أقلبُ البطاقات البريدية القديمة وأوراقه التي احتفظت بها بين أغلى ما لدي.. فتتناثر صور الزمن الجميل من بين طيات الأوراق المصفرة.. أتأمل بحنان.. خطه الجميل.. الذي طالما سحرني.. تتدفق من انحناءات حروفه شلالات الذكريات.. يجتاحني الحنين والحزن.. منذ رحل.. وأنا أخبئه في مكان ما داخلي.. أحاول ألا أخرجه أبداً.. كيلا أراه طيفا يبدد وهمي بأنه ما زال موجوداً.. وأنه سيكون هناك.. حين أقتحم غرفته ضاحكة.. أداعبه "بشقاوة" طالما أحبها.. أخبره عن أشياء كثيرة.. يصغي بصبر وحنان لثرثرتي.. يختلق سؤالاً هنا وتعليقاً هناك، ليوهمني أنها تهمه.. شؤوني الصغيرة. منذ غاب.. وأنا أبحث عن حل لغصة تسكنني.. ويزداد يقيني أنها سترافقني حتى آخر العمر.. لم أتقبل أبداً.. الفكرة المرعبة لرحيله عن حياتي في لحظة.. لحظة واحدة.. يقف فيها القلب الذي احتوانا جميعاً.. ويُوارى التراب.. بدلا من سريره، ملجأي في ليالي الشتاء العاصفة.. حين كان يخيفني هزيم الرعد- أو أتظاهر بذلك- ليحتويني في حضنه الدافئ.. سبع سنين عجاف مرت منذ ذلك اليوم الذي غيّر حياتي، تلك الليلة الحزينة التي لا أنساها من أواخر رمضان.. ولأنني كنت الأثيرة لديه.. ولأنه كان صديقي، فقد كان مألوفاً أن أمرض كلما سافر وأن أشفى حالما يعود، و.. مرضت فعلا بعد رحيله.. لعدة أشهر انتظرت في اللا وعي عودته، حتى أنقذتني نظرات الخوف والحزن في عيون من أحبهم، وإذ قررت أن أشفى.. فإنني لم أقتنع أبدا أنه لن يعود.. وكم من مرة بعدها عاد.. وعانقته وبكيت على صدره.. في أحلامي.. وكم مرة رفعت فيها سماعة الهاتف وهممت بطلبه.. وكم مرة فكرت فيما سأهديه في عودتي من أسفاري الكثيرة التي لم تفلح في إبعاده عن روحي شبراً واحداً... لم أجرؤ أبدا على زيارة قبره.. في داخلي قناعة راسخة أنه ليس هناك، بل هو هنا معي على الدوام.. أقسم أنه معي.. حتى حين لا أفكر بذلك. أبي.. رحيلك زادك اقترابا.. وكلما مر يوم تضاعف حنيني إليك وتنامت حاجتي لك.. أفتقدك حقاً.. وأشعر أنك تتأمل ما أخطه الآن، وترمقني كعادتك بفيض حنان.. بزهو فنان أمام لوحته المفضلة.. ستحيا أبداً في أعماقي.. جرحا لا يلتئم.. وسيبقى أبداً حنيني إليك..