4 جلس الشيخ زيدان النمر في ديوان الشيخ العصفوري وهو مكتئب حزين ، يستمطر الرحمة كما يستمطر القوة ، وهو الشيخ الطاعن ، بما أبقى له الزمن من وجه حفر فيه الشقاء كثيراً من الأخاديد ، وبما ترك له من صوت يوحي بما له من نشاط وفضل من قوة . فهو وإن كان في أعقاب العمر إلا أنَّ ذاكرته ما زالت نشطة تختزن الأحداث التي مرت بالقرية ، وتحتفظ بالكثير من الذكريات والصور التي لا تنمحي ولا تزول إلا بزواله نفسه . عاش الشيخ زيدان في قرية بيت جبرين على حب أهلها واحترامهم له ، وإنه رجل يميل إلى المسالمة والمسامحة إن أساء إليه أحد ، ولم يشكُ هو من أحد ؛ كتوم على جراحات الحياة ، لا يتأوه ولا يضجر ولا يتبرم ، وإنما هو من ذلك النوع من الرجال الذين منحهم الله صبراً جميلاً، وهو دائم التوكل على الله ، يستعين به على قضاء حوائجه ، وعلى مجابهة ما يواجهه من مكرهات الأيام . وها هو يجلس في ديوان العصفوري وإنه لفي مواجهة المكروه ، فتراه ينظر إلى السماء ، يحرك شفتيه بدعاء خفي إلى الله يستنصره ، وتختلج رموشه ، ويختلس النظر بين الفينة والأخرى إلى المختار تارة ، وإلى العصفوري تارة أخرى ، ويحاول ما استطاع أن يقرأ ما في وجهيهما ويقارن بينهما ، لعله يستظل تحت فهم لقراءته ومقارنته . ويُحَوِّل بصره ذات اليمين وذات الشمال ، فيرى جمعاً من الرجال ؛ منهم مَنْ يعرفه ، ومنهم من لا يعرف ، ولكنَّ أكثرهم من رهط العصفوري أقرباء وأنسباء . وينطوي على نفسه يتعجل اللحظة التي يتكلم فيها العصفوري ليقف على حقيقة الأمر الذي من أجله دُعي إلى ديوانه . ولكنَّ العصفوري لم يتكلم ، إذ بدا منشغلاً بالحديث همساً إلى المختار وإلى بعض جلسائه ، منصرفاً عن الشيخ زيدان الذي استجمع كل ما في قلبه من رصيد القوة والشجاعة التي أنطقت لسانه ، فقال بعد فراغه من آخر رشفة من فنجان القهوة : - ليأذن لي الشيخ بالحديث ، فلقد طال مكوثي في ديوانكم العامر، ولم تلتفت إليَّ . نظر إليه الشيخ العصفوري وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة ، وتحوَّل معتذراً من جلسائه إلى محدِّثه ، فأوحى بحركة يديه عن صدق اعتذاره : - تفضَّل يا شيخ زيدان ! تَحَدَّثْ بما تريد ، إني أسمعك . - بل أنت الذي تريد . وتطلعت عيون الحاضرين إلى الشيخ زيدان ، فإنَّ كثيراً منهم يعتقد أنَّ مجيئه كان لحاجة يقضيها له الشيخ العصفوري ، وتَحَدَّثَ الشيخ العصفوري قائلاً بصوت أسكت كل صوت وكل همس ، وأوقف كل يد ترفع فنجان القهوة إلى الشفاه ، أو تَلُفُّ سيجارة " الهِيشي" ، فخَيَّمَ الصمت ورفرف طائره في أجواء الديوان العامر بمريديه . - لا تؤاخذني يا شيخ زيدان إن كنتُ قد انشغلتُ عنك حيناً. - لا عليك ! عسى أن يكون خيراً . - يا شيخ زيدان ، يا أبا بكر!. - نعم !. - لنا في ذمتك دَيْنٌ مستحق ، وقد فات استحقاقه . تنفَّس الشيخ زيدان ، وأخرج كل ما بجوفه ارتياحاً ، ذلك أنه عرف عنوان الموضوع الذي من أجله أُحضِر إلى ديوان العصفوري ، وكم مر الزمن عليه ثقيلاً منذ أن أبلغه المختار : أنَّ الشيخ العصفوري يدعوه إلى ديوانه لأمر مهم ، وكم أخذته الظنون جيئة وذهابًا ، تُريه من أفانين الظنون ما لم يرَ مثلها من قبل . ولكن الآن وقد استبان له الأمر الذي له يجلس ، فليتحدث بنفس هادئة مطمئنة ما دام الأمر يتعلق بالمال ، لا بشيء أعز . ومسح عن شفتيه وكأنه يجلوها استعداداً لمخاطبة الشيخ العصفوري ، فقال : - أعلم أنك قد مددتَ لنا في موعد استحقاق المبلغ ، وإنه لمكرمة منك أنك لم تطلبه ، فبارك الله فيك !. - كم ليرة معك الآن للسداد ؟. - لم أكن أعلم أنك ستسألني السداد . نظر العصفوري جهة المختار متسائلاً : - ألم يخبرك المختار؟. اختطف المختار الحديث من على لسان الشيخ زيدان قائلاً : - لم أخبره عن شيء سوى أنك تستقدمه إليك لأمر. - ولماذا لم تخبره ؟. - لقد تركته لك يا شيخنا . هَزَّ العصفوري رأسه ، وتوجه بالحديث إلى الشيخ زيدان : - كم ليرة تأتينا بها غداً ؟. - قد آتيكَ بما لا يزيد عما في جيبي الآن . - وكم ليرة في جيبك الآن ؟. - خمس . - فقط ؟!. - فقط !. - خمس ليرات من دَيْن مجموعُه أربعون ليرة . رفع الشيخ زيدان حاجبيه وبسط كفيه وقال بشيء من الاندهاش : - هذا رقم يزيد عما هو لكم عندي أيها الشيخ . صَوَّب العصفوري نظره في وجه الشيخ زيدان ، وقال بصوت فيه شيء من السخرية اللاذعة : - وكم لنا عندك يا أبا بكر ؟!. - خمس وعشرون ليرة بما فيها خراج هذا الموسم الذي لم ينته بعد . نظر العصفوري إلى القوم فاحتواهم بنظراته متسائلاً : - أين الكاتب ؟. - لمْ يحضر بعد . - أَرسِلُوا في طلبه ، ثم التفتَ إلى المختار قائلاً : - ولكنك يا مختار أطلعتني على سجل الديون بحضور الكاتب وإذا بالدَّيْن أربعون ليرة . أليس كذلك ؟. نهض المختار واختفى لحظات ثم عاد وبيده دفتر، وبينما كان يأخذ مكانه بجانب العصفوري ، قال مخاطباً الشيخ زيدان : - ها هي صفحتك بخط يد الكاتب ، وعليك أربعون ليرة ، بما فيها قيمة خِراج عُشْر المحصول عن الموسم الحالي . بسط الشيخ زيدان يديه قائلاً للمختار: - قد تكون ناسياً يا مختار!. قال المختار بصوت يدفع حجة الشيخ زيدان وهو يُلَوِّح في الهواء بدفتر كبير: - هذا هو الدفتر بخط الكاتب وبصمتك عليه . فالذاكرة تنسى ، أما السجل المسطور فلا ينسى يا شيخ زيدان . صَوَّبَ الشيخ زيدان نظرة خارقة إلى وجه المختار، وابتلع ريقه عندما سمع العصفوري يقول للمختار بلهجة فيها تهديد غاضب : - إذن ، حوِّل الأمر إلى جاويش الدَّرَك . وساد الديوان صمت ثقيل ، قطعه دخول الكاتب ، فنشر السلام ، وجلس بجانب المختار يرى ويسمع . فقال الشيخ زيدان كمن يعتذر عن عدم قدرته على الإيفاء