10 عشرة أيام مضت على زواج سعيد ، والفرحة طائر بأربعة أجنحة تُظِلُّهما بظلال الحب وهناءة العيش ، تحرسهم من الجهات الأربع ، فلا يتسلل إليهما شيء من نكد ، أو ما يشبه النكد. وفي ليل تعانقت فيه روحاهما تحت ضوء السراج ، استأذن سعيد عروسه للسفر في مطلع الفجر إلى الخليل ثم القدس لأمر جاءه من أبيه ، وما كان له أن يردَّ لأبيه سُؤْلاً ، أو يعصي له أمراً حتى وإن كان هو وزوجه عروسيْن مازالت الحناء تخضِّب راحتيهما . فالفلاحون أمثاله تتحكم فيهم ظروف العيش ومقتضيات الحال ، فلا تمهل عروساً ، ولا تؤجل له عملاً . ودَّع سعيد زوجه ، وهَمَّ بالخروج فاستوقفته ، ومدَّت له يدها بشيء ، فأخذه وقبَّله ورفعه إلى جبهته ، وأودعه جيب قمبازه قريباً من قلبه ليدرأ به عن نفسه كل شر، ويحفظه الله من كل سوء ، ثم أمسك برأسها وقبَّلها في جبهتها قبلة ندية في فجر ندي ، واصطحبها معه في عباءة ذاكرته وخرج ، فشيعته بالدعاء وهي تعلم أن لا بد له من أن يطيع . ودلفتْ إلى الداخل ، وغلَّقتْ على نفسها الأبواب ، وأخذت تتتبَّع بخيالها كل خطوة يخطوها في طريقه ، وإنها مازالت تتوهم سماعها لأنفاسه ولهاثه فيُشْرِق عليها بوجهه الوضيء ، فتدمع عيناها فَتَشْرَق بدمعها كلما خلتْ إلى نفسها . وتطوف بها الأفكار وتتجاذبها المخاوف ، فتطرد عن نفسها هذه الوساوس ، وتنحر وقت فراغها بأعمال البيت، وينقضي يوم يتلوه آخر، وفي ساعة من هدوء تجلس في ركن من أركان البيت ، تُطَرِّز لنفسها شاشاً ، وتدندن ببعض الأغنيات لِتُسَرِّي بها عن نفسها . وإذا تسللتْ إليها إحدى هواجس الشؤم ، فإنها تصُدُّها وتطرُدُها بغناء قد ترتفع نغماته . وفي يوم من الأيام ، وفي ساعة من نهار ، بينما كانت الشمس تسعى إلى مخدعها صوب الغروب، كانت سلمى قد فرغت من أعمال البيت وجلست لتستريح ، فإذا بها تسمع صوت مُنادي القرية " حمدان الأكتع " يرتفع نداؤه ، فيصفع به أسماع أهل القرية بنبرة حازمة : ... " يا أهل القرية... بأمر من عمِّنا الشيخ العصفوري ، فليخرج من كل بيت رجل إلى ساحة قصره ، وذلك غداً صباحاً للعمل في بناء عقد جديد ، فلا يتخلف أحد ، ومَنْ يتخلفْ يُعَرِّضْ نفسه لنقمة شيخنا ، وسيقوم المختار أبو فوَّاز والمختار أبو سفيان بإحصاء الحاضرين والإبلاغ عن الغائبين ، كلٌّ مِن حارته ، وعليه فالحاضر يعلم الغائب " . هكذا كان صوت حمدان الأكتع يجوس في فضاء القرية ، على ضربات طبله الأجوف ، فيتسلل إلى مسامع أهلها عبر الأبواب والنوافذ ، ويخرج الأطفال في ركب المنادي وهو ينقر على طبله ، فيثير بذلك مكامن الخوف والفزع . خرج الناس يجلسون القرفصاء أمام بيوتهم يتهامسون ، فيجهر الشباب منهم بالسخط على هذه الذِّلة