ، فقالت :
- إني لا أرتضي لك أن تأخذ شيئاً على غفلة من صاحبه ، ولا أن أعطيك شيئاً لا يُقِرُّه العُرْف .
- وهل آن لي أن آتيكِ زائراً ؟.
تورَّد وجهها وضحك الحياء في عينيها ، وقالت :
- يا مرحباً !
- ولكني أخشى أن يمتنع عليَّ الرد ، فأقعد ملوماً محسوراً .
- لا تخشَ من شيء ، فإني قد وَثِقْتُ من صدق عواطفي ، ومن سمو مشاعرك .
- وهل يطول الانتظار ؟.
- ما لنا من الانتظار بد ، وليس الوصال محال .
- سلمى ! ليس بالعقل وحده يحيا البشر .
- وداعاً .
- إلى لقاء .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.