بالسداد : - أنت تعلم أننا ما زلنا في موسم الحصاد ، فبعد الفراغ منه أُسَدِّدُ ما استطعتُ إن شاء الله . - وكم ستدِرُّ عليك أرضك ؟! إنَّ غلاتك لا تكفيك قوت عامك وخراج موسمك ، فمن أين تأتيني بالباقي وأنت لا تمتهن تجارة ولا تملك بيَّارة ؟. قال الشيخ زيدان على استحياء ، وهو يُخرج من جيبه ورقة نقدية : - معي الآن خمس ليرات فقط ، خُذْها . ضحك الشيخ العصفوري وقال : - خمس فقط ، إنها لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر. أريد أربعين ليرة ، ولديك مهلة حتى مساء الغد . - ومن أين آتيك بها وأنت تعلم حالنا وأحوالنا ؟ ثم إنَّ المبلغ الذي ذكره المختار أزيد بخمس عشرة ليرة . فانبرى المختار وهو يفتح الدفتر: - عشرون ليرة مستحقات عن سنوات ماضية ، وتسع ليرات ( أو خِراج عُشْر المحصول ) عن هذا الموسم ، وإحدى عشرة ليرة ديون نقدية ، فيكون مجموعها أربعين ليرة . قال الشيخ زيدان وهو يُقَلِّبُ كَفَّيْه : - ليس صحيحاً ما تقول يا مختار. فقال العصفوري ضَجِراً : - عُدْتَ تخوِّننا يا شيخ زيدان . أريد المبلغ كله غداً . - من أين آتيك به ؟. - تَدَبَّرْ أمرك يا أبا بكر. - كيف ، وليس عندي من الغلال فأبيعها لأُسَدِّد ما عليَّ ؟. قال المختار: - أنا لا دخل لي في الزيادة أو النقصان ، إنه دفتر الكاتب وها هو الكاتب أمامك . ردَّ الشيخ زيدان بعصبية متجاهلاً المختار: - ولكنك أيها الشيخ أدرَى بحالنا . فقال العصفوري وهو ما زال متصلباً حازماً لا ينثني : - هذا ليس شأني ، أريد ما ليَ عليك من دَيْن ، أم أراك تنكره ؟. - كلا ! لم أنكر، ولكن ماذا أفعل ؟. والرقم أكبر...!!. وهنا تَدَخَّل المختار مقاطعاً ، فقال بشيء من الوقار المصطنع ، متوجهاً بالحديث إلى العصفوري يستعطفه : - هل يأذن لي الشيخ الجليل ويوافقني على إعطائه مهلة أطول لتدبر أمره ؟. قال العصفوري : - إكراماً لك يا مختار أُمهله ثلاثة أيام فقط . - وثلاثة أخرى من عندي . ماذا قلت ؟. - لك ما قلت يا مختار. - جزاك الله خيراً !. ويتوجه المختار بالحديث إلى الشيخ زيدان مُوحِياً إليه أنه صنع له معروفاً . - ما رأيك يا أبا بكر، لديك مهلة حتى مساء يوم الجُمُعة القادم ؟. - حسناً ! وليتك تمهلني إلى ما بعد الانتهاء من موسم الحصاد . ساد الصمت قليلاً، فاخترقه صوت العصفوري كمن يُحَدِّث نفسه بصوت مسموع متجاهلاً رغبة الشيخ زيدان . - ولكنْ ، مَنْ يضمن لي حقي عند الشيخ زيدان إذا عاد ونسي ما عليه ؟. ردَّ المختار قائلاً وهو يحيك نسيج الشَّرَك للإيقاع بالشيخ زيدان : - الله سبحانه وتعالى يقول : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " . فما رأيكما ؟. قال الشيخ زيدان مستسلماً : - افعلْ ما ترى يا مختار!. وهنا نظر الشيخ العصفوري إلى المختار نظرة ، لو قُدِّر للشيخ زيدان أن يراها