أفيد أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قالت للرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد التحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن هذا الأخير فقد إحساسه بالواقع، وهو "في عالم آخر". وأدلى وزير الخارجية الأميركي جون كيري بدلوه في نظرية الجنون تلك، فأشار إلى أن بوتين كان يستدعي أسلوب نابليون قائلا: "في القرن الواحد والعشرين لا يجري التصرف على نمط القرن التاسع عشر بغزو بلاد أخرى، بناء على ذريعة ملفقة تماما". والآن بعد أن استولى بوتين على شبه جزيرة القرم من دون اطلاق رصاصة واحدة، و95% من الناخبين في القرم صوتوا لجمع شملهم مع روسيا، فهل لا تزال قرارات بوتين تبدو غير عقلانية؟ ألم يكن متوقعا بان تتحرك روسيا، القوة العظمى التي شهدت لتوها انتزاع جارتها من فلكها عن طريق انقلاب مدعوم من الولاياتالمتحدة في كييف، من أجل حماية موقع استراتيجي لها على البحر الأسود ظل في قبضتها لأكثر من قرنين من الزمن؟ الدوافع المحتملة يشير مستشار الأمن القومي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي إلى أن بوتين في طريقه لإعادة تأسيس الإمبراطورية القيصرية، ويقول آخرون إن بوتين يرغب في إعادة تشكيل الاتحاد السوفييتي. لكن لماذا تريد روسيا التي تنزف في حروب انفصالية على يد متشددين في أقاليم الشيشان وداغستان وانغوشيا شمال القوقاز، وأن تغزو كازاخستان العملاقة وتعيد ضمها، أو أي جمهورية مسلمة أخرى من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابقة، مما يكفل تدخل المتشددين والحروب التي لا نهاية لها. إذا كنا نحن الأميركيين نريد الخروج من أفغانستان، فلماذا يرغب بوتين في العودة إلى أوزبكستان؟ ولماذا قد يرغب بضم غرب أوكرانيا حيث الكراهية لروسيا تعود إلى أيام المجاعة القسرية لعهد ستالين؟ غزو واحتلال أوكرانيا سيعني بالنسبة لموسكو تكاليف لا نهاية لها من الدماء والأموال والعداوة لأوروبا والعداء للولايات المتحدة. لكن إذا لم يكن بوتين إمبرياليا روسيا يمضي قدما في إعادة بناء الحكم السوفييتي على أنقاض الشعوب غير الروسية، فمن هو إذن؟ في تقدير كاتب هذه السطور، فإن فلاديمير بوتين ذو نزعة عرقية قومية، وهو يرى نفسه حامي روسيا، وينظر إلى الروس في الخارج بالطريقة نفسها التي ينظر فيها الكثير من القوميين إلى بني جلدتهم في الخارج بوصفهم أشخاصا يشكل أمنهم مصدر قلق مشروع لهم. فلننظر إلى العالم الذي رآه بوتين عندما تولى السلطة من الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين بعد عقد من حكم هذا الأخير. رأى روسيا الأم وقد تعرضت للنهب من حكم الأقلية بتحريض من رأسماليين مقربين للغرب، بمن في ذلك الأميركيين. ورأى الملايين من الروس وقد تركوا وتقطعت بهم السبل من دول البلطيق إلى كازاخستان. ورأى الولاياتالمتحدة التي خدعت روسيا بتعهدها بعدم نقل حلف شمالي الأطلسي "ناتو" إلى أوروبا الوسطى، إذا خرج الجيش الأحمر منها، ومن ثم استغلال انسحاب روسيا لاستقدام "ناتو" إلى شرفتها الأمامية. ولو تسنى للمحافظين الجدد أن ينجوا بفعلتهم، ليس فقط دول حلف وارسو في أوروبا الوسطى والشرقية، بل خمس جمهوريات من 15 من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، بما في ذلك أوكرانيا وجورجيا كانت دخلت في حلف "ناتو"، الذي وجد لاحتواء روسيا ومحاربتها إذا لزم الأمر. وما هي الفوائد التي جنيت من وجود إستونيا ولاتفيا حلفاء لحلف "ناتو" بما يبرر خسارة روسيا التي كان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان قد جعلها صديقا وشريكا في نهاية الحرب الباردة؟ خسرنا روسيا، لكن حصلنا على رومانيا كحليف؟ فمن هو غير العقلاني هنا؟ ونحن الأميركيين الذين أعلنا نصف الكرة الأرضية الغربي بأسره خارج حدود الإمبراطوريات الأوروبية مع مبدأ مونرو - "الزموا جانبكم من المحيط الأطلسي"! ألا نستطيع تفهم كيف يمكن أن يكون رد فعل قومي روسي مثل بوتين على وجود طائرات "إف-16" وصواريخ بالستية أميركية في شرق بحر البلطيق؟ وأميركا وروسيا في مسار تصادمي اليوم حول قضية لا يوجد رئيس أميركي من أيام الحرب الباردة من ترومان إلى ريغان يعتقد أن لها علاقة بنا، وأي راية سترفرف فوق أجزاء من أوكرانيا؟ إذا رغب الناس في شرق أوكرانيا أن يضفوا طابعا رسميا على روابطهم التاريخية والثقافية والعرقية بروسيا، وإذا رغب السكان في غرب أوكرانيا بقطع كل العلاقات مع موسكو والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فلماذا لا يجري حل هذا الموضوع سياسيا ودبلوماسيا وديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع؟ خسارة كبيرة في عام 1999، قصفت الولاياتالمتحدة صربيا لمدة 78 يوما متجاهلة احتجاجات روسيا التي توجهت إلى الحرب من أجل صربيا في عام 1914، واستغلت قرارا لمجلس الأمن يسمح لها بالذهاب لمساعدة الليبيين تحت التهديد في بنغازي لإسقاط النظام الليبي، ومنحت مساعدات عسكرية لثوار سوريا، ودعت لتنحية النظام السوري الذي كان حليفا لروسيا على مدى عقود. وكان السفير السابق إلى موسكو جاك ماتلوك، قد كتب في نهاية الحرب الباردة، بان 80% من سكان روسيا كان لديهم رأي إيجابي بالولاياتالمتحدة الأميركية، لكن بعد ذلك بعقد من الزمن، أصبح 80% من الروس مناهضين للولايات المتحدة. كان هذا قبل وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تصل شعبيته حاليا إلى نسبة 72%، لأنه تصدى للأميركيين، ورد على انقلابهم في كييف بانقلاب مضاد في شبه جزيرة القرم. البيان الاماراتية