تغاريد حرة.. هذا ما احاول ان أكون عليه.. الشكر لكم    أول فيديو من موقع سقوط طائرة الرئيس الإيراني ووصول فريق الإنقاذ "شاهد"    هادي هيج: الرئاسة أبلغت المبعوث الأممي أن زيارة قحطان قبل أي تفاوض    الداخلية تعلن ضبط أجهزة تشويش طيران أثناء محاولة تهريبها لليمن عبر منفذ صرفيت    عاجل: هجوم صاروخي للحوثيين في خليج عدن وإعلان أمريكي بشأنه    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    شيخ الأزهر يعلق على فقدان الرئيس الإيراني    بن دغر يدعو للتحرك بشأن السياسي محمد قحطان.. وبن عديو: استمرار اختطافه جريمة بحق الوطن    الليغا .. سقوط البطل المتوج ريال مدريد في فخ التعادل وفوز برشلونة بثلاثية    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    قبيل مواجهة البحرين.. المنتخب الوطني يقيم معسكر خارجي في الدمام السعودية    الوزير الزعوري يتفقد سير العمل بمشروع إعادة تأهيل شوارع ومداخل مستشفى المعاقين ومركز العلاج الطبيعي عدن    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    الجامعة العربية: أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    مصدر برلماني: تقرير المبيدات لم يرتق إلى مستوى النقاشات التي دارت في مجلس النواب    عاجل: نجاة أمين مجلس شبوة المحلي ومقتل نجله وشخصان آخران (صور)    إنتر ميامي يتغلب على دي سي يونايتد ويحتفظ بالصدارة    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    وفاة وإصابة عشرة أشخاص من أسرة واحدة بحادث مروري بمأرب    عدن.. وزير الصحة يفتتح ورشة عمل تحديد احتياجات المرافق الصحية    إعلامية الإصلاح تدعو للتفاعل مع حملة للمطالبة بإطلاق المناضل قحطان وجعلها أولوية    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الهجري في وفاة والده    مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    ريبون حريضة يوقع بالمتصدر ويحقق فوز معنوي في كاس حضرموت    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    وكيل قطاع الرياضة يشهد مهرجان عدن الأول للغوص الحر بعدن    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    مصرع عدد من الحوثيين بنيران مسلحي القبائل خلال حملة أمنية في الجوف    من هو اليمني؟    خسائر في صفوف قوات العمالقة عقب هجوم حوثي مباغت في مارب.. واندلاع اشتباكات شرسة    الكشف عن حجم المبالغ التي نهبها الحوثيين من ارصدة مسئولين وتجار مناهضين للانقلاب    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انه ابي (2 – 3)
نشر في الجنوب ميديا يوم 01 - 01 - 2014


اليك ابي أول من علمني تهجي أبجدية الوفاء للوطن
في "حصن ريمان" في "إريان" اسطورة صاغتها الامهات من خيالهن وحفظنها في صدورهن حكينها لبناتهن جيل بعد جيل كي يتممن طقوسها الحياتية.
تقول الحكاية -الاسطورة- إن للحصن حراسا من الجن الصالحين أو "الصلح" بتعبير أمي و جدتي يدعون "جن بني ريحان" هؤلاء الجن يقومون بحراسة اطفال الحصن وحمايتهم من الوقوع من نوافذ البيوت أو من اسوار الحصن الى قاع الوديان السحيقة التي تحيط الحصن من كل الجهات وطوال كل الحياة التي سكن الحصن فيها لم يتعرض اي طفل لخطر الانزلاق الى هاوية الوديان.
ويعود الفضل بذلك للدور الذي يقمن به الأمهات يوميا بالدوران بالمباخر في أرجاء الحصن قبيل صلاة المغرب من كل يوم وذلك أداء لنذرهن لجن "بني ريحان" حراس الحصن الصالحين وعرفانا منهن بدورهم في حماية اطفالهن!
كانت جدتي من المثابرات على ذلك الطقس اليومي، لذا كانت تخفى في صدرها وذهنها صلة روحانية خفية بينها وبين جن بني ريحان الذين حفظوا لها ولدها الوحيد صغيرا ‌"أبي‌" والذي ما زالت تشعر انهم لن يخذلوها بعونها – وهي المثابرة على تأدية الطقوس الخاصة بهم- فى ان يستمروا بحراسة ولدها لا بداخل الحصن فقط ولكن خارجه أيضا.
