دعوني أعود قليلاً إلى ملف الذكريات… وهو ما دفعني إلى قول ما قلته. كنت مفتوناً بشخص وشخصية المهندس أحمد محمد الآنسي، برصيده الطويل من الورع والتقوى. الرجل الذي لا يسجد للزعماء واصحاب البلاط، بل ينحني ليقبل أيادي أولئك الذين يكسبون لقمتهم بشرف… ويدعو للفقير الذي له رب كريم… ويبتسم في وجوه المبدعين، والصنائعيين، والعمال، والفلاحين الذين يغردون بالأناشيد كالعصافير في سعادة ما أجمل العمل. فتماهيت معه سلوكاً وفكراً ولغة وأسلوباً ومعنى، وغدى ذات يوم صوت الضمير في وجداني، ومرجعية للنقاء الجميل الذي يعود إليه الناس كلما علت واستشرت ثقافة النفاق والتزييف. في السابق كنت احلم أن يمسك الآنسي عصاته بقوّة، وهو يحمل داخله براكين النبي موسى، ويذهب بها الى رب القصر، وسحرة البلاط... أن يلتحف رداء غاندي وزهد غاندي، ولابأس أن يكون ديكاً كمانديللا، صاحب مشروع، أي مشروع... من النوع الذي يسمن ويغني من جوع، أي أن يكون صاحب رسالة... أن يتبنى أي شيء من ذوات النفع والفائدة، فترفع صوره، وتختلط لافتات التأييد لمشروعه بصور سيد القصر، فتظهر التناقضات وتسقط الأقنعة عن حياة البؤس والإستغلال، حياة الفقر والثراء، حياة الذل والإباء. وبذا، يكون المهندس الآنسي، بخلقه العظيم، ملهم اليمن التي يجب أن تولد من جديد، بعد عقود عجاف من الجمود والتململ. لا انكر، أن جزء من صورة المهندس الآنسي الأب في مخيالي كانت وهميّة، كنت امني نفسي بها ليس أكثر، بل من فرط لذة حلم اليقظة الذي كنت اكرر شريطه، كنت ارفض ان افتح عيني على بعض الحقائق، لإرتباطه بمرحلة تغيير يمكن ان تبزغ شمسها. بمعزل عن أي توظيف، ظليت لعقود اُصر على أن نموذج الآنسي + سجله = يساوي غاندي اليمن... معادلة يجب أن تبقى وأن تُرعى، كي تفضح ما نراه اليوم من صور "البرع" الفاسد الذي يخون جوهر الحياة، وضد ما يروج له حثالات من حالات الهتاف الزائف التي تكرس العبودية للعسكري الحاكم، وترهن مصير شعب ووطن بمصيره ومصالح أهل قريته! آه، شريط الذكريات يلف سريعاً... وذات يوم أتحفني صديق بإتصال، فذكر لي أن إسم أحمد الآنسي قد استقر على منصب مكافحة، لا أدري ماذا سمعت، كانت حاجة مثل مكافحة وفساد - ظناً منه أنه بذلك الخبر سوف يطربني، لمعرفته بالمكانة التي يحتلها إسمه في قلبي. بالنسبة لي، كنت أظن الرجل يسخر. فكان ردي الطبيعي هادئاً وتلقائياً، في اعتقادي أن الأستاذ احمد الآنسي نفسه لا يمكنه ان يدعي ذلك الفخر، ليس تواضعاً أو ترفعاً، ولكن لأنه حسب معرفتي ليس مهتماً بأن يكون محمد خميس الثاني، رغم عدم جواز المقارنة، هكذا كان ردي جزافاً. فالأستاذ والعالم والمهندس الآنسي لم تظهر عليه ملامح الإهتمام بمجال المكافحات، من أي نوع، في أي مرحلة من مراحل حياته، فعلقت ان الرجل اكبر من ذلك، وهو لا يحتاج إلى مفسدة هذا المنصب المكرر في أجهزة الدولة بضعة عشر مرة، وفي ظل نظام حاضن