التي يحيونها في ظلال هذا الطاغية الذي يتسلط عليهم . وتعالت بعض الأصوات الرافضة من هنا وهناك ، وأظهرتْ ألسنتهم ألواناً مختلفة من صور التمرد . ولكنَّ أصوات الشيوخ قد انبرتْ تَرُدُّ عليهم ، وتُهَوِّن عليهم مما يُحِسُّونَه من أذى الذِلَّة والهوان. فهم يذكرون أياماً قد ذاقوا فيها القسوة والعذاب ، وهم لهذا لا يرغبون لأبنائهم أن يذوقوا ما ذاقوه من مرارة وألم ، ولا يودُّون أن تتعرى أجسادهم فتُكْوى بسياط العصفوري ورجاله بلا رحمة من أحد . وقد انتقل هذا التوجس إلى نساء القرية اللاتي جلسْنَ في حلقات يتحدثْنَ فيما يتعاقب على هذه القرية من أحداث ، وسلمى خلف باب دارها تطل برأسها من فرجة ضيقة ، تسمع ما يدور على الألسنة ولا تشارك فيه ، فقد تجاذبها شعور بالقلق لغياب زوجها سعيد، وشعور آخر بالارتياح لغيابه ، فهو في مأمن من العصفوري مادام خارج القرية . دلفت كل أسرة إلى داخل منزلها ، وتكدس أفرادها في بيوتهم التي ضاقت عليهم كما ضاقت عليهم حياتهم . ودخل الهمُّ في القرية على غفلة من أهلها ، فانتابهم الرعب وناوشتهم الوساوس ، وسرقوا من الليل بعضه في إغماضة خفيفة حتى تسلل ضوء الفجر يفتح نوافذ عيونهم ، ويسقي نبتة الفزع في قلوبهم فتكبر. وتتوافد جموع الرجال من القرية إلى قصر العصفوري ، فيتلقفهم المختار أبو فوَّاز الذي سبقهم إلى هناك ، فيجمعهم ويقسم الأعمال بينهم ، ويسلِّمهم الفئوس والمعاول والمقاطف وكل ما يلزم من أدوات . ودقت ساعة العمل ، فبدأت جماعة التجريف بإزالة مخلفات البهائم من روث وأعلاف ، وأخذت جماعة أخرى تحمل هذه المخلفات في سلال ومقاطف إلى واد ليس ببعيد ، يهيلون فيه أحمالهم . أما المجموعة الثالثة فكانت تجبل الطين وتصنع منه قوالب البناء ، فتتركها تتنشَّر تحت الشمس لتجف وتيْبس . كانت الشمس قد تربعت على عرشها في كبد السماء ، فأخذت ترسل أشعتها وتنشر ضياءها ، ويشتد الحر حين الضحَى ، وما ترى إلا الهِمَّة والنشاط ، وما لهم لا يجدُّون وينشطون وقد كان المختار يرقبهم ويتفقد أعمالهم ، ويحثهم على الإتقان والسرعة في الإنجاز، وكان يخوِّفهم بمجيء العصفوري الذي لايتوانى في إنزال العقوبة بكل مقصِّر كسول ، فتراهم في حركة دءوب ؛ ترتفع الهامات وتنخفض ، وتعلو السواعد وتهبط مع نغمات رتيبة تخرج من أفواههم فتنظِّم سير العمل وتشحذ الهِمَّة بين أفراد المجموعة الواحدة . ها هي جباههم قد تفصَّدت عرقاً ، وها هي أجسادهم ترشح كأباريق الفخار، وها هو المختار يقرفص تحت شجرة يلف سيجارة الهيشي بيديه ، بينماعيناه تبرقان يميناً وشمالاً ، وها هو العصفوري يتهادى على جواده الأشهب وقت الضحى ، وقد اشتعلت الأرض حراً وحرارة حيث جلس جميع العاملين