حملت جدتي هذا الاعتقاد وهي راحلة الى مجهول لا تعرفة لفك أزمتها وولدها وإخراجه من سجن الدولة، الدولة التي يشعر الانسان بالرجفة والخوف لذكرها، فما بال المرء بأرملة لا حول لها ولا قوة تخلى عنها ابناء عمومتها في هذا الموقف الصعب خوفا ان يعتبروا من العصاة الخارجين عن طاعة الدولة الطاغية وجبروتها أن في داخل جدتي أمل كبير بأنهم سينصتون لشكواها هناك في مدينة "إب" وسيطلقون ولدها من سجنه، كانت
قد حملت في داخلها إصراراً ألا تعود إلا معه وقد كان لها ما أرادته.
كيف تصرفت جدتي في ذلك الموقف والى من لجأت هذا ما لم يذكر. لكن ألأرملة عادت يصحبها ابنها واستقبلتها اختها وابنة عمها بكسر البيض ورش الملح زيادة في إكرام بني ريحان -الذين حفظوا اليتيم من ان يصيبه مكروه- يعطرن الهواء بضوع البخور وتعلو زغاريدهن لترتج بصدى الصخور في "حصن ريمان" العالي.
امتنع العم عن تهنئة ابن اخيه بسلامة العودة غضبا منه لموقفه في مقارعة الدولة واعتبر ذلك طيشا أخرق من مراهق صغير يجب ردعه والعودة به الى سدة العقل ولن يكون ذلك إلا بتزويجه وتحميله مسؤولية تشغله عن أي شيء أخر.
دخل العم ذات يوم منزل اخيه المتوفى ليعلن قراره ان "مالك ‌ " يجب ان يتزوج وأنه لن يعيد له عقله ويردعه عن طيشه إلا الزواج.
كان الحفل مفرحاً للأم التي تنتظر ذلك اليوم ورغم ضيق أبي منه في حينه إلا انه قبله رضوخا لرغبة عمه الذي اعتاد ألا يجادله وكشاب بدأ قرار العم يلاقي صداه في نفسه، فبدأ يسترجع في ذاكرتيه صور بنات عمومته ممن كان يلمح خيالهن، يبدو خلف الشبابيك، حين عودته بعد صلاة المغرب من ديوان الحصن في تلك الاثناء كن معظمهن يقمن بمسح زجاج اللمبات في بقايا الضوء المتسلل من الخارج استعدادا لمساء قادم.
كان يفكر ايضا بحديث امه عن صفاتهن ويستبعد من ذهنه بصمات لا يحبها "في شريكة
لحياته" -وهو لفظ كان أبي يطلقه على أمي الى أخر حياته-. وجاء أحد الأيام الذي حملت إليه أمه رغبة عمه بتزويجه من ابنته الثانية "نبيهة" ذهل ابي كيف لم يفكر بها على الاطلاق أجل لقد لمحها في أحد الأيام تغسل اقدامها في بركة الحصن، ربما لأنها لم تكن قد تحجبت بعد لم يفكر بها ما زالت ترتدي "القرقو ‌ ش" الذي لا يخلعنه البنات الا بعد تحجبهن ربما لهذا استبعدها من ذهنه رغم أنه حين لمحها تغسل ساقيها بدت له كأعمدة رخام صغيرة بيضاء ومدورة لكن ذلك لم يقف في ذهنه طويلا حينها لصغر عمر ابنة عمه!
أعلن الابن موافقته على رغبة عمه التي لا يمكن ردها وسعدت الأم بتلك الموافقة التي حملتها الى العم مستبشرة بها فمعنى ذلك أن العم لن يحملها أية نفقات لا قدرة عليها بها ناسية من جور ظلم العم لها أن حق ابنها بين يدي عمه هو المتصرف فيه لا يعطيها منه إلا الفتات وكأنه يتصدق عليها به. لم تذكر جدتي أنها قد تحملت العناء المادي جراء تزويج أبي.