ومربي للفساد، بل أن رأس النظام المرشح له هو الفساد بعينه! لاحقاً، أمعنت النظر في التفاصيل جيداً، فوجدت أن الأقدار قد ادخرت له من الرزايا ما تنوء بحمله الجبال، وأن الأمر قد قضي وبُت فيه، وكأن ما قدّمه ليوم الحساب مُهدد بالذهاب أدراج الرياح، بعد أن حصل على صفقة محترمة مقابل دور ثانوي للإستهلاك الآني، لاأقل ولاأكثر، بشكل دفعني للتساؤل هل أنا في حلم أم في علم!؟ سراً، ردي الأخير كان بكل بساطة: فاشل بإذن الله...! لا أعرف حتى اللحظة، على إثر التفطّن لجوهر الموضوع، ما إذا كانت حالة الغيبوبة التي يعيشها قد انقشعت، وهل دبّت في نفسه مشاعر الإثم والحيرة بعد؟... فمن يعمل تحت مظلة الفساد، - بأي يافطة -، ومهما حاولوا أن يقنعوا أنفسهم… كاذبون حتى لو عملوا بلا أجر، فهم يعلمون أن ما لايسرق مباشرة، يمكن شرعنة تحويله الى مزايا وميزانيات، وبدلات ونثريات، وهبات ومركبات، ومنح ودفعيات، ومؤتمرات وسفريات، واُعطيات وترقيات، وتمريرات وتسهيلات، ومكرمات وبركات، وأوامر وبرقيات، ودعم وربما أوسمة من رعاة البقر ومن رعاة الفساد أنفسهم. لو كان الآنسي مجاهداً بحق، ولو لم يفسده إطراء المنافقين وتزلف المتزلفين بحكم توزيره لأكثر من نصف عمره، ولو لم يكن - مع إحترامي - أنانياً دون أن يشعر وفي حالة إنفصام عن الواقع، ولو لم يكن مكتفياً بمسوح الرهبنة، لمثّل لقطاع كبير من الناس أحد رجال الخلاص من ذلك الفراغ الرهيب الذي يلف أرجاء اليمن. لأن أخطر حالات الذهن إفراغ صاحبه من التفعيل الإيجابي - وما نراه اليوم من تفكك في اليمن، وقتل، وقطع للطرق في الجنوب والشمال ليس إلاّ بسبب الفراغ. فراغ أشبه بالتعذيب البطيء الذي كان يمارس في سجون الصين، بوضع كأس شرب سجين الرأي تحت أنبوب يقطُر كل دقيقة قطرة، وفي فترات انتظار تلك القطرات، في لظى حر القبو وتبخر جُل القطرات، وفي عراكه المستمر مع الأنبوب والكأس، يُصاب السجين بالجنون. لا حصانة لشخص عند الناس لمجرد أنه يتعامل مع بضاعة إسمها "الفساد". حيث لا يعفيه ذلك من المسؤولية القانونية والأخلاقية، فهو يراهن كما رأس النظام، على أن الآلام تموت بالتقادم لأن ذاكرتنا قصيرة، وأن الرقص على أوجاع البشر يمكن أن تنسى مع قدوم "فذلكة" جديدة، بينما يظل المواطن هو الفريسة التي تنحر في محراب حروب وهمية مع طواحين الهواء. وفي حين لا يجوز الخلط بين الشخصية الإعتبارية لمسؤول وظيفة عامة وتصويرها في إطار شخصي، لكن ما أتحدث به لا يدور على خلاف عائلي يتعلق بإرث، بل عن شأن عام، وفشل عام، وفجيعة عامة... وإلاّ ماذا بعد الأرزاق بيد الله، والأعمار بيد الله، ولن يصيبنا إلاّ ماكتب الله لنا، وكلام إيمان تسمعه كثيراً لتكتشف بأن ذلك كان ليس دقيقاً أبداً...، بل كان مزحة ثقيلة. عندها، يمكنكم تسمية رد فعل المرء ماشئتم، صدمة، خيبة أمل، فقدان الثقة بمثل أعلى، أو إحساس الصديق بالخديعة. المصدر أونلاين