في ظلال الأشجار يرتاحون ، ويقضمون ما حملوه معهم من خبز وزيتون وأطباق زيت يغمسونه بالزعتر، ومما تنبت الأرض من بندورة وفلفل وبصل . واقتربت حوافر الخيل تهزُّ الأرض من تحتهم ، تملأ المكان عجيجاً وصهيلاً، فتشرئب الرقاب نحو القادمين ، وتتشوف عيونهم ، فتزيغ أبصارهم من شدة الحر ومن العَرَق الذي يكحل عيونهم ، ولكنهم استطاعوا أن يتبينوا الشيخ العصفوري يتقدم رجاله ، فيستقبلهم المختار مرحباً ، وتتوقف قوائم الجواد . وتمتدُّ عينا العصفوري تنظر إلى مواطن العمل ، وتتفرَّس في وجوه العمال الذين مازالوا يقضمون طعامهم ، ويجرعون الماء من أباريقهم . وسأل العصفوري عن سير العمل ، فيجيبه المختار بصوت ينبئ عن عدم الرضا : - كل شيء بحسب أوامرك . - ومالي أراك تَرُدُّ وكأنَّ شيئاً يغضبك ؟. - لا شيء . - هل أحصيتهم ؟. - نعم . - ألم يتخلف منهم أحد ؟. - لقد أعفينا المسنين والمرضى . - إني أسألكَ عمن تخلَّف من القادرين ولم أسألك عن العجزة . - واحد فقط . - مَنْ ؟. - سعيد بن الشيخ زيدان . - وما به ؟. - إنه خارج القرية . - منذ متى...؟. - قبل أن ينادي المنادي ، وإخوته صغار . - فلتحضر زوجه للعمل . - إنها امرأة ، ولا يليق بالمرأة أن تعمل بين الرجال . - إنها تنوب عن زوجها . - ما رأيك في أبيه الشيخ زيدان ؟. - قلت لك استدعِها فوراً . - إنها عروس ، ولم يحن موعد إفرادها . فيردُّ الشيخ رداً يُشتمُّ منه العناد : - أعلم ذلك ، ولا تجادل . قال المختار مستعطفاً : - قد يثير حضورها سخط القرية . - سأنزل سخطي على كل من يرتفع صوته بالتذمر . ويزداد توسل المختار بلهجة مشفوعة بالإشفاق : - أتوسل إليك... دعنا نستقدم الأب نيابة عن ابنه حتى يعود . - وماذا لو أرسلتَ في طلبها ؟. - أنت أعلم مني بأعراف القرية وحساسية المساس بالمرأة . فتجهَّم الشيخ العصفوري ، وقال في عناد وبإصرار: - لا تستمطر غضبي أيها المختار ، وهيَّا نفِّذ الأمر في الحال ، أم تراكَ نسيتَ أنَّ نساء القرية يعملْنَ في الحقول مع أزواجهن ، وبعضهن يخدمْنَ في قصري . ولوَى الشيخ العصفوري عنان جواده ، وانطلق راجعاً وقد ترك وراءه المختار في دَهَش وحيرة ، إذ لاحت على وجهه مسحة من الأسى تواكبها علائم القهر . وجلس في ظل شجرة زيتون وحيداً مع نفسه ، يفكر فيما يصنع وقد سُدَّتْ عليه الأبواب والمنافذ ، وها هو في ورطة كبرى ، وليس له إلا أن يطيع . وبينما هو في وحدته تلك ؛ انطلقت عيون الرجال العاملين تجاهه ترقبه ، فرأوه يضرب كفاً بكف ، ويتمتم بصوت مسموع ، خُيِّل للرائين أنه يحدث نفسه : - كيف أستقدم امرأة للعمل مع الرجال وبينهم في قصر العصفوري ؟ . ولكنْ ماذا أفعل ؟! فالأمر أمره ، ولابد من إنفاذه . وهَبَّ فجأة ، ونادى أحد معاونيه ، ولما اقترب منه قال له بلسان يتعثر: - اذهب يا حسن إلى دار الشيخ زيدان ، وأخبره أنَّ الشيخ العصفوري أمر بحضور زوج سعيد للعمل نيابة عن زوجها ، ولم يقبل بغيرها لحين عودته . وتردد حسن ، وحاول أن يتملص من هذه المهمة ، ولكنَّ المختار صدَّه بعنف ، ونهره بقسوة المغلوب على أمره : - أسرِعْ ولا تتلكأ في الطريق ، لعل هذا اليوم يَمُرُّ بخير!. وانطلق حسن يخبُّ به حمار المختار ، وما إن ابتلعته الطريق وغاب عن الأبصار حتى نهر المختار الرجال من حوله قائلاً : - هيا يا رجال!... هيا إلى العمل !. وقام الرجال يتزوَّدون بجرعات من الماء لينطلق كل منهم إلى موقع عمله ، ويبقى المختار أبو فوَّاز حسيراً ، يمشي متثاقلاً وقد أعياه التفكير: " ماذا يقول الناس في حقي ، وهم لا يعلمون موقفي ؟ تُرى أفإنْ علموا ، هل يصدِّقون ؟!. آه يا مختار! إنك لم تترك جسور الثقة تمتد بينك وبينهم ، وسيضعونك الآن في " بوز المدفع " , ويتهمونك أنك صاحب فكرة استقدام سلمى بدلاً من زوجها سعيد..." . أضحى النهار واشتدت حرارة الصيف ، والعمال قد أعياهم التعب ، والمختار يتفقد العمل ويحثُّ العاملين ، ويرمي بصره في الطريق فيرى حسن وقد أقبل عليه ، فيسارع إليه بالسؤال : - ما وراءك يا حسن ؟ . - لقد بَلَّغتُ الرسالة لزوج سعيد ، إذ لم يكن الشيخ زيدان في داره . - وماذا قالت ؟ . - ستحضر . - متى ؟ . - إنها تنتظر عودة الشيخ زيدان إلى داره لتستأذنه للخروج ، وقد لا يطول ذلك . - ليتها حضرتْ معك !. - لا ينبغي لها أن تخرج من بيتها دون أن يأذن لها صاحب الدار . - إني أخشى عليها من نَزَق العصفوري إن هي تأخرت . - لا تقلق !.. إنها لن تتأخر . انتصف النهار وأعطى المختار عمَّاله فرصة للراحة ولتناول طعام الغداء ، فانتشروا تحت الأشجار يستظلون بظلها ، والمختار يجلس غير بعيد يرقب الطريق التي تسلكه سلمى ، فألقى بصره في خاصرة الأفق ، فزاغ منه النظر من شدة الانتظار والترقب . وانفرجت أسارير وجهه لحظة أن رآها تتهادى وقد تقدَّمها عطر امتلأت به رئة المكان ، فتتأرَّج الطريق بريحها المفعمة بشذا الأزاهير البَرِّيَّة . وما إن وصلتْ حتى تلقاها المختار كسيفاً ، فوقفتْ قبالته ، وأخذ ينظر إليها بشيء من الانكسار ، يتفرس في وجهها ، فيرى فيه شموخاً وكبرياء ، بينما أخذتْ هي ترصد وجهه ، وتخترق بنظراتها أعماق نفسه ، فساءه منها ذلك ، ولكنه لم يُعَلِّق . كانت تلبس ثوباً حريرياً بلون الليلكي ، قد زُيِّن بتطريز زاهي الألوان بما يوافق أذواق أهل قرى الخليل ، وكانت تضع على رأسها شاشاً أبيض يحيط بوجهها ، فيبدو وجهها صورة جميلة في إطار أنيق ، وقد انتعلت صندلاً