ويفهمها لما وضع نفسه هذا الموضع الذي سيجني منه وأولاده من بعده أشد الألم الذي تضج منه الصدور، وتئن منه النفوس ، ولكنه لم ير ولم يفهم ، فمال إلى مجاراة المختار وموافقة رأيه ، معتقداً أنَّ المختار قد قدَّم حلاً يرضي الطرفين ، الشيء الذي أنطق العصفوري يأمر الكاتب : - إذن ، اكتب عليه صكاً " كومبيالة " بأجل مسمَّى بشهادة المختار. ومال المختار وهمس في أذن الكاتب يلقنه ماذا يكتب ، فَهَزَّ الكاتب رأسه وقد استوعب اللعبة ، فقام فأحضر ورقة ، وخطَّ عليها بقلمه " الكوبيا " ما تفتق عنه دهاؤه ، ثم قرأها على الجميع ، ثم ذيل الصك ببصمة الشيخ زيدان ، وأشهدَ عليه اثنين من الرجال الحاضرين ، ثم أخرج المختار ختمه الدائري ولعقه ثم مَرَّرَ عليه قلم " الكوبيا " ولعق ذيل الورقة وطبع ختمه عليها ، ثم طواها برفق عدة طيات ، وناولها للشيخ العصفوري الذي قال وهو يُجري إمضاءه عليها . - هذا مستند لحفظ الحقوق من الضياع بأمر من الله تعالى . فردد الشيخ زيدان : - ونِعْمَ بالله وكيلاً وحسيباً !. فنهره المختار قائلاً في همس مسموع : - اسكت يا أبا بكر، واحمد الله الذي ألهم الشيخ ، وجعله يوافق على ما انتهينا إليه ، ولا تكثر من كلامك ، لئلا ينقض الشيخ ما اتفقنا عليه . علَّق الشيخ زيدان نظره في وجه المختار وكأنه يتهمه ، ولكنَّ المختار يستمر في همسه : - لا تكن خَوَّاناً يا أبا بكر . يكفي أني وقفت بجانبك فأمهلتك جُمْعة كاملة . فَهَزَّ أبو بكر رأسه مستنكراً دون أن ينطق لسانه بكلمة : شكراً لك . دار الساقي بفناجين القهوة العربية ، وانحنى قليلاً وَصَبَّ للشيخ زيدان قهوته ، وقال بصوت مسموع وهو يُقَدِّم إليه فنجانه : " تفضَّل يا أبا بكر". ثم قال بهمس خافت : " لقد نَصَبُوا لك شَرَكاً فوقعتَ فيه " . تناول الشيخ زيدان فنجانه وهو ينظر في وجه الساقي وكأنه يريد منه تفسيراً ، ولكنَّ المقام لا يسمح . فرشف العصفوري فنجانه ، وقال مخاطباً الشيخ زيدان : - أَعلمُ أنَّ المارس (الحقل) الذي يجاورني من الجهة الشمالية هو لك ، أليس كذلك يا أبا بكر؟. قال الشيخ زيدان في فتور ظاهر: - بلى ! أيها الشيخ الجليل . أخذ العصفوري يتدرَّج في عرض حديثه وكأنه يسوق عصفوراً إلى حَبٍّ يلتقطه لِيَصْفِق عليه الفخ ، ويقع في قبضة الصياد . - أنا يا أبا بكر مقبل على تزويج ولدي جاسر. - مبارك !. - وإني سأبني له داراً . - عامرة بك وبأولادك . - وأحتاج إلى توسعة . - ربنا يزيدك !. - وأريد أن أطرح عليك أمراً يخصُّني ويخصُّك . وجم الشيخ زيدان ، وقال وهو يبسط كفيه على استحياء : - لم أفهم . - ما رأيك أن نتبادل المنفعة ؟. عاد الشيخ زيدان إلى وجومه ، وحلق به خياله بعيداً ، وتبادر إلى ذهنه أنه يريد أن يفاتحه في أمر مصاهرته بزواج ابنه جاسر من ابنته سارة ، فماذا يقول له وقد ضاق مجلسه بين هذا الجمع من الرجال ؟. إنه يأبى أن يزوج ابنته من أحد أبناء العصفوري ، بل إنه يتعالى ويتسامى على العصفوري على الرغم من فارق الثراء والجاه والسلطان ، وكيف له أن يرفض الآن وهو في هذه الضائقة ؟ ! . " سأطلب منه مهلة ثم يكون الرد بعدم الموافقة ، وينتهي الحرج " ، ولكنَّ العصفوري قطع عليه أفكاره وهواجسه : - تعطيني المارس الذي يجاورني ، وأعطيك المارس الغربي الذي تعرفه ، وأُسقِطُ عنك ماليَ عندك من دَيْن ، أو تبيع وأنا المشتري ، فماذا تقول ؟. - الأرض ليست لي وحدي . - ومن يشاركك في ملكيتها ؟. - أولادي سعيد وفيصل وسارة وأولاد ابني المرحوم بكر. - إن كان على الأبناء فلا يحق لهم الاعتراض على أمر يبرمه أبوهم ، لا سيما أنك صاحبها ، وهي مُطَوَّبَة باسمك . ثم إنَّ أرضي التي أبادل بها أكبر من أرضك مساحة وأحسن موقعاً . وسيُرضيهم ذلك . - ولكننا نعشق أرضنا ، ولا نفرط فيها أبداً لا بيعاً ولا مبادلة ، فهي أرض الآباء والأجداد وأرض الأبناء والأحفاد ، وتاريخ العشرة بيننا وبينها يمتد عبر آلاف السنين . توقف المتحدثون عن الكلام حتى دارت فناجين القهوة على الحاضرين . وما هي إلا لحظات حتى خرج العصفوري عن اتزانه قائلاً بشيء من الحزم والعزم على مضاء الأمر ونفاذه . - اسمع يا أبا بكر! سآخذ الأرض يعني سآخذها ، ولكنْ بِودِّي أن ينتهي ذلك باتفاق ، حتى لا تستعصي علينا مشكلة ، وحتى تظل المودة جارية بيننا . - وكيف نتفق ؟. - إما أن تبادل وإما أن تبيع بالسعر الدارج ، ولن أُنقص لك حقاً ، وإني أترك لك هذا الرأي بما تختار. - وإن لم أوافق ؟. - سآخذها بطريقة لا تُرضيك ، حينها لن تجد أرضاً بديلة ، ولن تقبض ثمنًا . - إنك لتستطيع أيها الشيخ الجليل ، فأنت القوي ونحن الضعفاء . ولكن ، إنه لَأَهْوَنُ عليَّ أن تستولي عليها وتأخذها عنوة من أن أبيعها أو أبادل بها غيرها . - ستخسر الأرض ، وقد تخسر ما هو أغلى من الأرض . هَبَّ الشيخ زيدان واقفاً ، وقال وهو يضع عباءته السوداء على كتفه متهيئاً للخروج : - ليس هناك ما هو أغلى من الأرض إلا الشرف الذي يَعْدِلُها ويرجح عنها . وبُهِتَ العصفوري من رد الشيخ زيدان ، ولكن الأخير لم يطل به المقام ، فقال وهو يتجه صوب الباب : - أمَّا عن الدَّيْن ، فسآتيك به قبل أن تنقضي أيام الجُمْعة . بإذنك يا شيخ . ووضع قدميه في نعليه وخرج بخطوات مسرعة تُنَبِّئُ عن الغيظ والغضب . * * * * * صاح الديك ففرض بصياحه فجراً على موت أهل القرية اليومي ، وتعالت ترانيم المؤذن بصوته العذب الذي يذوب رقة إيمانية ، تتهادى مع نسائم الصباح التي تتسلل إلى داخل البيوت تداعب أجفان النائمين فيستيقظون ، ويستيقظ الشيخ زيدان ويتهيأ للصلاة ، فتتعالى ابتهالاته في جنبات الدار، ثم يصلي الفجر وهو مثقل بالأحزان والْهَمِّ الدفين ، فيظهر ذلك على قسمات