رزق أبي بابنته الأولى "فضلية" كما اسماها عمه جدنا "انس بن مالك" وحزنت إلام ان ابنها لم يرزق بصبي إلا أن أبي كان فرحا بأبوته الأولى ولم يأبه بجنس المولود بل قرر الاحتفاء بذلك بضيافة كل أهل القرية ولأن اللحم هو الأساس في اية احتفالية فلقد قرر أبي ذبح بقرة هي‌ "غزيرة" التي كانت هدية لها من أقها في زواجها~
بقرة امي "الحمراء" والحمار صفة للأبقار البنية اللون. "غزيرة" كانت قد تجاوزت العمر المخصب للابقار رغم رونق لونها واصبحت عجوزا عجفاء وقد وجد أبي في لحمها على الأقل فائدة تذكر بعد أن عرضها للبيع أكثر من مرة فلم يشترها أي كان رغم السعر الزهيد الذي كان ابي يطلبه فيها.
كان أهل القرية والمعارف قد تجمعوا في ديوان الحصن انتظارا للوليمة فذبح بقرة في القرية الصغيرة ليس بالشأن الذي يمكن ان يتركه المرء وحرص أبي ان تصل مقادير من لحم "غزيرة ‌ " الى من عجز عن حضور الوليمة لسبب ما.
روى أبي: أنه كان منشغلا في طقوس الضيافة حين لاحظ آن كل ما في المائدة المفروشة كالعصيد والمرق والخبز قد قضي عليه من قبل المعازيم إلا اللحم فقد ظل كما هو ما عدا قطعا متناثرة هنا وهناك ولكنها ليست عظام كما هو المفترض بعد الأكل ظن أن بدء المعازيم بالخبز والعصيد قد أشبعهم عن اكل اللحم إذ يقدم اللحم عادة في اليمن في نهاية الوليمة، ولم يكتشف ما الأمر إلا حين عاد مساء لتخبره أمه ان الحطب قد ذهب سدى في محاولة طويلة لإنضاج لحم "غزيرة" لكنه لم يأت بنتيجة كانت "غزيرة" حية لكن لحمها كان قد سبقها الى الموت لذا لم يعد فيها من الخلايا الحية ما يؤكل يابسة "كجلمود صخر" لذا لم يستمتع بلحمها أحد من اهل القرية
سواء من كان له اسنان صحيحة أو من فقد اسنانه وحضر وليمة "القاضي مالك" (1) املا في كرم يجعل اللحم يذوب في فمه دون حاجة لمضغ.
إثر ذلك وصل الى أبي شكر اهل القرية على وليمته التي أكرم بها الجميع والتي فاض بها اللحم وبقي
ما بقي لنسور الحصن وجوارحها التي علا صياحها في سطح منزل أبي تلتهم بقايا وليمته الشهيرة والتي أرخ لها معلم القرية وشاعرها القاضى "على الإرياني" بقصيدة عصماء لم يعد في ذهني من ابياتها كما رواها أبي إلا التالي:
شكرا لمالك دسم الكناني
وخلى اللحمة لا يوم ثاني
لحمة غزيرة لحمة
المهاني(2).........
ويستمر الشاعر في وصف دقيق للحى وذقون المعازيم واهتزازها العنيف في محاولات يائسة لبتر ولو قطعة صغيرة من اللحم الذي استعصى على الآكلين فصله عن عظامه.
رزق أبى بابنته الثانية "احلام" التي لم تكمل شهرها الثالث إلا في بطون مدافن القرية لم ترو امي ومثلها أبي عن حزنهما لفقدان ابنتهما وكأن الموت في ذاك الزمن "زمن الفناء" كما اطلق عليه هو الحالة الحقيقية للحياة.
لم يكن الزواج والهجوع في الحصن هو غاية أبى إذ لم تمنعه ابوته ومسؤولياته تجاه أسرته الصغيرة عن مواصلة نشاطاته السياسية السرية رغم بعد الشقة بين قريته "اريان"ومجتمعات الحضر التي تدور فيها النشاطات السياسية السرية. رحل أبي الى عدن التي كانت ترزح تحت الاحتلال آنذاك في مهمة لم يذكرها وبهر أبي بالمظاهر المدنية التي شاهدها وفي مدينة "عدن" دخل دار السينما لأول مرة في حياته وزاد ذهول أبي لذلك بعد أن كان الظن العام ان الراديو هو أعجوبة من اعاجيب ذلك الزمان .