جاءها في صندوق جهازها . وقفتْ مرفوعة الرأس بقامتها المتوسطة الطول وبِقِدِّها الممشوق وبصدرها الناهد الذي يموج بالثورة ، تنهض في حناياها روح التمرد والغضب الذي لا يقاوم . وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ساخرة ، وبدت أسنانها منضَّدة كعقد من صفين من اللؤلؤ في صدر ملكة سبأ ، وقالت للمختار وهي " تشتِل " طرف ثوبها في حزامها استعداداً للعمل : - لقد استدعيتَني ، فلبيتُ الدعوة . طأطأ المختار رأسه وقال كسيفاً : - ليس بأمري ، بل بأمر من الشيخ العصفوري . - السمع والطاعة لأمر سيدك ، يا سيدي المختار . لدغته الكلمات ، وابتلع ريقه ، ونظر إليها فأيقن من هزئها وسخريتها التي أطاحت بما تبقى له من كبرياء . - لا تسخري مني يا سلمى ، وأنتِ تعلمين أنَّ القرية وأهلها ملك يد الشيخ العصفوري . فقالت بصوت أقرب إلى المداعبة منه إلى اللوم والتوبيخ : - أوَ تقبل على نفسك يا مختارنا أن تكون متاعاً يملكه العصفوري ؟ . فنهرها بشيء من الرفق قائلاً : - لا تكابري يا ابنتي ، ولا تتكثري بكلام لا يفيد . - وما المفيد إذن ؟ . - أنْ تذهبي إلى العمل قبل أن يأتي الشيخ العصفوري ويراكِ لا تعملين ، فاختاري موقعاً يلائمك . نشرتْ بصرها وجالت بعينيها تستكشف مواقع العمل ، فاختارت المجموعة التي تجبل الطين وتدق الطوب . فخلعت حذاءها ، وشمَّرتْ أكمامها عن ساعديها ، وحسرت ثوبها عن ساقيها، وألقت شاشها عن رأسها ولفَّت به رقبتها، فانكشف وجهها ، وانسدل شعرها فتهدل على كتفيها يسرج في ضوء الشمس ، ويفوح من ثناياها عطر رقيق ، فيعبق المكان برائحة زكية . انحنت سلمى تجبل الطين بيديها وبقدميها في هِمَّة ونشاط ، وكانت تختلس النظر إلى مَن حولها ، فترى علائم الاستنكار قد ارتسمت على وجوههم ، وأطلت من عيونهم وأفواههم الفاغرة . إنهم ينكرون عليها هذه الجرأة التي ظهرت في تبرجها والكشف عن مفاتنها أمام رجال القرية ، وهم يستنكرون أن تُدعَى امرأة للعمل مع الرجال وبينهم ، فيلاحقونها بعيونهم التي لا تخلو من الاستمتاع بملاحة الوجه الجميل والطلعة البهية ، ولا تخلو أيضاً من اشتهاء هذا الجسد البض الناعم الذي يُغري الآكلين . كانت تختلس النظر إليهم ، فتستقرئ عيونهم وشفاهم ، وترى ببصيرتها ما يسترون في نفوسهم من الدَّهَش والانبهار أمام هذا الجمال الناعم الرقيق الذي يفتقدونه في أزواجهم ، وتفتقده كثير من النساء في قريتهم . وتقدَّم صوبها المختار وقال بصوت ينمُّ عن الأسى والأسف : - اعذريني يا ابنتي !. فقالت هازئة وهي ما تزال تجبل بقدميها الطين : - عذرناك يا مختار مذ كنتَ ظلاً ملوثاً من ظلال العصفوري . فعضَّ على شفتيه ، واستدار قافلاً يتحسس شاربيه ، والرجال