وجهه العابس . أخذ الشيخ زيدان وزوجه وأبناؤه يتهيأون ليوم عمل شاق ، وخرج جميعهم يحملون المناجل وحبال التغمير وألواح الدرس والمناسيس ، وركبوا عربة يجرها حمار فتيٌّ ، قاصدين تلك الأرض التي أخرجت السنابل تمتلئ بحبوب القمح والشعير والعدس، وأخذت العربة تهوي بهم وتعلو، والشيخ زيدان مطرق في سهوم ، غارق في تفكير عميق . ها هو اليوم الثالث يَمُرُّ، وقد تَمُرُّ الأيام الثلاثة القابلة دون أن يدبر أمره مع الشيخ العصفوري ، وأخذ يتساءل بينما كان حماره يطلق قوائمه للريح ، وتَخُبُّ بالركب عربة قد اشتكت من عمرها المديد الذي أنهك مفاصلها : ماذا يفعل إذا أُخِذَتْ منه الأرض أَخْذَ قوي مقتدر؟! . إنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً مع العصفوري ورجاله ، وإنه لَيَخشَى أن يزج العصفوري بابنه في هذه التهلكة التي تزحف بطيئة من بعيد ، بل إنه لَيَخشَى أيضاً على ابنه أن يزج بنفسه في هذه المهالك ، تدفعه الحَمِيَّة لرد الظلم عن والد عجوز أمام جبار عتيد . فمَن يقدر على مواجهة العصفوري وجبروته ؟. ومن أين يأتيه بالمال وقد عزَّ عليه مطلبه ؟... وما باليد حيلة !. إلى مَنْ يلجأ ليمدَّ له يده للاقتراض ، وهو يعلم أنَّ كثيراً من الأقارب والجيران والمعارف لا يحتكمون على هذا القَدْر من الليرات التي فرضها عليه العصفوري ، وهو يعلم أنَّ كثيراً من أهل القرية يعيش على ما تيسره لهم هذه الأرض من طعام وشراب ، بلا فائض يُدَّخَر. فمنها يأكلون إذا جاعوا ومنها يشربون إذا ظمئوا ، ومنها يلبسون إذا عريت الأجساد . ألا تستحق الأرض عشقاً وتمجيداً من أصحابها أنها تضمهم في حضنها في الحياة الدنيا، وحين يموتون ؟ فعجباً لمن يُفَرِّط فيها ! . وها قد جاء العصفوري يَحْجِل على نزعها منهم ، وخَلْعِهم منها. وتأوه الشيخ زيدان بصوت مسموع ، فسأله ابنه سعيد وقد لَفَته تأوه أبيه : - ما بك يا أبتِ ؟. قال الأب بصوت يخنقه الضيق : - لا شيء ! . - بل هناك شيء ، وإني أراك تُحدِّث نفسك ، كأنَّ هَمَّاً ثقيلاً يجثم عليك . ابتسم الأب على الرغم منه ، وقال : - أراك تهذي يا سعيد . ألا يكفي ما أصاب أباك من هذيان؟. - وماذا عساني أن أفعل والأحمال ثقيلة...؟. - أتشكو الأثقال ، وأنت لم تَرَ منها إلا ما خَفَّ حِمْلُه...؟. - لماذا لم تصحبني معك إلى ديوان العصفوري ؟!. - ما كنت أعلم سبب استدعائي ، فقد أخفى المختار عني ذلك . - المختار !... آه من المختار، لقد جار علينا وتجاوز حدود الجور المألوفة من مخاتير قرى الخليل . - دعك من المختار وانتبه لنفسك . - وماذا ستفعل يا أبي ؟. - سأذهب مساء اليوم إلى دار الشيخ عبد السلام . - تستدين منه ؟. - إما أن أستدين ، وإما أن أُقَدِّم له رهناً . - الشيخ عبد السلام لا يأخذ رهونات . توقف سعيد لحظة وقال بصوت خفيض : - معي سبع