عاد أبي من رحلته الى عدن ليجد انه قد رزق بابنته الثالثة التي قرر أن يطلق عليها اسم "صباح" تيمنا بالفنانة صباح التي شاهد أحد أفلامها في عدن. اصبح أبي يطلق على بناته أسماء تعد غريبة في زمنها لكنها كانت تترجم توجه ذلك الشاب ألقروي وأمانيه بأحلام وصباح جديد لوطنه الذي يكتشف في كل يوم أن اناسه بعيدون تماما في حياتهم عما يمكن تسميته حياة حقيقيه. وهكذا أدرك أن بقاءه حبيسا لسلطة ́عمه في أعالي الحصن ما هو إلا استسلام لظلم لن يسكت عنه فيما لو بقي، فأول ما يجب إن يفعله هو المطالبة بحق ابيه لدى عمه ولإدركه بجشع عمه فذلك سيدخله في صراع معه قد يؤدي الى خصومة ́لا يقبلها إذ ليس مجرد عم له بل هو الاب الذي وجده أمامه في طفولته ونشأته وهو أيضا والد زوجته وجد بناته لذا وجد ان بقاءه في "حصن ريمان" ضرب من الشلل على حد تعبيره "كنت أحس أننى مشلول لو بقيت بالحصن حتى لو بدأت ممارسة القضاء" لأنه لو فعل فسيكون مجرد ظل لعمة.
ولكي ينهي أبي تلك الحالة المتعبة التي لازمته وسيطرت على هواجسه قرر الرحيل الى مدينة تعز لمواصلة دراسته والبحث عن عمل في الوقت نفسه.
في مدينة تعز التحق أبي بالمدرسة العلمية وتخرج منها قاضيا ليرتدي بتخرجه عمامة القضاء ويزيد عليها القفطان والشال الكشمير وهو مظهر لم يتخل عنه إلا بعد الثورة في 1962 .
رقصت حجارة "حصن ريمان" واطلقت الأم الزغاريد لأول مرة في حياتها هي التي لم تزغرد حتى في عرس ولدها حدادا طويلا على زوجها ولكنها فعلتها حين عاد ولدها لاصطحاب أسرته الى حاضرة الدولة الرسولية ومركز عزها لم يكن قرار أبي اعتباطيا باتخاذ تعز موطنا لسكناه هو وأسرته إذ كانت تلك المدينة هي منطلق نضاله الطويل بعد ذلك لتوسطها إليمن وقربها من مدينة عدن التي كانت موطنا ثقافيا وسياسيا
هاماً لكثير من الوطنيين.
ودعت الأم الحصن وأقسمت في دواخلها ألا تعود إليه وكأنها بذلك ترغب بمحو كل الظلم الذي ذاقته في حياتها وكان وصيتها ألا يعود أبي بجثمانها لدفنها كما يفعل الكثير من الأسر ممن يتوفون خارج "حصن اريان" في ذلك الزمن. شعرت الأم وهي ترى ولدها وقد عاد قاضيا فاق البعض من أبناء عمومته بأن صبرها على البؤس والأسى قد وصل الى خاتمته التي رجتها وهي تقدم كل حليها ومدخراتها لولدها كي تجنبه شر اللجوء لعمه أو استجدائه، ها هو نجم ابنها قد صار له مكان عالي ولن تعاني بعد الأن لا فرقة ابنها ولا جور العم القاسي.
رحل أبي بعائلته الى مدينة تعز التي عمل بها عاملا (3) في محكمتها الرئيسة وكآن قد قام باستئجار بيت كبير في وسط المدينة بجانب بستان كبير مليء بأشجار العنب "الباباي" العالية. في ذلك البيت بدأت نشأتنا الأولى وبداية تشكل وعينا‌ "أختي وأنا ‌ " بل ومنه بدأ وعينا بأبي، لا كأب فقط ولكن كمعلم علمنا تهجي حروف الابجدية الاولى من جزء عم(4) ثم كتاب القراءة المصورة لاحقا
( 1 ) القضاة: في اليمن كانت فئة اجتماعية الى جانب كونها
مهنة قانونية لذا يتوارث الأبناء لقب أبائهم حين يصلون طور
البلوغ اظن تلك الفئة بشكلها القديم بدأت بالانقراض.
(2) الكناني تسمية لمنطقة مجاورة لقرية إريان. .
( 3 ) عامل مرتبة قضائية وادارية لمن لم يصل الى المرتبة
العليا للقضاء.