من حول سلمى يلهثون ، ويلهجون همساً بعذوبة صوتها وبجمال عينيها وقد أحيطتا بأسلاك شائكة من الأهداب . ويستزيدون النظر إليها ، فيسيل لعابهم اشتهاء ، ويسيل دمع مآقيهم حسرة على سقطات كرامتهم . - يا سلام ! انظروا كم هي جميلة ! إنها ليست كأزواجكم الغَفَر. - كنتُ أراها كثيراً قبل الزواج ، فلم تكن بهذا الجمال . - كانت جميلة ولكنك كنت أعمى ، والآن أصبحتْ مِلْكاً لرجل آخر " فلا تَشْتَهِ امرأة غيرك " . - أستغفر الله العظيم!... لا تذهب بك الظنون بعيداً . - المهم ، إنها تعمل في الطين، ويلقي العصفوري كرامة القرية كلها في الطين . - صَهٍ ... إنه قادم . فتلتفت سلمى صوب ضجة أحدثتها قوادم الخيل ، فترى العصفوري مقبلاً بفرسه الشقراء " ميسون " ، فإذا بها ترفع شاشتها وتغطي بها رأسها ووجهها ، وتستر يديها ، وتسدل الثوب على ساقيها ، فلم يبدُ منها شيء إلا عيناها الكحيلتان ، وتقف الفرس قريباً منها ، ويبتدرها العصفوري : - ما اسمك يا امرأة ؟. قالت على استحياء منها ، وبصوت هامس : - سلمى ، يا سيد الرجال . - وهل أخبرك المختار عن سبب استدعائك للعمل هنا ؟ . - نعم يا سيد الرجال ! جئتُ نيابة عن زوجي سعيد . - حسناً فعلتِ ، فلا تتخلفي يوماً ما دام زوجك غائباً . - أَمْرُكَ يا سيد الرجال !. استحسن العصفوري منها قولها وهي تنعته بسيد الرجال ، وأحسَّ في صوتها شيئاً يسري في أوصاله ، وهو لا يعلم كنه هذا الشيء ، ويستدير بفرسه تخطو به في زهو وخيلاء ، وينتحى جانباً يتحدث إلى المختار. وما إن فارق العصفوري موقع العمل حتى عادت سلمى كما كانت ، فألقت عن رأسها الغطاء ، وكشفت عن وجهها ، وحسرت ثوبها عن ساعديها وساقيها ، وتكرر منها ذلك في زيارات العصفوري التفقدية التي قام بها خلال ساعات العمل في ذلك النهار ، فتستتر وتحتشم في حضوره ، وتنكشف وتتحرر من غطائها في غيابه ، فيتطاير شعرها على وجهها ، فتغيظ به الرجال . ويزدادون حنقاً على نسائهم اللاتي لا يعرفن إلا إحماء الطابون ثلاث مرات يومياً ، ورفع الجَّلَّة من تحت البقر في البوايك العفنة مرتين يومياً ، هذا عدا الأعمال الأخرى التي تلزمهن نسيان أنفسهن ونسيان التجمُّل لبعولتهن ، ويأتي المساء فتلقي كثير منهن نفسها على الفراش بما تحمله في لفائف ثيابها من روائح الدخان والطين والتبن والجلَّة ورائحة المطامير المعتقة ، أما سلمى فليست مثلهن وليست منهن . وها هي تجبل الطين وعيون الرجال من حولها تفترسها إعجاباً بها وغيظاً منها ، وإنها لتحسُّ غيظهم وتزيد فيه ، فقد تمنت أن يباديها أحدهم بلوم أو عتاب ، ولم يطل بها الانتظار حتى تقدَّم أحدهم منها بعد انصراف العصفوري آخر النهار، فيسألها وقد تجرَّأ على