ليرات... خذها . - ماذا تقول ؟!. - كنتُ قد ادخرتها من مصروفي لحاجة طارئة . - حسناً ! بعد الحصاد أعيدها إليك . وقالت أمُّ بكر: - وأنا يا أبا بكر ، معي ثلاث ليرات ثمن ما بعته من بيض ودجاج . ابتسم الأب وقال : - هانتْ إن شاء الله !. ولكز حماره ، فأسرع الخُطَى ، فأخذتْ العربة تعلو تارة وتهبط تارة أخرى، فجعلتْ ركابها يتمايلون يميناً وشمالاً من شدة القلقلة ، ومن كثرة ما كانت تَخُضُّهم وهي تجري على أرض ليست ممهدة . وأقبل جميعهم على الزروع التي طالما انتظرت سنابلها قدوم المناجل ، واشتد حرُّ حزيران ، وتصبب العرق فابتلَّت الثياب ، وتعفرت الوجوه بالقش والغبار. والمنجل يحصد ، والحاصدون يغنون أغاني الحصاد ؛ الرجال يغنون ، والنساء يُرَدِّدْنَ تراويدهن ، والصِّبْيَة والصَّبايا يُغَمِّرون ، فيحزمون حصيدهم وينقلونه إلي البيدر. وها هو سعيد لا يسمع إلا صوت المنجل فيزيد من شجوه ، ولا يرى إلا صورة سلمى تطل من بين عيدان القمح لا تبرح خياله ، فتلهب حنينه ويشتعل الحُب في حنايا صدره ، ويشتعل الحُب على شفرة المنجل ، فيقبِّل سنابل القمح قبلات طال انتظارها في لقاء يشتهيه كل العاشقين . ومالت عين الشمس إلى الغروب ، فحان إغماضها ، وآن رجوع الحاصدين إلي بيوتهم ، ويلتقي الشيخ زيدان المختار أبا فوَّاز بعد صلاة العشاء على عتبات مسجد القرية ، ويدور بينهما عتاب متبادل ثم يسأل المختارُ صاحبَه : - ماذا فعلتَ بديون الشيخ العصفوري ؟. - لقد جمعتُ نصف المبلغ تقريباً . - والباقي ؟. - لا أعلم ، فليتك يا مختار تقنعه أن ينتظر حتى الانتهاء من موسم الحصاد . - وهل ستمطر عليك السماء ذهباً وفضة ؟. - كلا ! ولكنْ أستطيع أن أميل على بعض الأقرباء والأصحاب فأستدين منهم ما يكفي للسداد . وهنا حكَّ المختار ذقنه بأصابع يده ، وأطرق قليلاً ، وشعَّ في عينيه بريق أضاء وجهه ، وقال كمن عثر على شيء افتقده : - اسمع يا شيخ زيدان . - نعم !. - سأساعدك ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا. - وكيف ؟. - سأُحَدِّث الشيخ العصفوري أن يؤجل سداد الدَّيْن إلى أن تنتهي من العمل في البيادر. - يا ليت !. - سأجتهد في هذا الأمر، بناء على طلبك أنت . - يعني هل اطمئن ؟. - إن شاء الله ، وعليك أن تذهب إليه يوم الجُمُعة القادم بعد المغرب ، وتعطيه ما لديك من نقود ، واترك الباقي عليَّ . وانفرجت شفتا الحاج زيدان عن ابتسامة الرضا ، وقال : - معروفك على عيني ورأسي يا مختار. - أنا لا أَعِدُك ، إنها محاولة والأمل كبير في أن يستجيب لي العصفوري . انسحبت الابتسامة من على وجه الشيخ زيدان وقال : - وإذا لم يقبل ؟. - أنت لا ترفض . - ماذا تقصد ؟. - لا تتعجل الأمور يا شيخ زيدان ، فأغلب الظن أنه سيستجيب . ومضى المختار أبو فوَّاز وترك الشيخ زيدان حائراً تائهاً بين أمواج أفكاره .