( 4 ) جزء عم كتاب. تقليدي قديم لتعليم اللغة العربية به
نصوص من القرآن والاحاديث الى جانب الابجدية العربية
بتشكيلاتها .
————————————-
إنه أبي (3)
الاهداء:
لك أمي من شاركت أبي رحلته الطويلة بكل عنائها دون ان نسمع أو يسمع هو منك أي شكوى...
صباح مالك الإرياني
تبدأ أبحاث الاطفال وتصوراتهم وتساؤلاتهم في شؤون الكون وألغازه المحيرة في الغالب في عمر مبكر، وقد يجد الطفل قبولاً من قبل الكبار لتلك الاسئلة وقد لا يجد غير اجابات محرفة ومراوغة، ليلجأ الطفل بعد ذلك في بناء عالمه التصويري الخاص والناتج عن احاديث الكبار، أو الطقوس الاجتماعية المتبعة، أو الحكايات والقصص التي يسمعها أو يشاهدها أو يقرؤها. وهكذا أثار لغز «الله» في نفسي تساؤلات كثيرة ظللت اكتمها خوفا من ان يجاب على تساؤلاتي بأنني أنطق بما لا يجب ان أقوله واكتفيت بما اسمعه ان الله يرانا ويسمعنا ويعلم كل ما نفكر به ونتيجة لذلك ثبتت في ذهني صورة بأن الله هو شيخ ملتحي يجلس متربعاً على الأرض في اسفل جبل عال وينظر الى ما حوله كاشفاً كل الاستار الموضوعة بقدرته الإلهية الخارقة.
هذه الصورة التي طبعت في خيالي صغيرة أدركت بعد ذلك ان منشأها كانت صورة أبي بعد انتقالنا الى مدينة «تعز» حين يستيقظ صباحاً بوجهه النحيل الأبيض ولحيته السوداء المشذبة فاتحاً نافذة الغرفة وجالساً متكئاً على الوسادة، الى جانب النافذة ووجهه للخارج يستنشق النسيم الصباحي العذب وواضعاً مسنداً خشبياً يضع عليه القرآن الذي يبدأ صباحه بترتيله بصوت منخفض النبرات لكنه مسموع لمن يجلس في الغرفة، كان ابي في تلك الاثناء قد أدى فرض الفجر وعلى اهبة الخروج الى المحكمة «محكمة تعز» لكنه لم يتناول افطاره ولم يرتد رداءه الرسمي كقاض وهي الجبة والعمامة بل ما زال «بزنته» البيضاء الناصعة البياض.
كان سماعي لترتيل أبي يشعرني بالرهبة والخوف فأحبس انفاسي، إذ كانت أحاسيسي الصغيرة تقول لي ألا اقطع خلوة ابي الهامة فهو ليس معي على الارض بل في البعيد البعيد حيث يسكن الله يتخاطب وإياه بلغة لم اكن افهمها ولكني اعلم انها مقدسة، لكن أمي كانت تقطع تلك الخلوة بإدخالها الفطار لأبي فأقفز من فراشي الذي كنت اختبئ بداخله شاكرة منقذتي التي هي أمي لإنقاذي مما كنت فيه وأعجب لشجاعتها في قطع خلوة أبي وكيفية استجابته لمجيئها بختم الترتيل بقوله «صدق الله العظيم» وطابقاً كتابه، كنت ما زلت في حينها البنت الصغرى لذا كانت أمي تصر ان أنام بجوارها وهكذا ان لم استيقظ قبل ان يبدأ أبي ترتيله فما عليّ إلا الصبر الى ان ينتهي ثم أخرج برأسي من تحت الغطاء.
لم يكن أبي قاسياً في تعامله بل كانت رهبتي تنبع من احساسي ان القرآن هو حديث الله الينا لذا لا يجب ان اقطعه، اما هو «أبي» فقد كان يقوم بدوره كأي أب في زمن معاصر ولم يكن يترك كل شيء لأمي كما يفعل الآباء في ذلك الزمان خاصة ونحن فتيات وبإمكانه توكيل كل المهمة التربوية لأمي، لكنه لم يفعل، وما زلت اذكر ان أمي ذهبت في إحدى المرات لزيارة امها في «اريان» وقررت عدم اصطحابنا معها، اصابتني الحصبة بعد سفر والدتي وأصر ابي ان أظل نائمة في غرفته لكي يقوم بالعناية بي وكان بإمكانه ان يتركني لجدتي.