مخاطبتها ؛ وما كانت جرأته إلا بسبب جِيرة جمعت بينهما . - سلمى !... هل تأذنين لي بسؤال ؟. انتبه الرجال وأصغوا الأسماع لتعليل سلمى لسلوكها المحيِّر . فابتسمتْ وقالت : - تفضَّل يا شعبان !... ماذا تريد ؟. تلعثم الرجل ، وأخذ ينظر إلى مَن حوله فيرى في عيونهم الحث والتشجيع . - نراكِ يا سلمى تحتشمين في حضرة العصفوري ، فإن غاب فإنك تسفرين ونحن حاضرون . - وما الغرابة في ذلك يا شعبان ؟ . - هل تتفضلين علينا بتفسير ما نرى ؟ . - لا يحتاج الأمر إلى تفسير . - كيف ، ألسنا رجالاً يستوجب عليك الاحتشام أمامنا ؟! . توقفتْ عن العمل ، ونظرتْ إلى مُحَدِّثِها وقد اتسعت ابتسامتها ، وقالت في هدوء وقد علا صوتها قليلاً ليسمع الجميع ، وكأنها تريد أن تحقن أوردتهم بمفاهيم متمردة ، لعلها تسري في دمائهم ، فتشعل نار الحَمِيَّة في نفوسهم : - وهل كل من نبتَ شاربه ، وارتدى قمبازاً ، ووضع على رأسه العقال ، يكون رجلاً ؟! . بُهِتَ شعبان ، كما بُهت جميع الرجال ، وندَّت عنهم ضحكة خفيفة تدعم صحة رأيها فيهم ، وهنا انبرى لها عباس قائلاً في شيء من الغضب : - ومَن نكون إذن يا سلمى ؟. وهنا تجهَّم وجهها ، وانسحبت ابتسامتها ، وعلا صوتها حاداً وهي تقول بشيء من الهزء والغضب معاً : - اسألوا أنفسكم أيها... أيها الرجااال !!! . - ما دمتِ تعترفين بأنَّنا رجال ، فلِمَ لا تحتشمين منَّا ؟ . فردَّت بتهكم يشعل غيظ سامعيها : - أوَ مثلكم تحتشم منهم النساء يا عباس ؟!. - أنا لم أرَ امرأة تتبرَّج وتنكشف على مرأى من رجال يجوزون لها وتجوز لهم إلا أنتِ يا سلمى . - أرأيتَ امرأة تستحيي من مثيلاتها...؟! . - ماذا تقصدين يا ابنة الكرام...؟ . - أنتم نساء مثلي ! . - أَوَ تَرْضَيْنَ لنفسكِ أن تبادينا بالإهانة ؟ . - أَوَ تَرْضَوْنَ لأنفسكم أن تعيشوا الذِّلة والمهانة ليل نهار...؟. أخبروني مَنْ أنتم ؟!... توقفتْ لحظة ، تفرستْ خلالها في وجوههم ، فرأت عليها الوجوم والسهوم ، وقد أطلَّ من عيونهم الانكسار وسال منها الانبهار دون أن تنطق ألسنتهم بشيء ، واستطردتْ قائلة : - سأجيب نيابة عنكم : ما أنتم إلا عبيد لسيدكم ومولاكم العصفوري ، يملككم كما يملك متاع بيته ، ويسخِّركم كما يُسَخِّر البهائم في حظيرته ، أفلا تخجلون من أنفسكم حين تطلبون ما ليس لكم فيه أدنى حق ؟!. سكت الرجال وهَزُّوا رؤوسهم ، فترجرجت عيونهم ، ولكنَّ شعبان يسألها برفق لا يخلو من انكسار : - الحقوق ضائعة ، ونحن لا نعرف وجهتنا . - لا يا شعبان ! إنَّ لكم حقوقاً لدى العصفوري ، والرجولة تقتضي انتزاعها من براثينه ، وإنه ليغبطني أن أراكم تثأرون لأنفسكم ولي ولأهل القرية . ونظر كل منهم إلى الآخر ، وقد تهامسوا فيما