تلبسني الفضول وابي يستدعينا في احد الايام وبيديه نسختين من «جزء عم» يناولهما لنا أنا واختي شارحاً انه قرر منذ الآن تعليمنا القراءة والكتابة حملنا نسختينا وسط ضحكات أمي وجدتي، إذ اعتقدتا ان أبي قد تجاوز الواقع وهو يقرر تعليم طفلتيه -التي لم تتجاوز كبراهما الخامسة- القراءة والكتابة.
لم يكتف أبي بتعليمنا الآيات الصغيرة من القرآن أو ترتيلها وتهجي الحروف حسب تشكيلها «فتح كسر ضم» آ، إي، أو، با، بي،بو. بل أصبنا بالدهشة والفرح وهو يأتي لنا بكتابين من القراءة المصورة وكم كانت دهشتي بالصور الملون بعضها والتي بداخله وبدأ أبي بتعليمنا القراءة وتهجي الحروف وكتابتها وأصبحت ساعة القيلولة أو بعد الغداء هي ساعة بداية يومنا المدرسي في مدرسة أبي إذ لم يكن هناك مدارس للبنات آنذاك.
كان يحتسي قهوته بعد الغداء ويستدعينا للبدء باليوم الدراسي ولم يكن ينقذنا من حلقة الدرس التي قد تستمر ربما اكثر من ساعتين إلا حضور ضيف واحياناً واثناء تقافزنا ما بين الغرف كان أبي يطلب منا القدوم لإسماع ضيفه المحفوظات التي حفظناها من كتاب القراءة وما زلت احفظ الى الآن بعضها لكثرة ترديدي لها وعلى سبيل المثال:
ياوردة نبتت على
غصن جميل ناضر
ما أنت الا بهجة
ومسرة للناظر
أو
قطتي صغيرة
واسمها نميرة
تظهر المهارة
كي تصيد فارة
كانت جدتي تشفق علينا من حلقات درس العصر في مدرسة أبي وتحاول التدخل لإنقاذنا كان أبي يستجيب لطلبها أحياناً ولا يستجيب له في أحيان كثيرة، كان تعليمنا هو هدفه ولم يكن يأبه لمقولة من حوله بأننا فتيات أو بأننا ما زلنا في عمر صغيرة ومثلما كان صارماً في تعليم ابناء عمومته من الصبيان ممن كانوا يسكنون منزلنا لالتحاقهم بالمدرسة في تعز. كان يقوم بإعداد واجبات منزلية لنا ابنتيه تماماً كما يعد لأولاد عمومتنا والويل لمن لم يقم بواجبه، كان عقاب أبي ان يعض على شفته السفلى ويفتح عينيه على سعتيهما وكانت تلك الطريقة تجعلني أفر من الرعب لأنجز ما لم أقم به وأعود اليه وقد انجزته.
كان أبي يمكث في البيت طويلاً، لم اسمع يوماً انه خارج مثلاً للجلوس بالمقهى أو للتخزين، ليس في تلك الفترة المبكرة فقط بل لاحقاً، إذ لم يقم بتخزين القات إلا في مرات معدودة وربما نتيجة لإلحاح من حوله ومجاملتهم.
كان هناك شيئان يلازمانه اثناء جلوسه كتابه، والراديو. لكن بيتنا بدأ يمتلئ بكثير من الضيوف من خارج العائلة وكان الكثير من أبناء عمومة أبي قد بدؤوا رحلاتهم التعليمية الى مصر وحين كانوا يعودون كانت جل هداياهم كتباً يرصها أبي في غرفته.
وبدأت لحظاته بجانب الراديو تطول بل واصبح يبدأ به يومه صباحاً كما اصبح يغيب كثيراً عن البيت عصراً وربما جانباً من المساء وكان اليوم الذي يأتي فيه صديقا أبي «عوض الحامد» أو العم العزيز «يحيى عبدالرحمن الارياني» يوماً ممتعاً، إذ لم يكن أبي يمنعنا من الدخول وما زلت اتذكر «عوض الحامد» بلباسه الذي لا يشبه لباس أبي لكثرة وقوفي أمامه خطيبة بليغة أصرخ بعلو صوتي.
وفي هذه الفترة كانت رحلة أبي الثانية الى عدن ومنه عرفت لاحقاً ان رحلته كانت من أجل الالتقاء بأعضاء تنظيم «القوميون العرب» الذي بدأ ينتشر في تعز والمناطق الوسطى ولن اتحدث هنا عن الدور الوطني لأبي في تلك المرحلة فقد ذكر العديد منهم ذلك الدور.
ومن عدن جلب لنا أبي أول عروسة لعبة كانت عروستنا اعجوبة الزمان آنذاك فقد بهرنا بها حين نقوم بتدوير دولاب في ظهرها فتتحرك ماشية ومدندنة بموسيقى جميلة ولولهنا بها كنا نخفيها جانباً لنستمر باللعب بعرائس قشر البيض التي كانت جدتي تقوم بصنعها لنا من الاعواد الطويلة ثم تكسيها ببقايا الاقمشة البالية.
وكما ادخل أبي الى حياتنا العروسة الاعجوبة عاد في أحد الايام ليطلب من أمي ان تلبسنا ثيابنا الجديدة إذ سيقوم باصطحابنا الى الاستديو لتصويرنا.
قامت أمي بفك ضفائرنا وإرسال شعورنا بعد ان دهنتها بالزيت لكي تلمع وألبستنا الثياب التي لا نلبسها إلا في الزيارات كما وزعت بيننا حليها الذهبية وزينتنا بعقود المرجان وخرجنا نحن وأبي تمسك كل واحدة منا بيد نتعثر بثيابنا وتنحني رؤوسنا تحت ثقل الحلي التي زينتنا أمي بها «ما زالت هذه الصورة بالبيت».
بدأ أبي يكثر من سفره الى صنعاء والبقاء لفترة طويلة بدوننا ولم نكن نعلم لماذا، كانت الثورة قد قامت وكان لأبي وصحبه دورهم الخاص فيها وكان هذا هو سبب سفره المتكرر، وقيل لنا في أحد الايام اننا سنقوم باللحاق بأبي إلى صنعاء ولكونه لم يستطع المجيئ لاصطحابنا فقد قرر ان نستقل الطائرة التي ستنقلنا من مطار تعز الى صنعاء وفي ذهني الصغير خزنت صورة المطار الأجرد المترب والذي يبرك في وسطه هيكل ضخم رمادي اللون لا أتذكر انني لاحظت فتحات النوافذ آنذاك لم أكن خائفة من الطيارة التي لا أتذكر كيف طارت بنا وهكذا كانت اعجوبة اخرى أدخلها أبي في حياتنا إذ كانت هي الوسيلة التي ستحملنا اليه في صنعاء.
عجبت للصورة التي استقبلنا بها أبي، لم يكن يرتدي القميص والعمامة كعادته سابقاً بل يرتدي الزنة والكوت «الجاكيت» وحتى الكوفية لم تكن على رأسه كعادته حيث كان لأحيان كثيرة يرتديها في مشاويره الخاصة والتي لا تمت لعمله في المحكمة بصلة، لم يعد شعر أبي حليقاً بل كان قد طال وقد قام بتمشيطه على جنب وبالطبع لم نكن نعلم حينها سر هذا التحول، لم نكن نعلم أن شكل أبي ما هو إلا نتيجة للفكر الذي أصبح يحمله علنا بالتطور والتحديث وان الشكل التقليدي للملابس والعمامة بالذات انتهت وتغيرت بانتهاء وتغير شكل الحكم من «المملكة المتوكلية اليمنية» الى «الجمهورية العربية اليمنية».
هوامش:
غالباً ما يكون الجلوس في اليمن في أرضية الغرف وتوضع مساند في الغرفة بشكل دائري تسمى وسائدالى جانب متاكئ خاصة.
الزنة اليمنية هي الجلباب الطويل الابيض الذي يرتديه الرجال في شبه الجزيرة العربية وللرجال في اليمن ازياء عديدة حسب المناطق.
في أحاديث كثيرة للوطنيين ومنهم الوالد «سعيد الجناحي» الذي غطى في معظم احاديثه ومقالاته الصحفية حركة القوميين العرب التي انضم أبي اليها في تلك الفترة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات ويعد كتابه «الحركة الوطنية اليمنية من الثورة الى الوحدة» مرجع هام للباحثين عن اصول الحركة الوطنية اليمنية شمالاً وجنوباً .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.