بينهم حتى لا يسمعهم أحد من رجال العصفوري ، فقال شعبان كمن يخاطب نفسه بصوت مسموع : - والله إنها ما زادت على قول الحق كلمة . واستطردت سلمى قائلة : - ألا إني أذكِّركم بمن جاء بي إلى هنا ؛ إنه ضعفكم وغياب مروءتكم والتخلي عن رجولتكم وكرامتكم التي عفَّرتها حوافر خيل العصفوري ، وهذا تفسير لرضاكم عن وجودي بينكم هنا . فخرج صوت ضعيف لم تتبين صاحبه : - إنها تقول حقاً وصدقاً . ثم استأنفت تخاطب الرجال بثقة تتعاظم شيئاً فشيئاً : - إنَّ صوتي ، وارتداد طرفي ، وخصلة شعري ، وشذا عطري ، كل ذلك كنتُ عنه مسئولة ، فليس له أن يتوارى إلا عن العصفوري ، فهو وحده الرجل ، والرجال قليل . ابتلعت ريقها وتوقفت هنيهة ، ولكنها ما فتئت تصيح لحظة اقتراب المختار الذي أقبل يصحبه اثنان من معاونيه : - أفيقوا أيها المماليك ، واطردوا الغفلة عن عيونكم وقلوبكم ، ولا تجعلوا أنفسكم رهن الوهم بأنكم أسياد ، بل أنتم دُمَى في يد سيدكم وسيد مختاركم هذا الذي باع نفسه ، وركن إلى العبودية ، واستمرأ وإياكم الذِّلة والمهانة . وما إن سمع المختار أبوفوَّاز مقالتها حتى تسمَّر في مكانه ، وفغر فاه ، ودارت رأسه لحظة ، سرعان ما تمالك نفسه ، ثم قال : - ماذا تقولين يا سلمى ؟. أتحدثينها تمرُّداً وتحريضاً على وليِّ نعمتك...؟ . ضحكت سلمى ساخرة ، وقالت : - لا تُنْكِر عليَّ قولي يا مختار ، وأنت الذي أفسدت علينا حياتنا كما أفسدها العصفوري . وهنا تطلَّع المختار حوله ، وتفرَّس في وجوه الحاضرين ، ثم جال ببصره في السماء ، ثم أخذ يخاطب مَن حوله من الرجال بشيء من العصبية ، ويقول وهو يشير بإصبع يده إلى سلمى : - أتسمعون ، أتشهدون...إنه سعيد هذا الذي حشَى رأسها بهذه الأفكار الحاقدة ، ولكني أعرف كيف أنزع كيس السم من الحَيَّة . تراجعت سلمى إلى الوراء قليلاً ، وقد بدا عليها الخوف ، وقالت وقد ضَعُفَ صوتها إلى حد الاستعطاف : - اتركْ سعيداً وشأنه... أرجوك ، فلا تَزُجَّ بالغائب في معترك لا يتواجد فيه . - بل هو ، وليس غيره الذي يسخط عليَّ وعلى الشيخ العصفوري ، ولكنني لن أتركه يثير عليَّ القرية ، ويجعلها تتمرد على شيخ البلاد . فانبرى له أحمد صارخاً في وجهه : - اسمع يا مختار ، إنَّ في قريتنا مئة سعيد . فردَّ عليه المختار هازئاً بطريقة لا تليق بسِنِّه ومكانته : - منذ متى يا فارس الفرسان ؟ . - منذ هذه اللحظة . وأمَّنَ شعبان وجابر وعدنان ومرزوق وسائر الحاضرين على كلام أحمد قائلين : - نعم ! كلنا سعيد . وعاد المختار يتوعَّد ويتهدَّد صارخاً : - ليس عليَّ حسابكم ، ولكني سأجعلكم تقفون في موقف ترتعد من هوله أوصالكم ، فانتظروا يوماً تُذْهَلُون فيه من عُسْرٍ لا يُسْرَ بعده .